ممرات التجارة في العالم القديم متعددة، منها طريق الحرير، الذي كان يمثل شريان التجارة قديما، وكانت حركة التجارة العالمية تسري من خلاله، وكان يمتد من الصين إلي قلب أوربا، مرورا بدول وأقاليم متعددة، من عالمنا العربي والإسلامي، حتي إنه كان يمر من خلال مائة وست وثمانين مدينة، ويشهد تحرك التجارات الرائجة والخامات والمنتجات من قلب الصين والهند حتي تمر بعشرات من عمليات النقل والتخزين والحفظ والتدوير والشحن، فتروج بسبب ذك عشرات ومئات من العمليات الفرعية الخادمة لذلك، وتروج عشرات الألوف من المشروعات الصغيرة، التي تنفتح بها بيوت، وتتدفق بها أرزاق، مع ما ينهض علي ضفاف ذلك من علاقات اقتصادية وروابط ثقافية بين الشعوب والحضارات. وقد ألفت كتب عربية وأجنبية كثيرة حول هذه القضية، واعتنيت بقراءة عدد من الكتابات العربية والمترجمة فيها، ونشطت الصين مؤخرا لإعادة إحياء طريق الحرير، ولليونسكو مجهود كبير في ذلك، وقامت مؤخرا بضمه إلي قائمة التراث العالمي في دورتها رقم 38. وكان عندنا في عالمنا الإسلامي ظاهرتان عجيبتان مشابهتان لذلك، وهما طريق الحج الإفريقي، وطريق الحجاج المغاربة، أما طريق الحجاج الأفارقة فكان يجمع حجاج الغرب الأفريقي ووسط أفريقيا، عبر دروب ومسالك فرعية تنشعب إلي عشرات الطرق التي تتجمع من خلالها قوافل الحجاج، وكذلك حجاج السودان والقرن الأفريقي، وكانوا يتجهون جميعا إلي أرض مصر، حتي يتجمع الجميع في مدينة قوص من محافظة قنا، ثم يخترقون الصحراء شرقا إلي ميناء عيذاب، الذي ظل علي مدي قرنين من الزمان يمثل المنفذ الوحيد لانتقال حجاج مصر والمغرب إلي الحرمين الشريفين، كما يقول مؤرخ مصر العظيم تقي الدين المقريزي. وقد طرأت تحولات عبر هذا التاريخ الممتد، وتحول الناس إلي التجمع في القاهرة للالتحام مع رحلة المحمل المصري المحمل بكسوة الكعبة المشرفة هدية من أرض الكنانة مصر إلي مكةالمكرمة، ومعها حجاج مصر، فتنطلق مواكبهم عبر صحراء سيناء وجبالها الطاهرة إلي الحرمين. وكان طريق الحج الإفريقي هذا ينبع من موارد متعددة، منها طريق تبدأ من عاصمة مملكة مالي، مرورا بمدن كثيرة، وطريق أخري تبدأ من تشاد وتمر بمدينة غدامس في ليبيا ثم بلدة تاجورا انطلاقا إلي مصر، فضلا عن طريق الدرب الصحراوي، وطريق وادي النيل الذي يتدفق منه حجاج السودان. وطريق الحج الأفريقي هذا كان شريانا آخر من شرايين تجارة العالم، يشبه طريق الحرير، وتعمر علي ضفافه عشرات المدن والقري بالتجارات الخادمة للحجاج ومتطلبات مأكلهم ومشربهم ودوابهم وملابسهم ومتطلبات دوابهم فتروج بذلك عشرات التجارات الفرعية الصغيرة، وتنتعش حركة المال، وتتدفق أرزاق، وتنفتح بيوت، ويبيع الناس ويشترون ويتعاقدون بمختلف صور التعاقد، حتي يزدهر العمران الذي هو من أعظم مقاصد الشرع الإسلامي الحنيف الرحيم، الحريص علي راحة هذا الإنسان وإسعاده في الدنيا والآخرة. وكذلك كان طريق الحجاج المغاربة، فقد كان يتجمع فيه حجاج المغرب وشنقيط والسنغال والجزائر وتونس وليبيا، بإزاء ساحل البحر المتوسط، وتكون نقطة تجمعهم وموضع التقائهم هي القاهرة، ليلتحموا مع رحلة المحمل أيضا، حتي يذكر الدكتور حسين مؤنس أن طريق الحجاج المغاربة كان يبدأ من مراكش وفاس، وكان يحمل من المغرب وحدها خمسين ألفا أو يزيدون. وقد كانت مكتبة الإسكندرية نشطت خلال الفترة الماضية لتوثيق طريق الحج الإفريقي وتبني مشروع لإعادة إحيائه، ومحاولة محاكاة الصين في إحياء طريق الحرير بما يناسب ظروف زماننا هذه وحركة التجارة فيه. وأستحضر هنا الآية الكريمة (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَي مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، ويستوقفني كثيرا قوله سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)، وتبين لي أن هذه الشعيرة المعظمة، والعبادة الجليلة، حافلة بالمنافع العظمي في النواحي الإيمانية، والروحانية، والعرفانية، والعمرانية، والاقتصادية، والإنسانية، وانصهار الأمم والشعوب الإسلامي في رباط قدسي رفيع يمتزج فيه المسلم بعشرات الجنسيات والشعوب والأعراق والألوان والألسن، وهو يري البكاء والضراعة والاستغفار والتوبة، ومشاهد الجلال والتجلي، فيتسع أفق الإنسان المسلم، ويبرأ من الضيق والتكفير والتبديع، ويري كيف أن هذا الدين رحمة للعالمين، ثم تأتي الآثار البعيدة التي تنبع من رحاب هذه العبادة، كتحريك التجارات والمنافع والأرباح التي تتدفق من خلال طريق الحج الإفريقي وطريق الحجاج المغاربة، فإذا بتاجر من تجار الدواب في قلب أفريقيا قد راجت تجارته أيام الحج، لشدة الطلب من الحجاج علي سلعته، فيبيت قرير العين لوجود رزقه ورزق بيته وأولاده، وكل هذا نابع من آثار الحج وبركته، كل هذا مع تعظيم شعائر الله، والقيام بواجب التعبد له، وقبس الحكمة والتهذيب والأخلاق والإجلال الذي ينبغي أن يرجع به من الحج، مع قوله تعالي: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَي مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) فيصرح تصريحا بالتذكير بالفقير والبائس، لما هو ثابت في هذا الدين الحنيف من أنه يهدف إلي جبر خاطر كل إنسان، ورفع المعاناة والحرج عنه، وإكرامه وتكريمه، وتقدير الحياة بمختلف صورها إلي أبعد مدي، والحفاظ عليها، وإجلالها، ثم يتوج ذلك كله بأيام العيد، والذي هو عيد الأضحي، بما يشهده من حمل المسمين علي القيام بسنة الأضحية، بكل ما يترتب عليها من تجارات ومنافع وأرزاق، وتعهد للفقير، وإدخال للسرور علي قلوب الناس، ثم إنها أيام ذكر وطهر وإيمان، وانتعاش للقيم والأخلاق، وأيام روحانية، ومعراج للنفوس والعقول، وتعظيم لشعائر الله، وإصلاح للقلوب وما فيها من مقاصد وخطط ونوايا وأهداف، إنها عملية إعادة ضبط لإنسانية الإنسان في أعلي صورها، وسلام علي الصادقين.