قد يحتاج المرء إلي شجاعة كبيرة لكي يعترف في هذه الأيام.. بأنه ليس "غاوي" كرة إلي الحد الذي يجب أن يصبح فيه أهلاوياً أو زملكاوياً أو إسماعيلاوياً أو سواحلياً.. ولكن هذا ما اضطررت أن أعترف به لسائق التاكسي الذي ركبت معه من ميدان التحرير، فانطلق بي، دون أن يسأل، إلي النادي الذي تجري فيه المباراة.. فلما قلت له إنني ذاهب إلي بيتي الذي يبعد قليلاً عن النادي، دهش، وسألني ألا أتحمس لأي فريق؟.. فلما قلت لم لا، رد علي بلهجة من يستخف بي ويحسدني في نفس الوقت: أحسن!.. فلابد أنك من النوع الذي يهمه سلامة أعصابه!... وحكاية الذين يتحمسون لأندية الكرة مفهومة. ولكن حكاية الأعصاب هذه هي غير المفهومة! فأنا أعرف صديقاً أهلاوياً، جلس أمام التليفزيون يوم مباراة الأهلي والزمالك وبجواره حقنة "كورامين" مستعدة لكي يغرزها أهله في لحمه إذا أصابه ذ أثناء المباراة ذ شئ.. بسبب الانفعال! ومنذ سنوات كانت حالة هذا الصديق بيننا هي الشاذة.. أما الآن فقد أصبحت أنا الشاذ بين هؤلاء الأصدقاء! والظاهر أن في طبيعتي شيئاً غريزياً يحول بيني وبين هذه المتعة ذ فلابد أنها متعة! ذ أقصد متعة التحيز المطلق لناد دون آخر، لا متعة الكرة في حد ذاتها، ففي غريزتي شئ يجعلني أميل دائماً مع الطرف الأضعف ومع الجانب المهزوم. وهذه صفة إنسانية عامة فيما أعتقد، ولكنها قد تكون "زائدة" قليلاً عند بعض الناس، ومعني ذلك أنني لو تحمست كروياً فسوف أكون سنة أهلاوياً وسنة سواحلياً وراء المهزوم في كل مكان! وهو وضع غير مقبول لدي الكرويين وغير لائق علي أي حال! والناس يحلو لهم أن يفسروا سر هذا الإقبال المتزايد علي الكرة، والمشاعر التي تزداد اشتعالاً حولها... وليس في هذا الأمر أية غرابة، فكل أنواع الرياضة قامت في كل أنحاء العالم علي أساس حاجة الإنسان الدائمة إلي الجدل.. إلي المنافسة إلي الصراع إلي تذوق طعم الهزيمة والانتصار.. قبل أن تكون كرة قبل الكرة في مصر مثلاً، منذ قرن من الزمان، كان هناك "شاعر الربابة" الذي يروي في المقاهي قصة صراع أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة.. فينقسم الناس إلي "هلالية" و "زناتية" بنفس الانفعال الأهلاوي والزملكاوي اليوم. فمنذ تسعين سنة، كان في مصر فنان شعبي عظيم هو "عبد الله النديم" يصدر مجلة بديعة اسمها "التنكيت والتبكيت". مستخدماً سلاح القصة الفكاهية للتنكيت علي المصريين، وتبكيتهم علي عيوبهم الاجتماعية.. في هذه المجلة نجد قصة طريفة عنوانها "الجنون والفنون" يقول فيها: "جلس أحد المحتالين علي قهوة. وأخذ يقرأ أكاذيب سماها قصة عنترة. فاجتمع عليه عدد كبير من الرعاع والهمج، الذين أولعوا بسماع الأكاذيب والخرافات.. فلما رآهم منصتين إليه أخذ يفتري عبارات ينسبها إلي "عنترة" وكلمات يعزوها إلي "زغبة"، وقد انقسم القوم فريقين، وكل فريق يدفع لهذا المحتال نقوداً ليؤيد مشربه ويتمدح بمن يميل إليه. والمحتال مجد في التخريف متفنن في الكذب، حتي قرب الفجر، فقال ".. وبينما هم في قتال ونزال، أنكشف