بعد سبعة كتب سردية تقريبا، ما بين مجموعة قصصية أو رواية، ترتاد الكاتبة المصرية المقيمة في لندن جمال حسان حقلا بِكْرا من حقول الممارسة السردية في روايتها "بور فؤاد 1973 وقائع سنوات الجمر" الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، فتحرث في تربة شكل سردي بينيّ، يقع في منطقة درامية مكتنزة، تتأرجح فيها الحبكة الدرامية بين سرد توثيقي تأريخي وآخر روائي. وهو شكل تسجيلي غير شائع في الأدبيات العربية الحديثة، حيث ترصد الراوية-المؤلفة وقائع حقيقية تتصل بفترة ما بين الحربين المصريتين الأخيرتين (من الخامس من حزيران (يونيو) 1967 إلي أكتوبر 1973)، من منظور فنّي يجمع بين حرص المؤلفة علي الرصد المعلوماتي الدقيق وعدم التخلّي عن تفجير مكامن البناء الروائي الممتع في الوقت ذاته. هكذا، ستكون المحصّلة القرائية الأولي لطرفي هذه المعادلة الكيميائية (تاريخ حقيقي + بذرة روائية قابلة للنموّ) كتابا سرديّا مفتوحا يجمع بين تحقيقية الوقائع Factions وجمالية التخييل القصصي Fiction. وتكون المحصّلة الثانية عنوانا مركّبا من عبارتين (مادتين) متفاعلتين؛ أولاهما رتبة ودلالة مدينة "بورفؤاد 1973" وثانيتهما درجة واستبطانا "وقائع سنوات الجمر". وكلا العنوانين (أو "المركّبين" معا في وجود عوامل مساعدة تخييليا) يضع الكتاب -أو يعيد موقعته النوعية- في مسار تطور الكتابة السردية. فأول العنوانين تسجيلي، تأريخي، حقيقي، وثانيهما مجازي، استعاري، تمثيلي. وما بين هذين الفضاءين تتخلّق بذرة روائية متنامية حول شخصية الضابط يسري حمدان، بطل كتيبة الصاعقة التي استطاعت أن تقدّم لنا منظورا جديدا في مقولات ثابتة حول "الحرب" و"البطولة" و"النصر/ الهزيمة"، من خلال ستة فصول متتالية سرديا، لا زمنيا (مهمة انتحارية، الصاعقة- بورفؤاد أول مرة، بورسعيد مرة ثانية.. حرب الاستنزاف، الإسكندرية.. التدريب في صمت، بلنصات سفاري في البحر المتوسط، أهلا بالرفاق سلسلبيل الكافور والريحان). تشتغل مروية جمال حسان علي إعادة إنتاج بعض المقولات والأحداث المتصلة بحرب الاستنزاف وما بعدها، من منظور مكاني ينطلق من مدينة بورفؤاد، وآخر زماني يحيل زمن المرجع فيه إلي الفترة البينيّة ما بين الحربين المصريتين، وما عُرِف، لاحقا، بأزمة "الثغرة". يمثّل كتاب "بورفؤاد 1973" مروية تاريخية ذات نزوع روائي تخييلي؛ إذ يرتكن إلي بعض الأجنّة التخييلية، سواء في علاقة يسري بحبيبته الغائبة الحاضرة "نادية"، أو في مفتاح شخصية أحمد راضي وأمه التي تشبه أم المصريين في سخائها وحنانها المتدفّق، أو في توظيف ثيمة "الدبابة الإسرائيلية المعطّلة" التي غدت مستودعا للمفاجآت والحوافز السردية التشويقية المتتالية. يسري حمدان، إذن، هو بؤرة السرد، ومنتهاه، سواء من حيث هو تمثيل سوسيوثقافي لحقبة بأسرها (شاركه فيها: النقيب مهاب عيسي، والملازم إسماعيل مدبولي، والملازم محمود كساب، وجندي الأمانات بدّار،.. وآخرون)، أو من حيث معايشته اللصيقة لكل ما مرّ به المجتمع المصري من تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية حادّة، حتي لحظة دخوله طرفا في المفاوضات الدولية لفضّ النزاع بين الجبهيتن المصرية والإسرائيلية، ودخول قوات دولية عدّة للإشراف علي تسليم المصريين جثث شهدائهم في تلك المنطقة الحدودية الفاصلة بين البلدين. وهنا، لن يكون مستغربا إصرار يسري حمدان علي ارتداء بزّته العسكرية الكاملة في لحظة ميلودرامية لاسترداد جثامين رفقاء الدرب؛ أقصد إلي بعض شهداء تلك الكتيبة الصغيرة من رجال الصاعقة التي أنجزت عملا ملحميا متناغما في زمن قياسي كانت أجواء الحرب فيه تغلّف كل شيء وتنذر بخسائر فادحة. ثمة أكثر من راوٍ لهذا النص، يقع في الصدارة منهم الراوي الرئيسي بضمير الغائب، الذي هو أقرب إلي صوت المؤرّخ الذي يجمع نتف الأحداث الصغري بتؤدة وصبر حينا، أو يتطابق مع شخصية يسري ذاتها ويترك له مهمة السرد برمّتها حينا آخر. غير أن اللافت للانتباه في عملية تناوب الأصوات والضمائر السردية هو تحدّث يسري بضمير المتكلم الجمعي، في بعض المقاطع، كأنه الأنا العليا للنص، أو الضمير الجمعي للهوية المصرية المتأجّجة في تلك الأحداث العظيمة. إن غياب صفة الروائية عن غلاف هذا النص المفتوح لا يقلّل من قيمته التخييلية، بل هو شكل من أشكال توجيه القارئ (المصري والعربي) نحو اختبار مدي صدق الوقائع التاريخية ومحاولة تحقيقها »erificationعند مطابقتها بوقائع مماثلة في مدونة التاريخ المصري الحديث الذي هو أشبه بمرويّة كبري لا تخلو من جماليات سرد أدبي شائق.