75 رغبة لطلاب الثانوية العامة.. هل يتغير عدد الرغبات بتنسيق الجامعات 2024؟    بحضور مجلس النقابة.. محمود بدر يعلن تخوفه من أي تعديلات بقانون الصحفيين    الأوقاف تعلن أسماء المرشحين للكشف الطبي للتعاقد على وظيفة إمام وخطيب من ذوي الهمم    لمدة 15 يوما.. وزير الإسكان: غداً.. بدء حجز الوحدات السكنية في «بيت الوطن»    «الإحصاء»: 4.1 مليار دولار صادرات مصر لتركيا خلال عام 2023    الأردن.. الخصاونة يستقبل رئيس بعثة صندوق النقد الدولي للمملكة    مؤشر egx70 يرتفع.. البورصة تقلص خسائرها في منتصف تعاملات اليوم الثلاثاء    «مياه أسيوط» تستعرض تنفيذ 160 ألف وصلة منزلية للصرف الصحي    الضرائب: تخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية ل25 ألف جنيه بدءًا من أغسطس المقبل    بنك مصر شريكا ومستثمرا رئيسيا في أول منصة رقمية للمزادات العلنية «بالمزاد»    بوتين يوقع مرسوم استقالة الحكومة الروسية    أوكرانيا: مقتل وإصابة 5 أشخاص في قصف روسي على منطقة سومي شمالا    مسؤول إسرائيلي: اجتياح رفح يهدف للضغط على حماس    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    الإليزيه: الرئيس الصيني يزور جبال البرانس الفرنسية    مؤرخ أمريكي فلسطيني: احتجاجات طلاب جامعة كولومبيا على الجانب الصحيح من التاريخ    قبل موقعة بايرن ميونخ| سانتياجو برنابيو حصن لا يعرف السقوط    بعد الإنجاز الأخير.. سام مرسي يتحدث عن مستقبله مع منتخب مصر    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    أول صورة للمتهم بقتل الطفلة «جانيت» من داخل قفص الاتهام    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    تأجيل محاكمة المتهمة بقت ل زوجها في أوسيم إلى 2 يونيو    ضبط شخص بالمنيا يستولى على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بالمواطنين    مهرجان المسرح المصري يعلن عن أعضاء لجنته العليا في الدورة ال 17    حفل met gala 2024..نجمة في موقف محرج بسبب فستان الساعة الرملية (فيديو)    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    بأمريكا.. وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلاً غنائيًا    في يومه العالمي.. تعرف على أكثر الأعراض شيوعا للربو    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    ضمن حياة كريمة.. محافظ قنا يفتتح عددا من الوحدات الطبية ب3 قرى في أبوتشت    غدا.. "صحة المنيا" تنظم قافلة طبية بقرية معصرة حجاج بمركز بنى مزار    عاجل:- التعليم تعلن موعد