الغبار عن وقوع عنترة في الأسر.. وسوف نخلصه في الليلة المقبلة".. فقال أحد السامعين: لابد أن تخلصه الآن.. وخذ عشرة جنيهات!.. فأبي المحتال وسكت عن الكلام، فشتمه السامع وعلت أصواتهما بالقبائح، وآل الأمر إلي الضرب والإهانة. "ثم ذهب السامع وقد تذكر أن عنده قصة عنترة، ولكنه أمي لا يقرأ، فقصد إلي غرفة ولده وأيقظه من النوم وهو يبكي وقال له: يا ولدي، أبوك رزئ بمصيبة عظيمة" فقال له ولده: هل مات أخي؟ - كان أهون! - هل صدر عليك حكم بالليمان في قضيتك؟ - كان أهون - هل سرقت نقودك؟ - كان أهون! - فماذا أصابك يا والدي؟ - يا ولدي.. في هذه الليلة أخذوا عنترة أسيراً، فهات كتاب قصة عنترة واقرأ لي فيه حتي يخرج من السجن.. وإلا قتلت نفسي - ومن عنترة يا والدي؟... أتتكدر علي حكاية مكذوبة وقصة كلها تخريف؟.. قال الوالد: أنت تشتم عنترة يا ابن ال.... ونزل عليه بعصاه حتي أسال دمه، وحلف عليه بالطلاق لا يبيت عنده ولا يعاشره. فخرج الولد المسكين وهو يسب الجهل وأهله، ويعجب من فساد أخلاق والده الذي أحدثه عدم التهذيب حتي ألحقه بالبهائم وسلخ عنه جلد الإنسانية. فقابله أحد جيرانه وسأله عن حاله، فقص عليه قصته مع والده.. فقال له "طالما قلت لأبيك فضك من عنترة، وتعال اعمل" زغبي "فما سمع كلامي!".. فضحك الولد من سخافة عقل الاثنين، وقال: لا شك أن الجنون فنون!" انتهي كلام عبد الله النديم!.. وإذا كان عبد الله النديم قد روي الأمر بصورة فكهة، فالصورة لها أساس من الواقع.. وهكذا لابد أن يكون في حياة الناس ذ حتي في مجال الرياضة والترفيه ذ ما يختلفون عليه ويتحمسون له.. والحماسة الكروية موجودة في كل أنحاء العالم.. سواء لكرة القدم أو لغيرها من الألعاب. ولكن المشكلة في مصر هي أن كرة القدم بالذات أخذت حظاً كبيراً من الدعاية والشهرة طغت علي غيرها من الألعاب.. فنجم كرة القدم هو البطل المحظوظ في حين أن نجم التنس أو كرة السلة أو أية لعبة أخري، ما زال حظه تافهاً أو قليلاً.. عن شاعر الربابة وأترك حديث الكرة.. وأعود إلي حديث شاعر الربابة... ففي كتاب "أ. لين" الشهير عن "المصريين المحدثين" الذي كتبه بعد أن زار مصر وعاش فيها منذ مائة وأربعين سنة.. هناك عدة فصول كاملة، محلاة بالرسوم، عن عادات المصريين في التسلية والترفيه في ذلك الوقت من بينها فصلان عن شاعر الربابة.. ".. وشاعر الربابة يجلس علي مصطبة مبنية عند باب المقهي، بينما يجلس السميعة علي المقاعد أو علي مصاطب البيوت المواجهة للمقهي التي توجد عادة في شارع ضيق.. منهم من يشرب القهوة ومنهم من يمسك بالشيشة، وكلهم في حالة من الاندماج التام في القصة، خصوصاً إذا كان شاعر الربابة من الذين يجيدون الإلقاء والإشارة الدرامية. ويأخذ الشاعر أجره من صاحب المقهي الذي يدفعه له لجذب الزبائن، وأحياناً يتلقي نقوداً قليلة ذ عشرة فضة مثلاً من الزبائن. وفي القاهرة "سنة 1825" خمسون شاعراً من هؤلاء لا ينشدون إلا قصة أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة والزغبي