تركوا بلادهم فارين من ضيق العيش، إلي ضيق اللحود، حيث الموت المحتمل، والذي أضحي محققاً، أرادوا الإفلات من قدر الفقر، فتلقاهم مرحباً قدر الموت. إن القلب يعتصره الحزن والألم علي هؤلاء المساكين، ضحايا فقرهم، وكذلك جهلهم. لم يقدروا عاقبة الأمر، وخطورة الفعل، وجعلوا أبناءهم جزءاً من مغامرتهم، إنهم ضحايا مركب الموت عبر سواحل رشيد، الذين دفعهم الأمل في حياة كريمة في بلاد اليورو. لا اليورو أدركوا، ولا حياتهم أبقوا. والمتابع لهذه القصة شديدة المأساوية، يدرك تفصيلات بالغة الخطورة، ندق معها كل نواقيس الخطر، فقد قال قريب لأحد الضحايا : (لم يقتله البحر، وإنما قتلته البطالة)، جملة قليلة الكلمات، قاسية المعاني، تدعو كل محب لهذا الوطن، للتأمل السريع، والتدخل الأسرع. إننا نسلم بالعديد من الأمور، منها الطمع وسوء التقدير، واستغلال تجار الموت لعوز هؤلاء وحاجتهم، وضعفهم وقلة حيلتهم، كما نسلم بقلة الوعي، وضعف الثقافة، والسؤال هل هؤلاء جميعاً هم فقط من قتل هؤلاء المساكين ؟ أم أن هناك قاتلاً آخر، وشريكاً أصيلاً، ما زال ينعم بحريته، دون أن يسأله أحد، أو حتي يلقي إليه بأدني لائمة ؟ والإجابة : نعم هناك قاتل آخر أشد خطورة من هؤلاء جميعاً، أتدرون من عساه يكون هذا القاتل ؟ إنه نحنُ، وأقصد بنحن هذه (رجال الاستثمار والحكومة) الذين كان لزاماً عليهم أن يبذلوا مزيداً من الجهد لتوفير فرص عمل لهؤلاء، وأن يدركوا أن المواطن هو الأساس في كل عمليات صناعة التنمية. لقد نادينا كثيراً بإجراء إصلاحات اقتصادية شاملة، تستهدف في النهاية خلق المزيد من فرص العمل، وتقليل معدلات البطالة، وتحسين مستويات الدخول، بما يكفل حياة كريمة للمواطن. وأذكر في هذا المقام أننا تقدمنا نحنُ الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين بدراسة متخصصة بعنوان (برنامج لإصلاح وتنمية الاقتصاد المصري) خلصت إلي المشكلتين الرئيسيتين اللتين تواجهان الاقتصاد المصري، وهما : عجز الموازنة العامة المتزايد، وعجز ميزان المدفوعات المتزايد، وطالبنا بالأخذ بنظام الضرائب التصاعدية، والقضاء علي التهرب الكلي والجزئي، وتحصيل المتأخرات الضريبية، مع إصدار قانون حازم لمكافحة التهرب الضريبي، وترشيد الإنفاق الحكومي، بالامتناع عن شراء أي أصول لمدة ثلاث سنوات، وترشيد الدعم بأنواعه، دون المساس بمحدودي الدخل، وضمان وصوله لمستحقيه، وأهمية استحداث قانون للاستثمار، يتلافي العيوب الحالية، وتفعيل نظام الشباك الواحد، تيسيراً للإجراءات، ومنعاً للفساد، ووضع الصناعة المصرية علي قدم المساواة مع منافسيها، من حيث تكلفة إنشاء المصنع، وتكلفة التشغيل، لزيادة القدرة التنافسية للإنتاج المصري، وذلك من خلال رفع الأعباء المحملة علي العملية الإنتاجية، التي لا يتحملها الإنتاج في البلاد الأخري، والحد من الواردات، ووقف استيراد السلع غير الضرورية، وكذلك السلع التي لها مثيل من الإنتاج الوطني، واستيفاء جميع الاحتياجات الحكومية من الإنتاج الوطني، فيما عدا ما لا ينتج محلياً، وتحفيز الصادرات، باستمرار برنامج مساندة الصادرات، والاستخدام الكامل، لما شرعته لنا القواعد الدولية من فرض رسوم الإغراق والحماية، وتصحيح الفهم الخاطئ والمتعمد لسياسات السوق، لأن حرية السوق لا تعني بحال من الأحوال عدم رعاية الصناعة الوطنية، وعدم التدخل في السوق، لضبط الأسعار، حمايةً للمستهلك، ولا تعني كذلك فتح الأسواق للمنتجات الواردة دون أي ضوابط، واستخدام قواعد منظمة التجارة العالمية، التي لا تحظر زيادة الرسوم الجمركية، عندما تتعرض الصناعة لمنافسة غير متكافئة مقترحات كثيرة، قابلة للتنفيذ، تحوي دواءً مراً، لكنه يصنع علاجاً ناجزاً. إننا لا ننكر جهود الرئيس عبد الفتاح السيسي، لرفع قدرات مصر الاقتصادية، ومن ثم السياسية، هذه الجهود التي تنم عن وطنية خالصة، ورغبة صادقة، في النهوض بمصرنا الغالية في شتي المجالات، وكذلك القرارات الاقتصادية المهمة التي اتخذها، وكانت لها آثارها الإيجابية، وحققت قدراً مما يصبو إليه رجال الاستثمار والصناعة في مصر، ومنها، ترشيد الإنفاق الحكومي، وتشجيع المنتج المحلي، وخفض الاعتماد علي الاستيراد العشوائي، وترشيد استخدام الطاقة، وتدبير الموارد المالية لتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، كما لا ننكر أن الحكومة بدأت فعلياً في هذه الإجراءات، لكنها بحاجة إلي المواصلة والاستكمال، حتي لا يترك أبناؤنا الأرض، ليموتوا في عرض البحر. إننا لو لم نلق بالقدر الأكبر من المسئولية علي رجال الاستثمار والحكومة، واكتفينا بجلد هؤلاء المساكين، حتي بعد موتهم، فستبقي الحقيقة غائبة، وتغيب معها الحلول الصادقة للمشكلة. ألم أقل أن هناك قاتلاً آخر.