تسليم أرقام جلوس امتحانات الثانوية العامة 2024    «تعليم الإسماعيلية» تنهي استعدادات امتحانات الفصل الدراسي الثاني    جمهور السينما ينفق رقم ضخم لمشاهدة فيلم السرب في 6 أيام فقط.. (تفاصيل)    انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض المسرحية الطويلة بجامعة القاهرة    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    مصرع سيدة دهسًا تحت عجلات قطار بسمالوط في المنيا    سعر الأرز اليوم الثلاثاء 7-5-2024 في الأسواق    «تعليم القاهرة»: انتهاء طباعة امتحانات نهاية العام الدراسي لصفوف النقل.. وتبدأ غدًا    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية التجارة    "تم عرضه".. ميدو يفجر مفاجأة بشأن رفض الزمالك التعاقد مع معلول    المتحف القومي للحضارة يحتفل بعيد شم النسيم ضمن مبادرة «طبلية مصر»    اقوى رد من محمود الهواري على منكرين وجود الله    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    لقاح سحري يقاوم 8 فيروسات تاجية خطيرة.. وإجراء التجارب السريرية بحلول 2025    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-5-2024    لاعب نهضة بركان السابق: نريد تعويض خسارة لقب الكونفدرالية أمام الزمالك    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    العاهل الأردني يطالب بمضاعفة المساعدات الإنسانية إلى غزة وإيصالها دون معيقات أو تأخير    شكر خاص.. حسين لبيب يوجه رسالة للاعبات الطائرة بعد حصد بطولة أفريقيا    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    ياسمين عبدالعزيز عن محنتها الصحية: «كنت نفسي أبقى حامل»    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرأة المهووسة
نشر في أخبار الحوادث يوم 13 - 08 - 2016


1
كلمة بوبريما،‮ ‬علي سبيل المثال،‮ ‬لم تُكتب ولم تُنطق أبدًا،‮ ‬لم تدخل في أي كتاب ولا أي جريدة،‮ ‬لم تشكّل جزءًا من أي أغنية ولا من أي بيت شعر،‮ ‬ولا أي كتيب تعليمات‮. ‬لم يضفها أي أحد إلي قائمة المشتروات‮.‬
بوبريما كانت مستبعدة من عالم الكلمات،‮ ‬عالم لم يتسامح مع وجودها‮. ‬كانت كلما اقتربت من كتاب يعيقون خطوتها قبل أن تعبر الغلاف؛ وكلما اقتربت من حوار،‮ ‬نبذها المشاركون فيه؛ وإذا اقتربت من ورشة بطاقات أو ملصقات،‮ ‬ينتهي بها الحال في صفيحة القمامة،‮ ‬بجوار نفايات اليوم‮. ‬وعاجزةً‮ ‬عن الانتماء لشيء أو لأحد،‮ ‬كانت تختبيء بالنهار وتخرج بالليل لتتنفس،‮ ‬مقتربةً،‮ ‬مثل الحشرات الليلية،‮ ‬من النوافذ المضيئة‮. ‬وإن عثرت علي أحد يكتب أو يتكلم علي الجانب الآخر،‮ ‬كانت تسعي بتحفظ للفت انتباهه علي أمل أن يطلب خدماتها‮. ‬وبعيدًا عن ذلك،‮ ‬كان الناس يسدلون الستائر أو يغلقون النوافذ كمن يعيد النظر أمام مشهد مرفوض‮.‬
