«البعثة الدولية» ترصد انتخابات «النواب» ب«29 متابعًا» من 9 جنسيات    تعددت الأسماء والطريقة واحدة.. آن الرفاعي وبسمة بوسيل تواجهن الطلاق ب«البيزنس» (تقرير)    طبقًا لإرشادات الطب الصيني.. إليكِ بعض النصائح لنوم هادئ لطفلك    ستيفن صهيونى يكتب: الفضيحة التي هزت أركان الجيش الإسرائيلي    مقتل شخصين إثر تحطم طائرة إغاثة صغيرة في فلوريدا بعد دقائق من إقلاعها    موعد مباراة السعودية ضد مالي والقنوات الناقلة في كأس العالم للناشئين    انيهار جزئي في عقار بحي وسط المنيا    بصورة "باي باي" ل ترامب، البيت الأبيض يرد على فيديو إلهان عمر بشأن ترحيلها من أمريكا    «متحف تل بسطا» يحتضن الهوية الوطنية و«الحضارة المصرية القديمة»    أبرزها "الست" لمنى زكي، 82 فيلما يتنافسون في مهرجان مراكش السينمائي    ترامب: ناقشت مع الشرع جميع جوانب السلام في الشرق الأوسط    إقامة عزاء إسماعيل الليثي.. غدًا    إصدار تصريح دفن إسماعيل الليثى وبدء إجراءات تغسيل الجثمان    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    سلطنة عمان تشارك في منتدى التجارة والاستثمار المصري الخليجي    الإطار التنسيقي الشيعي يدعو العراقيين إلى المشاركة الواسعة والفاعلة في الانتخابات التشريعية    أسامة الباز.. ثعلب الدبلوماسية المصرية    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي 2025 وخطوات استخراجها مستعجل من المنزل    يمهد الطريق لتغيير نمط العلاج، اكتشاف مذهل ل فيتامين شائع يحد من خطر النوبات القلبية المتكررة    التعليم تعلن خطوات تسجيل الاستمارة الإلكترونية لدخول امتحانات الشهادة الإعدادية    «في مبالغة».. عضو مجلس الأهلي يرد على انتقاد زيزو بسبب تصرفه مع هشام نصر    أسعار العملات العربية والأجنبية أمام الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    استعدادًا للتشغيل.. محافظ مطروح يتابع تأهيل سوق الخضر والفاكهة بمدخل المدينة    أمطار على هذه المناطق.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    الحوت، السرطان، والعذراء.. 3 أبراج تتميز بحساسية ومشاعر عميقة    ريم سامي: الحمد لله ابني سيف بخير وشكرا على دعواتكم    وزارة الداخلية تكشف ملابسات واقعة السير عكس الاتجاه بالجيزة    انهيار جزئي لعقار قديم قرب ميدان بالاس بالمنيا دون إصابات    مع دخول فصل الشتاء.. 6 نصائح لتجهيز الأطفال لارتداء الملابس الثقيلة    أهمهما المشي وشرب الماء.. 5 عادات بسيطة تحسن صحتك النفسية يوميًا    نيسان قاشقاي.. تحتل قمة سيارات الكروس أوفر لعام 2025    التخضم يعود للصعود وسط إنفاق بذخي..