يُعدّ يحيي يخلف واحدا من أشهر كتاب الجيل الثاني من الروائيين الفلسطينيين،بعد مرحلة غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، وقد طرح يخلف اسمه في عالم الرواية الفلسطينية والعربية بقوة منذ روايته المهمّة "نجران تحت الصفر"التي تُعدّ واحدة من أشهر الروايات العربية.أما روايته الأخيرة "راكب اريح" (الصادرة عن دار الشروق، عمّان، 2016)، فتتكوّن من 33 فصلا سرديا مرقّما، عدا الفصل الأول الذي يحمل عنوان "يافا 1795"، حيث تدور أحدث الراوية حول الشاب يوسف أغابن أحمد آغا التاجر اليافاوي الذي يمتاز بالسرعة وخفة الحركة في التعامل مع المواقف الحرجة، كأنه جِنّي أو "راكب الريح"؛ وهو ابن مدينة ياف الصامدة في وجه الاحتلال الفرنساوي في نهاية القرن التاسع عشر، والتي استطاعت لفظ بقايا الاحتلال العثماني الغاشم الذي جثم علي أنفاس المنطقة العربية بأسرها. بزغ نجم يوسف وبدت عليه علامات الفتوّة وخفّة الحركة منذ صغره، حيث كان يحب المغامرة، وكان يقفز يوميا من أعلي برج سور يافا باتجاه البحر، كما بدت عليه علامات حب الفنون وعشق الخط العربي وفنون الرسم، كما كان شابا وسيما للغاية، وله مع النساء مغامرات ومغامرات. تجمع الرواية بين الأسطورة والخيال، وتمزج بين الواقع والتاريخ؛ الأمر الذي يؤكد أن فلسطين تتعرّض دوما للغزو والعدوان والتدمير بغطرسة القوة، لكنّ لأهلها قدرات خاصةفي مواجهة العدوان والنهوض من جديد.إنها رواية "يوسف" الذي يستمد جماله وفتوّته من اسم نبيّ الله يوسف بن يعقوب. لكنّ يوسف آغا، هنا في فضاء الرواية، شخصية متخيّلة تخرج من رحم أساطير يافا وبحرها وأسوارها وأسواقها. ففي الوقت الذي كانت يافا لؤلؤة البحر المتوسط ونافذة الشرق علي الغرب، كان يوسف لؤلؤة المدينة وقمرها وفتي ذلك الزمان، في روحه فن ورقش ورسم وخطوط وغواية وعشق، وفي جسده نار وطاقة جبّارة، كان رجلا يُبحر بحثًا عن الحقيقة والحكمة وأسرار الحياة، يتنقّل عبر الأمكنة مثقلاّ بالحكايات والنزوات والمغامرات،حاملاّ في قلبه صورة مدينته الأثيرة. للمرأة حضور طاغٍ عبر مشاهد الرواية وأحداثها المتواترة، بداية بأم يوسف "بهنانة"، ومحبوبة يوسف "العيطموس/ المرأة كاملة الجمال"، ووصيفتها "أسرار"، ثم المرأة ذات السنّ الذهبية المسكونة بالشياطين والأبالسة، ثم "فيدا" المرأة الهندية ذات النقطة الحمراء علي الجبين، ثم "إيمي" سلطانة الشرق، وابنة عمها "ماري روز" إمبراطورة الغرب،.. وغيرهن كثيرات، ممّن لهن دور مركزي في الرواية. إنها ليست رواية تاريخيّة محض، رغم كونها منشغلة بقضية تاريخية، لكنّ إسقاطاتها ورموزها عصرية تماما. لقد سعت الرواية إلي تمثيل عالم سردي يكشف عن استراتيجيات الشعوب المستعمَرة »olonized في التعامل مع المستعمِر»olonizer الغاشم. فالرواية قراءة سردية وثقافية لحقبة تاريخية تنتمي إلي القرن التاسع عشر، لكنها لا تخلو من إسقاطات كثيرة علي الزمن الحاضر. إنها مرويّة يوسف بعد تأملاته وتساؤلاته، ورسالة الحكيم الهندي أيضا التي تمثّلت في إمكان إيصال حكمة الشرق إلي الغرب من أجل التعايش والسلام والمساواة واحترام كرامة الإنسان، بدلا من الحروب والصراعات. لقد كان يوسف يؤمن -مثله مثل باقي شخصيات الرواية- بأنه لابد أن يموت الطغاة في نهاية المطاف، لكنّ"الحكمة" و"التنوير" لا يموتان، كما أن أهل "يافا" -باعتبارها تمثيلاّ للمدينة الباسلة- سوف ينتصرون علي العدوان، وسينهضون من جديد؛ إذ الشعوب لا تموت أبدا. "راكب الريح" أشبه بفسيفساء لغوية متخمة بالأوصاف والنعوت والأسماء والأشياء بدقة إثنوجرافية، انحرفت بمسار الرواية في بعض المواضع، وجعلتها أقرب إلي مدونة تاريخية تسجيلية، ومنها أيضا تضمّن الرواية وصفا إثنوجرافيا مطوّلا للحيوانات والطيور وسلالاتها.أما عن الصور السردية، فتبقي صورة "يافا" في مركز الرواية، جنبا إلي جنب صوة العيطموس بوصفها المرأة فائقة الجمال والأنوثة. وفي نهاية الرواية، يسعي يوسف سعيا حثيثا إلي شفاء العيطموس، باعتبار شفائها موازيا لشفاء المدينة كلها مما ألمَّ بها من مرض، أملا في حياة جديدة مملوءة بالحرية، وكأن المؤلف المضمر -رغم سوداوية المشهد ما بين ماضٍ قاتم وحاضر ليس أقل قتامة- يُبقي علي بقعة ضوء، يُمرّرها إلي الفلسطينيين المعاصرين بضرورة مواصلة المقاومة، ففي كل شعب مناضل، باحث عن الحرية، ثمة "يوسف" ما، أو "راكب الريح" الآتي بإكليل النصر.