كل هذا حكته كلمة بوبريما لخوليا ذات ليلة تسللت فيها إلي‮ ‬غرفتها ورفرفت كحشرة حول اللمبة قبل أن تستريح بألف حيطة علي حافة المنضدة‮. ‬تقول الفتاة إنها رفعت عينيها من كتاب النحو الذي كان أمامها وسألت بوبريما ماذا تفعل هنا‮.‬
‮- ‬أنا،‮ ‬لا شيء‮- ‬قالت بوبريما‮- ‬وأنتِ؟
‮- ‬أنا أدرس لغة‮- ‬اعترفت الفتاة‮-. ‬
‮- ‬إذن سيمكنك أن تقولي لي لماذا،‮ ‬وأنا كلمة،‮ ‬لا يقبلونني في أي عبارة‮.‬
تقول خوليا إنها سحبت معجمًا من فوق المنضدة كان بجوار كتاب آخر،‮ ‬وفتحته بحثًا عنها دون أن تحقق نتيجة‮.‬
‮- ‬لستِ‮ ‬هنا‮- ‬قالت‮.‬
‮- ‬كيف سأكون هناك إن كنت هنا؟‮- ‬ردت بوبريما‮.‬
‮- ‬يمكن للكلمات أن توجد في أماكن كثيرة في نفس الوقت،‮ ‬لكن إن لم تكوني هنا،‮ ‬فلن تكوني في أي مكان آخر لأنك لا وجود لكِ‮.‬
‮- ‬وكيف تتحدثين معي إن كان لا وجود لي؟
‮- ‬لا أعرف،‮ ‬فأنا أيضًا أتحدث مع شخصيات خيالية‮. ‬والشخصيات الخيالية،‮ ‬دون وجود،‮ ‬لها قدرة خاصة علي التواصل مع الشخصيات الواقعية‮. ‬لكن لتكوني كلمة ينبغي أن يكون لكِ‮ ‬معني كما يحتاج الطبيب لشهادة‮.‬
‮- ‬وما المعني؟
خوليا أشارت بايماءة،‮ ‬لكن مع عدم عثورها علي الكلمات المناسبة،‮ ‬فضّلت استشارة المعجم مرة أخري‮.‬
‮- ‬يقول هنا إن المعني هو المحتوي الدلالي لأي نوع من العلامات‮.‬
‮- ‬وماذا يقصد بذلك؟
‮- ‬لا أعرف‮.‬
‮- ‬ابحثي عن دلالة،‮ ‬لنري التعريف‮.‬
بحثتْ‮ ‬عن دلالة‮.‬
‮- ‬يقول إنه ما ينتمي أو يتعلق بمعني الكلمات‮.‬
‮- ‬عدنا إذن للبداية‮- ‬اشتكت بوبريما‮.‬
‮- ‬نعم‮- ‬قالت الشابة عاجزة‮-. ‬
‮- ‬لكن بالنسبة لكِ،‮ ‬ما المعني؟‮- ‬سألت الآن الكلمة التي لا وجود لها‮.‬
‮- ‬أعرف ما المعني،‮ ‬لكن لا أعرف شرح ذلك‮.‬
‮- ‬اجتهدي قليلًا،‮ ‬أف‮.‬
‮- ‬انظري،‮ ‬منضدة يقصد بها منضدة،‮ ‬وشجرة يقصد بها شجرة،‮ ‬وأحمق يقصد به أحمق،‮ ‬هكذا عندما تقولين منضدة ترين منضدة داخل رأسك،‮ ‬وعندما تقولين شجرة ترين شجرة،‮ ‬وعندما تقولين أحمق ترين أحمق‮. ‬لكن عندما تقولين بوبريما لا ترين شيئًا لأن بوبريما لا تعني شيئًا،‮ ‬لهذا فأنتِ‮ ‬لستِ‮ ‬كلمة‮. ‬
‮- ‬ألا يمكن أن أكون كلمةً‮ ‬مزيفة؟
‮- ‬مزيفة،‮ ‬كيف؟
‮- ‬مثلما يوجد شرطيون مزيفون أو عملات مزيفة أو مرضي مزيفون‮.‬
‮- ‬لا أعرف إن كانت هناك كلمات مزيفة‮.‬
‮- ‬طيب،‮ ‬إذن،‮ ‬ماذا أكون؟