والقصة مطبوعة في عشرة أجزاء، مزيج من الشعر والنثر، تدور حوادثها إما في شبه الجزيرة العربية واليمن وإما في المغرب، والشاعر يلقيها من الذاكرة، في مزيج من الإنشاد والتمثيل، وبين كل بضع فقرات يعزف علي الربابة جملة موسيقية أو جملتين.. ((وإلي جانب شعراء الربابة، توجد فئة أخري تنشد أيضاً في المقاهي، بدون ربابة، واسمهم ((المحدثون))، وعددهم في القاهرة حوالي ثلاثين، وأحياناً يسمون ((الظاهرين)) لأنهم لا يروون إلا قصصاً عن الظاهر بيبرس وشجرة الدر وعصرهما. "ثم يجئ عدد أقل من المنشدين، لا يزيد علي ستة في القاهرة كلها، اسمهم العناتره.. لأنهم لا ينشدون إلا قصة عنترة فقط.. وأحياناً يروون قصة الأميرة ذات الهمة وقصة سيف بن ذي يزن.. "وترجع ندرة عدد كل نوع إلي ندرة عدد النسخ الموجودة من المجلدات التي تضم كل قصة... فقصة عنترة مثلاً أصبحت نادرة الوجود، وإذا وجدت يكون ثمنها باهظاً لا يقدر المنشد علي دفعه. وقد اشتريت بصعوبة نسخة من الكتب التي تضم سيرة الظاهر بيبرس، يرجع عمرها إلي مائة سنة علي الأقل، أما قصة ذات الهمة فقد قالوا لي أنها تملأ خمسة وخمسين جزءاً.. ولكنني لم أعثر إلا علي أجزاء مبعثرة، مجموعها لا يزيد علي أربعمائة صفحة..." انتهت هذه الفقرات من كتاب المؤرخ الإنجليزي "لين".. والواضح من هذا الكلام، أن هذه الحكايات والأشعار التي كان يرددها المنشدون.. كانت الوسيلة الوحيدة للتسلية والثقافة.. والمنفذ الضيق للأحلام.. كانت هي الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون. في مشهد مؤثر في إحدي روايات نجيب محفوظ، زقاق المدق أو بين القصرين فيما أذكر، نري شاعر الربابة يذهب إلي المقهي كعادته ذات يوم فيجد صاحب المقهي مشغولاً بتركيب جهاز راديو لأول مرة، مستغنياً بذلك عن الشاعر، وينصرف الرجل بربابته وهو يلعن هذه الاختراعات.. ففي هذا العصر من عصور الانحطاط، وبعد جفاف طويل ينابيع العلوم والفنون وحوافز العمل السياسي.. لم تبق إلا هذه الأساطير عن أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة.. يهرب إليها الناس.. ويصبون فيها في نفس الوقت بعضاً من نفوسهم: فما أكثر ما كان الشاعر يضيف ويغير في النصوص التي حفظها.. كلما وجد لهذا صدي في نفوس سامعيه.. ما أبعد الفرق بين مواطن كان يعيش بين جدران حياته الضيقة.. لا يأتيه صوت من الخارج.. إلا صوت شاعر الربابة.. وهو صوت آت من العصور القديمة الغابرة.. وبين مواطن اليوم الذي تتدفق عليه المؤثرات والأوامر والنواهي والإغراءات والأخبار من ألف نافذة.. الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما وغيرها.. المواطن الأول، ربما كان يقتله الملل. ولكن المواطن الثاني قد يكون عرضة للقتل بالصداع والإرهاق! وتذكرت مقهي في نيويورك، أكثر مدن العالم ضجيجاً، مكتوب علي زجاجه الخارجي "لا راديو ولا ستيريو ولا تليفزيون.. ولكن شراب فقط، كالزمان الطيب القديم؟!" والحانة مكتظة بالذين جاءوا إليها ينشدون بهدوء.. فراراً من صراخ المدينة الكبيرة!