تواصل الفشل الاقتصادي للسيسي و ديوان متفاقمة    بسبب خلافات الجيرة.. حبس عاطل لإطلاقه أعيرة نارية وترويع المواطنين بشبرا الخيمة    استغاثة أم مسنّة بكفر الشيخ تُحرّك الداخلية والمحافظة: «رعاية وحماية حتى آخر العمر»    النائب العام يستقبل وزير العدل بمناسبة بدء العام القضائي الجديد| صور    بعد لقاء ترامب والشرع.. واشنطن تعلق «قانون قيصر» ضد سوريا    سعر الطماطم والخيار والخضار بالأسواق اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    تقارير: ليفاندوفسكي ينوي الاعتزال في برشلونة    إصابة الشهري في معسكر منتخب السعودية    صلاة جماعية في البرازيل مع انطلاق قمة المناخ "COP30".. صور    المغرب والسنغال يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية والتحضير لاجتماع اللجنة العليا المشتركة بينهما    مشهد إنساني.. الداخلية تُخصص مأمورية لمساعدة مُسن على الإدلاء بصوته في الانتخابات| صور    زينب شبل: تنظيم دقيق وتسهيلات في انتخابات مجلس النواب 2025    المعهد الفرنسي يعلن تفاصيل الدورة الخامسة من مهرجان "بوبينات سكندرية" السينمائي    اليوم السابع يكرم صناع فيلم السادة الأفاضل.. صور    مروان عطية: جميع اللاعبين يستحقون معي جائزة «الأفضل»    بي بي سي: أخبار مطمئنة عن إصابة سيسكو    اللعنة مستمرة.. إصابة لافيا ومدة غيابه عن تشيلسي    لماذا تكثر الإصابات مع تغيير المدرب؟    خطوة أساسية لسلامة الطعام وصحتك.. خطوات تنظيف الجمبري بطريقة صحيحة    أوكرانيا تحقق في فضيحة جديدة في شركة الطاقة النووية الوطنية    أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    رجال الشرطة يجسدون المواقف الإنسانية فى انتخابات مجلس النواب 2025 بالإسكندرية    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



‮ ‬شوق المستهام‮:‬سؤال اللغة والذاكرة‮!‬
نشر في أخبار الحوادث يوم 13 - 08 - 2016

في آخر نصوصها الروائية‮ "‬شوق المُستهام‮" ‬الصادرة عام‮ ‬2015‮ ‬تقدم سلوي بكر رواية تتميز بالسلاسة الفنية وانسيابية الطرح وذكائه حول فترة زمنية لم‮ ‬يتناولها الكثيرون بالبحث،‮ ‬حيث لم تُنسج القصص الإنسانية والاجتماعية حولها،‮ ‬ولم‮ ‬يُشر إلي ما وقع بها من أحداث رغم عنفها وتراجيديتها إلا نادرا،‮ ‬كما لم تُرصد التغيرات التي حدثت بالمجتمع المصري القديم في وقت تتابع هذه الرسالات الدينية التي حلت الواحدة منها فوق الأخري في نوع من الإزاحة المتعمدة القسرية،‮ ‬والممارسات العنيفة للقوي التي تصارعت بالمجتمع قبل أن تقضي السلطة السياسية الدينية المنتصرة علي المقومات الثقافية السابقة،‮ ‬وتبقي علي ما أرادت لتوطد أركان سلطاتها وهيمنتها علي القطر المصري آن ذاك‮.‬
‮ ‬يطرح النص عددا من الأسئلة والقضايا عميقة الدلالة‮ ‬من خلال سرد وتتبع رحلة الراهب‮ "‬آمينوس‮" ‬في ربوع مصر ومدنها للتنقيب في روابيها ومعابدها القديمة التي كانت تكتنز بعلومها ومنتجها المعرفي اللاهوتي والفلسفي والعلمي،‮ ‬في محاولة للبحث عن علاج لبعض الأمراض والأوبئة المدونة في آثارها وكنوزها الطبية والعلمية التي نجت و لم تطلها عمليات التدمير والسرقات المتوالية التي قام بها‮ ‬غزاة مصر،‮ ‬حيث توالوا علي احتلالها ونهبها منذ الإغريق ثم الفرس والرومان والعرب‮. ‬ومن خلال هذه الرحلة التي‮ ‬يخوضها السارد في القرن التاسع الميلادي الثالث الهجري تثير الكاتبة عدة أسئلة وإشكالات قديمة ومتجددة حتي لحظتنا الحاضرة‮. ‬
‮ ‬1‮ ‬
بين الدين والعلم‮:‬
علي المستوي الفني الأول قصدت الروائية أن تشكًل صراع البطل علي نحو مركب فاختارته رجل دين،‮ ‬راهبا بسيطا في أحد الأديرة وهبه أبوه إلي الدير منذ سن العاشرة،‮ ‬تقتصر وظيفته علي كتابة الرقي للمرضي وبعض العلاجات البسيطة والتضرع إلي الله،‮ ‬علي حين‮ ‬غرة تسوقه وفاة أمه و مرض أخته‮ " ‬تكلا‮ ":‬عماها،‮ ‬وتشوه وجهها وبشرتها بعد انتشار وباء الجدري الذي قضي علي معظم أهل قريته وأولهم والدته و حبيبته القديمة‮ "‬سيرين‮" ‬وولداها للبحث عن علم الأقدمين،‮ ‬خاصة وأنه قد تعلم بعض لغتهم في الدير،‮ ‬فاستقر اختياره بعد حيرة علي أن‮ ‬يتبع الإشارات التي شعر بها توجهه‮: "‬اذهب إلي حيث كان أولئك الذين فكروا في الخلق والخليقة وابتداع الكون‮ ". ‬وفي النص‮ ‬يطل الخوف من سعي آمينوس لعدة أسباب حيث‮ ‬يقول له أحد القسس‮ " ‬نحن في هذه الأيام لسنا بمأمن من شيء،‮ ‬فالبعض عاد‮ ‬يطالع في الكتب القديمة وأناجيل الكفر،‮ ‬وقراطيس أصحاب البدع والهرطقات،‮ ‬وهناك من‮ ‬يقرأ كتب المسلمين والصابئة في خفية،‮ ‬ثم هناك كثيرون‮ ‬يتركون دين المسيح ليلتحقوا بملة محمد،‮ ‬ومنهم قسس ورهبان من كنيستنا العامرة وكنائس أخري‮ ".‬
كانت‮ ‬غاية آمنيوس من سعيه تلك الوصفات الطبية التي برع فيها الأقدمون الوثنيون،‮ ‬لم‮ ‬يكن مقصده علومهم وفلسفتهم التي‮ ‬يتوجس منها رجال الدين،‮ ‬حيث‮ ‬يصفونها بالأمور الدنيوية تارة أو التجديف والهرطقات تارة أخري،‮ ‬ويخافون من كل ما توارث عنهم من علوم‮. ‬يبدأ طريق البحث بهدف بسيط ليتسع طريقه،‮ ‬وتتعدد أسئلته وتنفتح عوالم معرفية حول أسرار الفلك وعلم الطلسمات والسحر،‮ ‬وعلوم الإسكندرية وفلسفاتها،‮ ‬فتتسع رحلة السؤال وتصبح أكثر تعقيدا عما بدأه رجل الدين،‮ ‬وتصبح تلك العلوم نافذة لتغيره وتغير نظرته للعالم‮.‬
تعمدت الروائية منذ البداية أن تضع القارئ في جدلية الصراع الأزلي في المجتمعات بين الدين بفلسفة تسليمه واتكاله،‮ ‬والتفكير والنظر والتأويل وتعدد الآراء والنظر إلي الواقع حيث الاعتماد علي العلم الذي‮ ‬ينفع الناس في وجودهم الحياتي‮. ‬
في رحلة آمنيوس تتبدي دهشته من الواقع خارج الدير،‮ ‬رحابة العالم المفتوح جغرافيا وتاريخيا وفكريا من خلال الأشخاص الذين قابلهم في طريقه أثناء رحلة بحثه التي اتسعت فيها أسئلته وتنوعت‮. ‬تلك الدهشة‮ ‬والحيرة التي لونت رحلته ودعت الروائية لترك نهاية النص مفتوحة لكنها توحي ببقائه في معبد دندرة؛ ليتعلم لغة الأقدمين وعلومهم،‮ ‬ليس لمجرد نقل الوصفات الطبية القديمة لكن لفهم نفسه والعالم من حوله‮. ‬
‮ ‬2‮ ‬
أمة بلا ذاكرة‮:‬
‮ ‬ولقد أثار النص بعض الأسئلة الجوهرية أهمها‮: ‬ماذا لو لم تختف وتنطمس اللغات المصرية القديمة،‮ ‬ماذا لو أن الأمة المصرية عضت بالنواجذ علي لغتها القديمة وحاربت طمسها والقضاء عليها واستبدالها بلغات من‮ ‬غزوها من جنسيات أخري؟ القضية ليست مفاضلة ساذجة بين اللغات،‮ ‬لكنها قضية القطيعة المعرفية مع الماضي وعلومه وأفكاره وما‮ ‬يحمله في طياته الثقافية من هوية،‮ ‬كأننا أمة بلا ذاكرة،‮ ‬حتي إنه بعدما عادت أطياف الذاكرة بعد عصر النهضة المصرية وفكت شفرة حجر رشيد،‮ ‬وعرفت صفحات من التاريخ المصري القديم عادت ضبابية التأثير؛ للفارق الزمني المتسع،‮ ‬وللحروب المعلنة والخفية التي‮ ‬يمارسها الكهنوت الديني في المسيحية والإسلام بأشكال متعددة ؛ خوفا من خلخلة سطوتهما بمقولات التحريم تارة،‮ ‬ونسبة الظلم إلي الفراعنة والحط من منجزهم الفلسفي العلمي،‮ ‬ووصفهم بالمساخيط الكفرة،‮ ‬رغم أن هذا الكشف أعاد للمصري أحساسا بكيانه وهويته العريقة التي تم التعتيم عليها طويلا وقضي بسبب ذلك علي الكثير من آثارها في امتداد هويته‮.‬
فلو أننا حافظنا علي تلك اللغة القبطية القديمة وما قبلها وتدارسناها كما فعل الفرس والأتراك وغيرهم ممن حافظوا علي لغتهم الأم وطوروها لما انفصلنا عن منجزنا المعرفي القديم،‮ ‬ولما أصبحنا كإنسان بلا ذاكرة،‮ ‬قصاصات من ورق تتطاير دون أن تتثبت من وجودها،‮ ‬فاللغة هي الوعاء الحاوي لكل ما‮ ‬ينجزه الإنسان حيث لا تنفصل عن وجوده ومنجزاته الحضارية،‮ ‬فمن المؤكد أن هذه القطيعة الثقافية علي المستوي الرسمي أثرت في تاريخ تطور الحضارة المصرية جذريا،‮ ‬وأفقدتها أهمية تراكم المعرفة وطبقاتها،‮ ‬والجدل الإيجابي الذي‮ ‬يحدث ضمن لغة متوارثة لها مقوماتها الحضارية المتتابعة التي تتجدد دماؤها بداخل شرايينها لا أن تتمزق شبكة أوردتها وشرايينها من الأساس‮. ‬هذه القطيعة التي لم نزل نري آثارها في مناهج التعليم المصري فهناك إهمال كبير لتاريخ الأسر الفرعونية ومنجزهم الحضاري الذي وصفت مصر من أجله بأنها أصل شجرة الحضارة،‮ ‬وفجر الضمير البشري‮. ‬
من اليسير أن تتوالي الأسئلة المتعددة حول قضايا التاريخ والماضي المصري وما توالي فيه من رسالات،‮ ‬ومتغيرات سياسية واجتماعية وثقافية،‮ ‬لكن الروائية تلتقط حالة إنسانية فردية،‮ ‬وتشرع في الحكي عن محيطها الاجتماعي الحيوي حين تنعكس عليه المتغيرات السياسية الدينية فنيا بلا افتعال قضايا بصور مباشرة،‮ ‬بل تلتقط انعكاس هذه التغيرات علي حياة البشر البسطاء ومن ثم تنسج شبكة من العلاقات الفنية والفكرية التي تدفع بنصها ليجسد الحياة بتلك الفترة الزمنية فعلي سبيل المثال‮: ‬حين تتزوج خالة آمينوس القبطية من أعرابي مسلم ممن‮ ‬يتاجرون معها وترحل معه فيتسبب هذا في حزن أمه الدفين وانكسار روحها،‮ ‬أو عندما تتزوج عمته من ملكاني‮ ‬يعتقد في التجديف بطبيعة الرب وهم‮ "‬آمنيوس وعائلته‮" ‬من طائفة اليعاقبة ويستولي هذا الملكاني علي نصيب والد آمنيوس من المشغل فيموت الرجل مفلوجا،‮ ‬كما تجسد الكاتبة من خلال الأحداث شكل المجتمع المصري ومعاناته،‮ ‬واحتياجه لعلاجات ناجعة لبعض الأوبئة التي قضت علي قري بأكملها،‮ ‬فتثير السؤال المحوري بهذا النص‮: ‬كيف اندثرت وضاعت اللغات المصرية القديمة التي حملت إرثا معرفيا وعلميا وثقافيا،‮ ‬فلقد كتبت اللغة المصرية القديمة بأربعة خطوط،‮ ‬تطورت علي التوالي مع مستجدات الحياة الإنسانية هي‮: ‬الهيروغليوفية،‮ ‬والهيراطيقية،‮ ‬والديموطيقية،‮ ‬والقبطية التي أخذت الأبجدية اليونانية‮. ‬
وتمثلت في هذه اللغات القديمة حقول معرفية متنوعة عرفها الأوائل الذين فكروا في الخلق والخليقة،‮ ‬وتبحروا في العلوم والطب والهندسة والفلك والفلسفة وغيرها من العلوم،‮ ‬وبرز لاحقا الاحتياج لهذا الموروث المعرفي الطبي والمعرفة باللغة التي حملته،‮ ‬لكن عوامل طمس الهوية السابقة وإحلال لغة وحضارة محل أخري كما‮ ‬يحدث دائما سبب انقطاعات حضارية مجحفة في تاريخ البشر،‮ ‬هذا عدا العنف الذي‮ ‬يطال الناس دوما من الصراعات السياسية الاقتصادية التي تأخذ أقنعتها الدينية حتي تصل في النص إلي بيع الناس لأطفالهم لدفع الجزية،‮ ‬أو الهرب من بلادهم والتشتت في أي أرض خوفا من الخراج‮.‬
تبدأ رحلة البطل حين‮ ‬يتساءل‮: " ‬ألا تظن أن الذين عاشوا قبلنا كانت لهم معرفة وفنون وحكمة،‮ ‬تغلبوا بها علي كل ما صادفهم من صنوف الوباء وشروره؟ ألم‮ ‬يتركوا شيئا من معرفتهم هذه وحكمتهم تعيننا علي ما نحن فيه الآن‮ ". ‬من هذا السؤال النفعي المباشر تتوالد الأسئلة الكبري‮.‬
‮ ‬3‮ ‬
تقنيات تنمية السرد‮:‬
‮ ‬ينفتح السرد في الرواية بداية من الاعتراض علي تعلم اللسان الوثني القديم من قبل الأب"سرابيون‮" ‬لخوفهم من نقل علوم فلاسفة الوثنيين وأصحاب الزندقة وهرطقاتهم وتجديفهم،‮ ‬حيث اجتهادات العقل وعلوم الفلسفة والعلوم الدنيوية في مقابل الدين ونصوصه،‮ ‬وما قد تسببه هذه المعارف في الانحراف عن الإيمان‮ ‬فيحذر سرابيون آمنيوس وهو‮ ‬يصرخ قائلا‮:" ‬تذهب إلي برابي الوثنية؟ أي شيطان أوحي لك بتلك الفكرة وذلك الجنون الكافر؟ إن كل اللفائف المكتوبة القديمة تحتوي علي كفر وتجديف وهرطقة،‮ ‬كتبها فلاسفة الوثنية،‮ ‬وأصحاب الزندقة‮. ‬إنها تحرف حتي الملائكة الأطهار عن طريق الديانة القويمة‮. ‬إن الشياطين تسكن هذه البرابي وتعيش فيها،‮ ‬لتفتن الناس عن دينهم وتحرفهم عن إيمانهم‮". ‬ويتكرر هذا الرأي ذاته من أحد الرهبان‮.‬
لم‮ ‬يكن السبب وراء اختفاء علوم الأقدمين واندثار لغتهم أفاعيل الغزاة وإجراءات طمسهم لكل ما هو قديم فقط،‮ ‬أو نقله إلي بلادهم والاستحواذ عليه،‮ ‬لكن أيضا تعنت رجال الدين ورغبتهم في زرع الإيمان والتسليم في النفوس فقط،‮ ‬والبعد عن كل اجتهاد عقلي قد‮ ‬يزعزع العقيدة الإيمانية‮. ‬بدأ الانفصال أيضا منذ سيطرة كهنة المعابد علي اللغات القديمة وأسرارها وما كتب بها من علوم،‮ ‬وعدم خروج هذه العلوم بلغاتها إلي عامة الشعب وحجبها عن الجموع؛ لذا سرعان ما ‮ ‬اختفت هذه اللغات وما حملته من علوم؛ لموت هؤلاء الكهنة والقيود التي أحاطوا بها علومهم‮.‬
وانفتح السرد علي عوالم جديدة وأسئلة أكثر جدلا اجتاحت السارد نتيجة للانتقالات المكانية عبر رحلة آمنيوس في البرابي أو المعابد التي كانت متخصصة في العهود القديمة،‮ ‬حيث لكل معبد تخصص علمي وبحثي واعتقاد ديني أو فلسفي لذلك بدأت رحلته من مدينة سمنود بموضع الفرما؛ قصدا للبرديات والوصفات العلاجية بموضع معبد قديم كان به من‮ ‬يشتغل بالحكمة والطبابة وصناعة الكيمياء،‮ ‬ثم إلي البربة القديمة بمدينة عون،‮ ‬ثم إلي خرائب بربة منف القديمة،‮ ‬ثم بربة دندرة وصحبته للعالم‮ "‬ابن وحشية‮" ‬والنقاشات التي دارت بينهما‮.‬
‮ ‬ويعد المكان هما مؤرقا وشاغلا أساسيا لدي الروائية سلوي بكر حيث تشير دائما لقضية مهمة وهي أننا نقرأ التاريخ وفي أذهاننا جغرافيا معاصرة،‮ ‬ويصبح تقصي الجغرافيا القديمة وتخيل الأحداث وحركة القص بها عملا‮ ‬يستلزم بحثا عن مصادر لا تتوافر عادة للروائي في الثقافة العربية،‮ ‬ويتطلب هذا من الروائي جهدا مضاعفا في رحلة بحث عن هذه المصادر التاريخية لشكل المدن بجغرافيتها القديمة‮. ‬خاصة لو أن الكاتبة عنيت بمشروع روائي‮ ‬يستنطق التاريخ والمناطق المسكوت عنها فيه،‮ ‬أو التقطت جانبا إنسانيا وأعادت قراءته وفقا لسياقه التاريخي بكل ما‮ ‬يحوطه من مقومات حياة سياسية واقتصادية واجتماعية ثقافية‮. ‬كما تجسد في نصوصها السابقة منذ البشموري‮ ‬1998،‮ ‬وأدماتيوس الألماسي‮ ‬2006،‮ ‬والصفصاف والآس‮ ‬2010،‮ ‬وغيرها من الأعمال‮. ‬كما لم تقدم سلوي بكر محور المكان وتاريخه وهو منزوع من جانبه الإنساني بل تصنع دائما جدلية المكان مع العنصر البشري في تاريخيته وسياقه الاجتماعي الثقافي‮. ‬وهو ما‮ ‬ينفي ادعاء أصوات تتقول إن الأدب الذي تكتبه المرأة‮ ‬ينحصر في ذاتها وقضاياها المجتمعية والثقافية التي تحارب فيها من أجل وجود إنساني عادل حر‮ ‬يتساوي فيه الجنسان في الحقوق والواجبات،‮ ‬وأنها نادرا ما تفارق تلك المناطق لتكتب فنيا قضايا فكرية خاصة بالشأن العام والمعرفي،‮ ‬لكن تنويعات سلوي بكر في عدد من رواياتها تقوض هذه الادعاءات التي تتغيا حصر عطاءات المرأة المبدعة في مناطق محددة‮. ‬
وهنا أتساءل هل الروائية بسعيها الفني التاريخي هذا تحول الماضي إلي متخيل فني‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحمًل بما تأمله في اللحظة الحاضرة والمستقبل من خلخلة وفحص لكل الموروثات التاريخية التي استقرت وقولبت؟ فكثير من مقولات الماضي وخاصة الدينية كانت أسبابا جوهرية في تعثر الأمام‮ " ‬الحاضر والمستقبل‮" ‬لسطوة نظرنا للخلف دائما،‮ ‬وتقديسنا للسلف وقوة تأثيره بكل تابوهاته،‮ ‬وجموده وعدم انفتاحه علي التعدد الفكري والبحث العلمي‮. ‬
تتمدد أسئلة آمينوس ويتسع أفقه ويستنير مع تنوع الشخوص الذين قابلهم في رحلته بمللهم ومعتقداتهم وأديانهم المختلفة،‮ ‬واكتشافه بمرور الوقت مندهشا أن للإيمان أشكالا لا‮ ‬يختلف جوهرها وبحثها عن التوحيد،‮ ‬لكن‮ ‬يكمن الاختلاف في تجليات طقوسها واتخاذها وسائط بينها وبين الرب،‮ ‬يقول آمنيوس نقلا عن‮ "‬قسطا‮" ‬الموحد من جماعة الحرانية‮:" ‬وعلل الرجل عبادة أهل أون للهياكل بأن قال إنهم قالوا إنه لما كان صانع العالم مقدسا عن صفات الحدوث،‮ ‬وجب العجز عن إدراك جلاله،‮ ‬وتعين أن‮ ‬يتقرب إليه عباده بالمقربين لديه وهم الروحانيون؛ ليشفعوا لهم،‮ ‬ويكونوا وسائط لهم عنده،‮ ‬وأن المعني بالروحانيين هم الملائكة‮ ". ‬أو قول ابن وحشية بعد أن استطاع معرفة اللغة المصرية القديمة‮:" ‬حمدا لله علي هذه النعمة الجليلة،‮ ‬إذ كنت قبلها وكأنني أعمي البصر والبصيرة،‮ ‬فمن خلالها افتهمت أشياء كثيرة كانت قد‮ ‬غمضت علي فهمي وإدراكي لكثير من المسائل والأمور‮ "‬،‮ ‬وبعده‮ ‬يحكي لآمنيوس أصل ما أخذه الإغريق عن علوم المصريين القدماء ثم ما أخذه العرب وورد في القرآن عن المصابيح التي تزين السماء علي سبيل المثال‮.‬
‮ ‬فمن خلال رحلة بحث رجل الدين الأصولي‮ ‬يتكشف له أن الماضي‮ " ‬ما‮ ‬يطلق عليه الفترة الوثنية‮ " ‬ليس آثاما كله وهرطقات بل هناك كثير من المناطق المعرفية المضيئة التي أخذتها الحضارات التي تعاقبت بعد الفرعونية وعليها ابتنت كثيرا من معارفها وعلومها‮. ‬فالتحرر من كل الماضي ليس هو شرط العلو والتقدم في الحاضر والمستقبل،‮ ‬وتلك هي المنطقة الفنية الفكرية الدقيقة التي تلمسها الروائية في اتجاه متوازن لرؤية جدل العلاقات بين الحضارات‮. ‬حيث‮ ‬يبدو الماضي كخزانة حيوية علينا دوما أن نفلتر منه ما‮ ‬يدفع بالتطور في حاضرنا ومستقبلنا،‮ ‬ونرفض منه كل ما‮ ‬يتسبب في جمود وتراجع أوطاننا‮.‬
ولقد تعاملت الروائية مع زمن النص علي عدد من المستويات،‮ ‬فزمن القص هو زمن أحداث رحلة آمنيوس للبحث عن برديات الوصفات الطبية في المعابد المصرية القديمة وهو سريع الإيقاع نسبيا‮ ‬ينتهي ربما ببقائه في معبد دندرة،‮ ‬في المستوي الثاني هناك مناقشة وطرح لمراحل زمنية مختلفة‮ ‬يتناولها النص بداية من العصر الفرعوني القديم وعلومه وتتابع الإغريق ثم الفرس والروم والعرب وتأثيراتهم علي الدولة المصرية وتختار الروائية لهذا بعض القفزات الزمنية لتؤرخ لسلسلة من جرائم محو الآثار المصرية‮. ‬في المستوي الثالث زمن كتابة النص ذاته والذي تبلورت فيه رؤية الكاتبة لهذه القضايا وموقفها الفكري والفني منها‮. ‬
‮ ‬4‮ ‬
برعت الروائية في الإيحاء بطقس النص والفترة التاريخية التي‮ ‬يحكي عنها انطلاقا من أن التاريخ‮ ‬يحدث ولا‮ ‬يُكتب لذا أرادت أن توهم قارئها فنيا بحدوثه الفعلي من خلال لغة مغايرة،‮ ‬والإيحاء بطبيعة ومناخ صراع الراهب بخلفية ثقافته الدينية المسيحية حين شكلت السرد متضمنا لمجموعة من السمات الفنية واللغوية‮:‬
فلقد حرصت في بنائها للتكوينات اللغوية علي مختارات من المفردات القديمة التي تنقل شكل اللغة وطريقة بنائها ونحتها في الفترة التاريخية التي‮ ‬يتناولها النص ولم تكتب فنيا من قبل لشبه الغموض الذي‮ ‬يلازمها مثل‮: ‬البرابي بدلا من الأديرة،‮ ‬الديورة بدلا من الأديرة،‮ ‬تآليفي بدلا من مؤلفاتي،‮ ‬التسفار بدلا من السفر،‮ ‬الفالج بدلا من الشلل،‮ ‬افتهمت بدلا من فهمت،‮ ‬ومفردات مثل الارتباع،‮ ‬السخائل،‮ ‬الزويداك وغيرها‮. ‬وهي فيما أظن تنحت وتختار هذه اللغة في شبكة علاقات السرد وتشكيله وفقا لقراءتها لكتب التراجم والسير وكتب العقيدة لتلك الفترة ومما تخيلته للغتها‮. ‬
اختيار الأسماء مثل‮: ‬تكلا،‮ ‬ودميانة،‮ ‬وأمنيوس،‮ ‬مانتيوس،‮ ‬سيرين،‮ ‬سيرابيون،‮ ‬أبانوب،‮ ‬بسطورس،‮ ‬قسطا‮.. ‬وغيرهم،‮ ‬ورغم أنه ليس لأي وحدة في الكلام منفردة في نظام معين معني‮ ‬غير مستقل بذاته كما‮ ‬يذكر بول ريكور في كتابه‮ "‬التأويلية وفائض المعني‮" ‬إلا أن اختيار المفردات و تباديلها وانتقاءاتها صنع هذه العودة الزمنية،‮ ‬وهذا الطقس الديني والصراع بين العقائد التي تتابعت،‮ ‬ولغتها الخاصة المنتقاة بعناية من قبل الكاتبة‮.‬
بذلت الكاتبة جهدا متبحرا ومستقصيا في قراءة أصل الكلمات ومقارنتها باللغات الأخري وتحولاتها،‮ ‬كما أنها استوعبت معجم اللغة القبطية ومفردات الثقافة المسيحية وأدبياتها المتنوعة،‮ ‬والتناص مع بعض نصوص الإنجيل التي ضفرتها بالسرد لتهب نصها تلك الطاقة المختزنة من القداسة،‮ ‬كما تميز السرد بوعي الكاتبة الدقيق بالجانب العرفاني وعوالم الإشارات والعلامات في المسيحية والجانب التصوفي بها،‮ ‬وتجسيد ذلك في طيات السرد،‮ ‬مثل الصوت الذي نادي الراهب آمينوس اذهب إلي تكلا من أجل تكلا،‮ ‬أو شخصية‮ " ‬بمانتيوس‮ " ‬العابد الذي استجاب آمنيوس لإشاراته‮. ‬كما تضفر الروائية نصها ببعض طقوس الشعائر الدينية في الكنائس،‮ ‬وأنواعها،‮ ‬واختلاف العقائد الكنسية اليعقوبية والملكانية وما تسببه الصراعات فيما بينهم وأثرها علي الحياة الاجتماعية،‮ ‬وفق ما قاله رجل الكهنوت في دير دندرة تعليقا عندما عرف قدوم آمنيوس من دير مريوط‮:" ‬آه،‮ ‬أولستم أنتم الذين هدمتم المعابد في الماضي،‮ ‬وطردتم الكهان؟ ألستم أنتم الذين حطمتم تماثيل الآلهة القديمة،‮ ‬وقتلتم العلماء في الإسكندرية؟ انظروا ما الذي‮ ‬يفعله الإسماعيليون اليوم في بيعتكم وديوراتكم‮. ‬كما تدين تدان‮ ". ‬فتلك التفاصيل الصغيرة والكثيرة وتشكيلها علي نحو سيسيوثقافي هو ما‮ ‬يصنع هذه الانتقالة التاريخية؛ ليعبر النص عن مرحلته الزمنية المسكوت عنها‮.‬
القراءة عن الوصفات الطبية القديمة لتجسيد نموذج الشخصية الرئيسية بالنص وعلومها والإحاطة بسعي رحلته،‮ ‬ولقد تأتي للروائية هذا بالاطلاع علي العديد من الكتب القديمة المتخصصة،‮ ‬التراجم،‮ ‬العقائد،‮ ‬السير،‮ ‬المخطوطات،‮ ‬وتشير الروائية إلي أن فكرة الرواية استندت علي كشف زويجا الدنماركي للبردية الطبية ضمن الآثار الفرعونية القديمة‮. ‬
تثير الكاتبة سؤالا جوهريا بالنص في جوهر العقيدة عند رجل الدين،‮ ‬وما هو موقفه من الحياة الدنيوية؟ وتتخذ من مقولة عيسي عليه السلام سببا في طرح السؤال علي الواقع في هذه اللحظة المعاصرة،‮ ‬وفي الرواية أيضا،‮ ‬يقول آمنيوس‮:" ‬لماذا نسعي لخلاص أنفسنا فقط بالصوم والصلاة والتقوي والعبادة؟ أليس‮ ‬يسوع من قال‮: ‬أنتم ملح الأرض‮.. ‬فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي‮ ‬يروا أعمالكم الحسنة‮..".‬
برعت الروائية في خلق جدل علاقة الحاضر بالماضي من خلال نصها‮ "‬شوق المستهام‮"‬،‮ ‬وأثارت العديد من الأسئلة في إطار إنساني اجتماعي ثقافي،‮ ‬وفي لغة أدبية استطاعت العودة بنا إلي زمن هذا النص وطبيعة الصراع الذي تضمنه‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.