‮- ‬الحقيقة لا أعرف‮.‬
تقول الشابة إنها انقبضت وعادت إلي أشيائها بينما استمرت بوبريما متأملة‮. ‬وبمرور بضعة دقائق،‮ ‬عادت الكلمة‮ ‬غير الموجودة للتكلم‮. ‬قالت‮:‬
‮- ‬ألا يمكنك أن تصلحي لي مسألة عدم الوجود؟
نظرت الفتاة إلي بوبريما بتفحص‮. ‬بعدها ابتسمت بخبث كأن شيئًا مسليًا أو فاحشًا خطر ببالها،‮ ‬وقالت‮:‬
‮- ‬لعلي أتمكن‮. ‬تعري وارقدي في هذه الورقة‮.‬
وردًا علي سؤال ميّاس لها حول الطريقة التي بها تعرت الكلمة،‮ ‬أجابت خوليا بأنها تعرت بطبيعية،‮ ‬خالعةً‮ ‬ملابسها‮. ‬إذن هذا ما فعلته بوبريما،‮ ‬خلعت ملابسها ورقدت في الورقة البيضاء‮. ‬تقول إنها كانت تبدو مذعورة،‮ ‬كانت كمن أنزلت بنطلونها أو فكت أزرار بلوزتها أمام طبيب‮. ‬وبعد أن فحصتها من أعلي لأسفل،‮ ‬انتبهت الشابة إلي أنها لو استأصلت المقطع الأخير(ما‮)‬،‮ ‬ستبقي بوبري‮.‬
‮- ‬وهل بوبري لها معني؟‮- ‬سألت بوبريما‮-. ‬
‮- ‬نعم‮- ‬قالت خوليا‮-. ‬
‮- ‬ماذا؟
‮- ‬بوبري يعني فقير‮.‬
ولأن بوبريما لم تكف عن تعبير الاستفهام،‮ ‬فتحت خوليا المعجم من جديد وقرأت‮:‬
‮- ‬مَن ينقصه الموارد‮.‬
بوبريما،‮ ‬التي كانت تبدو‮ ‬غير مقتنعة تمامًا بمزايا الوجود في مقابل نقص الموارد بالإضافة للبتر،‮ ‬سألت إن كان سيؤلمها قطع هذا الطرف‮.‬
‮- ‬إذا أجريت لك العملية بالبنج،‮ ‬لن تلحظي شيئًا‮- ‬قالت الشابة مواصلةً‮ ‬المزاح‮. ‬
بعد أن ترددت قليلا،‮ ‬وافقت بوبريما علي أن تبتر لها خوليا المقطع الزائد بسن قلم جاف‮. ‬حدث ذلك ببساطة ودون ألم،‮ ‬لأن الحبر،‮ ‬دون أن يلاحظ ذلك،‮ ‬كان يتمتع بمزايا مسكّنة‮. ‬وبعد أن تجاوزت أثر البنج،‮ ‬نهضت بوبريما،‮ ‬التي أصبحت الآن بوبري،‮ ‬ونظرت لنفسها،‮ ‬ولمست جسدها بايماءات قبول وسارت مسرورة بأن أصبح لها معني،‮ ‬بأن أصبحت أحدًا،‮ ‬بأن انتمت إلي مفردة‮.‬
تقول خوليا إنها نظرت في الساعة،‮ ‬تثاءبت ودخلت في السرير‮. ‬
2
كانت خوليا حينذاك تعمل في محل أسماك كبير المساحة ويقع بعيدًا عن الغرفة التي تعيش فيها بالإيجار‮. ‬كانت تركب المترو القريب من البيت،‮ ‬لكنها تبدل الاتجاه في محطتين ثم تركب أوتوبيسًا أصبح يتركها الآن أمام بوابات المركز التجاري‮. ‬وخلال طريق الذهاب والعودة كانت توئد حلمًا أو تتحدث مع شخصيات خيالية تظهر داخل رأسها وتأتي من حيث تجهل‮. ‬ربما،‮ ‬كانت تحدث نفسها علي سبيل التفسير،‮ ‬تأتي من عالم ناسه بلا جسد فتحتاج،‮ ‬لكي تعيش،‮ ‬أن تدخل في رأس شخصيات من لحم وعظم‮.‬
‮- ‬تعبير اللحم والعظم‮- ‬شددت‮- ‬يسبب لي استياء‮.‬
لو كان ميّاس طلب منها أن تكون أكثر دقة عند الحديث عن الشخصيات الخيالية،‮ ‬كانت ستغير الموضوع،‮ ‬كما لو كانت قضية لا يمكن الحديث عنها‮.‬
تقول إنها أصبحت بائعة أسماك لأنها كانت تبحث في الإنترنت عن كورسات تأهيلية مجانية في أي مجال،‮ ‬عبر صفحة المعهد القومي للعمل،‮ ‬تسمح لها بالعثور علي وظيفة،‮ ‬لأنها كانت تحتاج إلي الهرب من بيت أمها‮. ‬اختارت كورس بائعة الأسماك لأنهم أكدوا لها أن هناك طلبًا كبيرًا عليه ولأن البرنامج يتضمن دراسة الخصائص الحسية للسمك‮. ‬لفت انتباهها كلمة الخصائص الحسية،‮ ‬وقالت‮: ‬هذا هو‮. ‬الخصائص الحسية لجسد،‮ ‬قالت لميّاس،‮ ‬هي التي يمكن من خلالها الشعور بالحواس‮: ‬الطعم،‮ ‬الملمس،‮ ‬الرائحة،‮ ‬اللون،‮ ‬إلخ‮.‬
‮- ‬لا تنخدع‮- ‬أضافت كأنها درست الهندسة‮- ‬الكورس كان‮ ‬380‮ ‬ساعة وكان يجب أن تتعلم تحديد هوية السمكة،‮ ‬تغييرها،‮ ‬الحفاظ عليها‮.‬
‮ ‬في ذاك الصباح،‮ ‬في المترو،‮ ‬وجدت مقعدًا خاليًا تمكنت فيه بالكاد من الاسترخاء لتستسلم للنوم،‮ ‬عندما دخل مسرعًا إلي رأسها كائن متخيل كان يبدو أنه يهرب من شيء‮. ‬تصنعت النوم حتي لا يتحتم عليها الانتباه له‮. ‬
‮- ‬هل أنتِ‮ ‬خوليا؟‮- ‬سألها الكائن‮.‬
لم ترد،‮ ‬لكن الرجل كان يبدو مرتجفًا وكرر السؤال رافعًا صوته‮. ‬انتبهت خوليا حينئذ إلي أنه يحمل مسدسًا في يده‮. ‬لم يكن لديها فكرة عما يمكن أن يحدث في عقلها إن أطلق هذا الكائن المتخيل رصاصة من مسدسه داخل رأسها‮. ‬ربما لن يحدث شيء،‮ ‬حيث يفترض أن المسدس متخيل أيضًا‮.‬
‮- ‬لا أحد يعرف مطلقًا‮- ‬أضافت‮-‬،‮ ‬إذ أن التطفل يملأ الواقع‮.‬
الحقيقة أن فكرة إطلاق رصاصة أخافتها،‮ ‬وبالتالي كذبت‮:‬
‮- ‬لا،‮ ‬لستُ‮ ‬خوليا‮- ‬قالت له‮-. ‬أعتقد أن خوليا هي تلك المرأة‮- ‬أردفت وأشارت بعينيها لشابة كانت واقفة بجانب أحد أبواب العربة فاتحةً‮ ‬كتابًا‮.‬
‮ ‬الكائن المتخيل خرج من رأسها وكان يجب أن يدخل،‮ ‬تقول خوليا،‮ ‬في رأس فتاة الكتاب،‮ ‬حيث إنها توقفت عن القراءة لحظة وأبدت وجه الاستغراب‮. ‬أثناء ذلك،‮ ‬عندما كانت من جديد تستعيد النوم،‮ ‬عاد الرجل المتخيل واتهمها بالكذب عليه‮. ‬
‮- ‬اتفقنا‮- ‬قالت‮-‬،‮ ‬أنا خوليا،‮ ‬لكن توقف عن مضايقتي،‮ ‬ألا تري أنني نصف نائمة؟
الكائن أكد أنه لن يحاول مضايقتها،‮ ‬لكنه بعد قليل بدأ يحكي لها أنه قتل رجلا‮.‬
‮- ‬بالفعل‮- ‬قالت خوليا بطبيعية،‮ ‬إذ بين الأناس المتخيلين يحدث طوال الوقت ما يبدو فظائع بين البشر من ذوي اللحم والعظم‮ (‬مرة أخري اللحم والعظم‮).‬
‮- ‬كان صهري وكان يسيء معاملة أختي‮- ‬أضاف الرجل‮.‬
‮- ‬والآن لن يسيء معاملتها بعد ذلك‮- ‬قالت خوليا‮. ‬
‮- ‬لكن الشرطة تلاحقني الآن‮.‬
‮- ‬وأنا لن أبقيك في رأسي‮. ‬عاجلا أم آجلا سيمرون من هنا‮. ‬إنهم يمرون كل يوم‮.‬
‮- ‬وماذا أفعل؟‮- ‬سأل الرجل الحائر،‮ ‬متلفتًا من جانب لآخر‮.‬
‮- ‬العربة مكتظة بالرؤوس‮- ‬أجابت خوليا‮- ‬تسلل إلي أي منها‮.‬
القاتل المتخيل هجر جسد خوليا وتاه بين حشود الرؤوس التي في هذه الساعة من الصباح كانت تملأ المترو‮. ‬غمّضت خوليا عينيها من جديد وفكرت في بوبريما،‮ ‬الكلمة التي أنقذت حياتها ليلة أمس،‮ ‬والآن تحولت ل بوبري،‮ ‬ما قد يكون ساعدها،‮ ‬دون أي صفقة،‮ ‬لتعثر علي مكان في عبارة‮. ‬
‮- ‬فكرتُ‮- ‬قالت لميّاس‮- ‬في أن الكلمات لكي تكون شيئًا يجب أن تنتمي لعبارات مثل الأشخاص،‮ ‬ليكونوا كاملين،‮ ‬عليهم أن ينتموا لعائلة أو فريق‮.‬
كانت هذه الفكرة تدور برأسها عندما دخل ركضًا فردان من الشرطة بملابس رسمية‮.‬
‮- ‬هل أنتِ‮ ‬خوليا؟‮- ‬سألا‮.‬
‮- ‬نعم،‮ ‬أنا خوليا‮- ‬أجابت باستسلام‮.‬
‮- ‬هل عبر برأسك رجل مسلح؟
‮- ‬نعم،‮ ‬عبر مهرولا‮.‬
‮- ‬وفي اتجاه أي رأس توجه؟
أشارت خوليا بعينها إلي الفتاة التي كانت تقرأ كتابًا بجانب الباب‮.‬
‮- ‬في اتجاه تلك الفتاة‮- ‬قالت‮.‬
‮ ‬راقبت الفتاة ورأت كيف ترفع عينيها من الكتاب مرة أخري،‮ ‬وهذه المرة،‮ ‬كما تقول،‮ ‬كانت معكرة‮.‬
عندما وصلتْ‮ ‬للعمل،‮ ‬لم يكن النهار قد طلع بعد‮. ‬دخلت من باب الموظفين وبعد أن قطعت الممر المتاهي قليلا،‮ ‬والضيق جدًا،‮ ‬وصلت إلي حجرة باردة وسيئة الإضاءة،‮ ‬بدواليب حديدية،‮ ‬يستخدمها العمال لتغيير ملابسهم قبل البدء في اليوم‮. ‬فوق الأفارول الأبيض،‮ ‬الذي كان أساس اليونيفورم،‮ ‬كانت خوليا ترتدي مريلة مضادة للماء،‮ ‬حذاءً‮ ‬برقبة مثل حذاء الصيادين وقفازين من البلاستيك،‮ ‬فللحفاظ علي السمك،‮ ‬الذي عادةً‮ ‬ما يكون رطبًا،‮ ‬يجب الاتصال المستمر بالماء والثلج‮. ‬وكان معها في‮ ‬غرفة الملابس ثلاث أو أربع فتيات أخريات،‮ ‬من أقسام أخري‮. ‬واحدة منهن قالت‮:‬
‮- ‬سترين كيف ستمطر السبت‮.‬
‮- ‬إما أن تمطر وإما لا تمطر‮- ‬أجابت الأخري‮- ‬إن لم تمطر،‮ ‬تمطر‮.‬
‮- ‬وما معني ذلك؟
‮- ‬ليس لدي فكرة،‮ ‬هذا ما كان أبي يقوله‮. ‬إما أن تمطر وإما لا تمطر،‮ ‬إن لم تمطر،‮ ‬تمطر‮.‬
‮ ‬وبينما كان يستمع لخوليا،‮ ‬لم يكف ميّاس عن التساؤل إن كان يضيع وقته أم أنه سيخرج من الفتاة بريبورتاج‮. ‬ريبورتاج مجنون‮. ‬كانت تسحره هلاوسها الشفهية‮ (‬أتكون صائبة؟‮)‬،‮ ‬والسهولة التي بها تنزلق من موضوع لآخر،‮ ‬ودقتها في إعادة تدوير الحوارات الدخيلة‮...‬
‮ ‬الاستماع إليها كان يشبه الحضور لسيولة الإدراك،‮ ‬لسلسلة من المونولوجات المتصلة‮.‬
‮- ‬المسألة أنه تحتم عليّ‮ ‬أن أنظر إلي حيث تقف الفتاتان لأتأكد من أنهما حقيقيتان‮- ‬تابعت خوليا‮- ‬إذ بدا لي أنهما تتحدثان مثل الشخصيات الخيالية‮.‬
وأمام مرآة صغيرة تقع في الجزء الداخلي من باب الدولاب،‮ ‬ضبطت الكاب الأبيض الذي به يكتمل يونيفورم محل الأسماك ورسمت ابتسامة ربما لن تفارقها خلال بقية اليوم‮. ‬وبحسب ما شرحوه للمتقدمين للوظيفة قبل بدء العمل،‮ ‬يجب أن يطبعوا هذه الابتسامة علي وجوههم مثل طابع بريد علي ورقة‮. ‬
‮ ‬أدت خوليا البروفة حتي أنها أماءت بوجهها بما يبدو ابتسامة تشبه ابتسامة حشرة عصا بعصا،‮ ‬هكذا تقول،‮ ‬واستطاعت أن تتمسك بها طوال اليوم دون أي تعب عضلي تقريبًا‮. ‬كانت تكتفي بإعادة وجهها لطبيعته في الخفاء من آن لآخر وتستعيد خلال عدة لحظات الوضع الطبيعي لشفتيها والطول المعتاد لحاجبيها‮. ‬تلك الابتسامة،‮ ‬التي تساهم فيها عيناها بمهارة،‮ ‬تفيد بشكل جيد كإيماءة لطف حقيقية تنسب إليها خوليا جزءًا من نجاحها في تصفيات اختيار المؤسسة‮.‬
في الحال شاهدت روبيرتو،‮ ‬رئيسها في العمل،‮ ‬علي متن عربة ميكانيكية ينقل السلعة حديثة الوصول من السوبر ماركت إلي‮ ‬غرف التبريد‮. ‬اتبعته خوليا ودخلت وراءه لواحدة من هذه الغرف متصنعةً‮ ‬أنها تراجع ملصقات الصناديق لتتحقق من أن كل شيء تحت السيطرة‮.‬
كان روبيرتو وخوليا،‮ ‬بمبادرة خاصة،‮ ‬أول الموظفين في الوصول للمركز التجاري‮. ‬وقبل بدء يوم العمل بنصف ساعة،‮ ‬كانا يعملان‮. ‬كانت خوليا تحب النصف ساعة هذه التي تقضيها بمفردها معه،‮ ‬رغم أنهما لا يتكلمان أو يتكلمان قليلا‮. ‬
روبيرتو كان لغويًا،‮ ‬وهي المعلومة التي اطلعت عليها خوليا بعد قليل من بداية عملها بهذا المركز التجاري،‮ ‬عندما سمعت محادثة‮ ‬غير معقولة إطلاقًا بين فتاتين من قسم اللحوم المطبوخة‮. ‬إحداهما قالت‮:‬
إنه لغوي،‮ ‬غير أنه يعمل هنا لأن البطالة في مجاله كبيرة‮. ‬فأول الناس الذين يستغنون عنهم في فترات الأزمة العاملين في الأسماك والعاملين باللغة‮.‬
بحثت خوليا في ويكيبيديا وتحققت من أن فقه اللغة دراسة تهتم بكل الظواهر المتعلقة باللغة‮. ‬ودون أن تستوعب المقال كاملا،‮ ‬وكانت تقول من لحظة لأخري إنه فني جدًا،‮ ‬استوعبت أن روبيرتو كان يعرف أسرار الكلمات التي يجهلها أغلب الناس‮. ‬هي نفسها كانت تعرف بالكاد،‮ ‬إذ أنها هجرت الدراسة سريعًا جدًا‮. ‬وإن كانت الآن تذاكر النحو ليلا،‮ ