يقترح كتاب "أنا العزير، خطيئة التصورات" لفردوس عبد الرحمن (دار روافد 2016) مداخل عدة لقراءته، ما بين المدخل السيرذاتي، الذي يراهن علي كشف ملامح السيرة الذاتية فيه، فالكاتبة وهي تغوص في تجربتها النوعية تضع علي مائدة البحث حياتها وسيرتها الإنسانية والأدبية كشاعرة، والإعلامية كمقدمة برامج، وتقوم بوعي حاد بتشريح هذه الذوات وتحليلها والتوقف أمامها طويلا في لغة تأملية تمتلك وعيها الخاص. كما يصلح المدخل الأنطولوجي لقراءة هذا العمل المتفرد، فهو كتاب يبحث في مفهوم الوجود، لكن ليس الوجود في معناه العام، بل الوجود المتعين للذات، الذات بوصفها موضوعا للبحث والتحليل والقراءة والتعمق فيها، الذات بوصفها محور الوجود ومركزيته. كذلك يصلح المدخل الأبستمولوجي أو المعرفي كمدخل للقراءة، فهي كتابة تنفتح علي الكثير من المعارف الإنسانية، ما بين الفلسفي والأنثربولوجي والميثيولوجي والنفسي والأدبي. وسوف أحاول في هذه القراءة أن أجمع ملامح المداخل الثالثة علِّي أحيط ببعض ما في هذا الكتاب النوعي الذي يخاطب في الإنسان مساحات عدة تجمع بين الوعي واللاوعي، لأن الكاتبة اتخذت من ذاتها مثالا يمكن أن تقيس عليه الذوات الإنسانية جميعها. من منا توقف أمام ذاته وحاول كتابة تاريخ الألم والوجع، تاريخ الفجيعة، ذلك التاريخ السري للذات الذي نخشي أن نكشفه أمام الآخر، ربما خوفا من انتقاد الآخر أو تجاهله لألمنا الخاص أو ربما خوفا من أن يرانا ذلك الآخر من قرب ربما لا نفضله؟ إن الذات التي تواجهنا في هذا النص هي ذات وقعت في بئر عميق، غاصت داخل آخر نقطة في هذا البئر، حتي أن من يراها يعتقد أنها قد ماتت، رغم أنها تأكل وتشرب وتتغوط وتنام، وربما تحتضن طفلتها الصغيرة التي تربَّت غصبا عنها في محيط هذا الموت، وحين واجهت هذه الذات العالم وشعرت بالغضب والغيظ مرة فرحت فرحا عارما، ليس فرح التواصل أو المحبة أو الدفء، إنما فرح اكتشاف أنها ما تزال تحيا، ما تزال تشعر بالغيظ أو بالغضب لا يهم، المهم أن ثمة شعور ما جعلها تتأكد أنها علي قيد الحياة بعد. أحيانا حينما نفيق من صدمة نفسية عنيفة نميل إلي أن نضرب وجهنا أو نقرص أنفسنا في أي موضع من الجسد لنتأكد أننا ما نزال علي قيد الحياة، هكذا فعلت الذات المبدعة التي يمكن لنا أن نطلق عليها بشكل مجازي" فردوس عبد الرحمن" انطلاقا من المدخل الذي تحدثنا عنه في البدء، وهو المدخل السيري: "ظللت طوال عمري أعاني من العدمية الاكتئاب، لماذا أحببت هذا، ووقعت في غرام ذاك، لماذا فقدت وجودي ووقعت في موت حقيقي. نعم موت حقيقي كنت لا أشعر فيه بالسعادة ولا الحزن أو القلق أو الهمة لفعل أي شئ، كنت أشعر بروحي مثلجة وزرقاء. جثة مخيفة أحملها وأمضي. ضحكتُ علي كل الناس وأفهمتهم أنني حية أرزق. ولأنه كان لي يدان وقدمان وعينان وشعر علي رأسي ظنوا أنني أنثي ومن الممكن الوقوع في غرامها. لديّ الآن رغبة عنيفة في الاعتذار لكل من قابلني في ذلك التوقيت والاعتراف أنني خدعتهم جميعا. فلم أكن أنثي ولا أي أحد علي الإطلاق. لم أكن موجودة أصلاً. عاشوا جميعا في وهم". لكن ومع كل هذه الفجائع التي تواجه الذات، لا تكتب وجعها بشكل غنائي، بل تكتبه بشكل يبدو حياديا، وكأنها تمتلك مشرط جراح قاسي القلب يشرح جثة ما وهو يدندن أو يُشعِل سيجارة، وربما تناثر رماد سيجارته علي هذه الجثة. هكذا فعلت فردوس عبد الرحمن بذات برود الأعصاب وقوتها، شرحت ذاتها ومن وراء هذه الذات شرحت النفس الإنسانية في عموميتها"إذا كنت (الأنا) كله فهو أن أكون الآخرين كلهم أو لاشئ. لماذا " العُزير" نقطة البداية والعتبة الرئيسية بحسب جيرار جينت ؟ العزير هو ذلك الرجل الذي تجرأ علي السؤال، سأل سؤال المعرفة :" أني يُحيي هذه الله بعد موتها" ولأنه سأل، فوجب أن يعرف، أماته الله مائة عام، ثم أحياه، وقال له" انظر إلي طعامك لم يتسنه". إذن هي ضريبة السؤال وضريبة المعرفة التي أرادتها الذات. وكما قلت سابقا الكتاب ينفتح علي معارف وخبرات عديدة، والسؤال الفلسفي ليس واحداً" يقول نيتشة:إن التلفظ بعبارة أحبك تقع في خانة الإنفاق، ومن يريد التلفظ بها؟(الغنائيون، الكاذبون والمتشردون) هم مستهلكو الكلام، إنهم ينفقون عبارة أحبك كما لو كانت سفيهة ووضيعة ومستعادة من مكان ما"، فعلم النفس والتحليل النفسي كانا جملة محورية في الكتاب، عبر قراءات الكاتبة وقدرتها علي التحليل من ناحية، وعبر دور الدكتور يحيي جعفر الذي يشاركها برنامج" علي ضفاف الحياة" الذي تقدمه عبر موجات إذاعة "البرنامج الثقافي" وثالثا عبر القصص التي ترد إلي البرنامج من مستمعين ومستمعات، وتقوم الكاتبة والطبيب النفسي بتحليلها في محاولة لرتق الجروح، ليس رتق جروح المستمعين فقط، بل جروح الكاتبة ذاتها التي تحمل فجيعتها أنّي ذهبت. الجزء الثاني من العنوان، أو ما نسميه العنوان الفرعي هو"خطيئة التصورات"، هل التصورات أو الصور الذهنية التي نصنعها عن العالم ونصدقها خطيئة؟ هل نقع جميعا في فخ هذه التصورات عن أنفسنا وعن الآخرين؟ هل سعينا إلي القبول، أن ننال قبول الآخرين يُمكِنُنا أن نحصل علي لحظات من الرضا عن ذواتنا؟"يبدأ إدراك الفرد لوجوده والتأكد منه، بأن يًقبَل أولا بشكل جيد، تحتضنه الأم وترعاه وتمده باحتياجاته ويري السرور في عينها لأنه موجود. إن لم يحدث هذا للطفل يظل يشعر برعشة في وجوده طوال حياته، تلك الرعشة التي تؤدي به إلي الشك في نفسه أولا ثم الشك في جميع من حوله". هل يمكن أن نكون ذواتا فارغة ويجب أن نبحث عما يساعدنا علي هذا الامتلاء؟ هي أسئلة تطرحها الكاتبة، وتحللها عبر نصوص كتبتها أو قصص عاشتها أو حكايات أُرسلت لها من قبل المستمعين:" أرسلت لي امرأة مُسِنة تحكي عن خواء عنيف أصابها بعد موت زوجها،كنت متعاطفة معها للغاية،أحسست بمشاعرها تماماً وفهمت أن تلك المرأة مهددة بالعدم. لاأحد مثلي يعرف ذلك الشعور والذي عشت طوال عمري مهددة به إلي أن حدث بالفعل ووقعت في الموت أربع سنوات". وكما ناقشت القبول وعلاقة الأنا بالآخر، والذوات المثقوبة لأنها بحاجة للامتلاء ناقشت كذلك الانفصال، لكن ليس الانفصال في معناه السطحي، حين ننفصل عن شخص نحبه، بل الانفصال في معناه النفسي والفلسفي، حين تنفصل الذات عن وجودها الأرضي، وكيف يمكن أن يسبب ذلك مزيدا من الألم النفسي"جوهر الفراغ الوجودي، ذلك هو الجرح الذي أشرت إليه من قبل، ولا سبيل لإلتئامه إلا بالالتحام بموجودات الأرض. أعرف أن المثاليين والهائمين المحلقين في سماواتهم، هم ناس يتألمون باستمرار، ذلك اللحم الأحمر الذي انفصل للتو عن حضن أمه ومازال لم يربِّ جلداً يحميه،طالما انفصل عن الأرض الثقيلة الخشنة.. تلك الخفة والرهافة التي لا تحتمل الثقل" وقد كتبت الكاتبة ديوانا شعريا بعنوان »قدم متسخ» ناقشت فيه تلك الفكرة بعمق وتأمل. كذلك قاربت الكاتبة معانٍ أخري كثيرة من العطاء والجحود والالتصاق"فلست إلها لأكون موجودا بذاتي" كما قرأتها الكاتبة في رواية لشتاينبك . المدهش أنها في حديثها عن الالتصاق تري أنه ليس مفارقا للانفصال، بل هو عينه وتبرر ذلك بأنك" الالتصاق ليس عكس الانفصال بل هو هو.. فأنت مرمي خارج ذاتك،منفي من العالم. وهكذا تواصل الكاتبة الحفر في العمق، العمق الإنساني في محاولة لتقديم حفريات المعرفة عن ذاتها العميقة، حتي لو اضطرت أن تحفر في الهاوية، وأن تكتشف أن في الأعماق دم مراق وأحشاء ممزقة، أقارب وأسلاف، هياكل عظمية مطحونة ومع ذلك يتكلمون ويقفزون من فمها ويشتغلون تحت عظامها. إن هذا الكتاب يضعنا أمام أسئلة كبري، رغم أنه راهن منذ البدء علي أسئلة الذات الإنسانية في جزئياتها، لكننا نجد أنفسنا نواجه الوجود وقلقه، ونطرح معها أسئلتنا الخاصة، ونحاول أن نجيب معها عن تلك الأسئلة الكبري والقضايا الكلية بما لها من امتداد معرفي في حفريات معرفتنا الممتدة عبر الأسلاف.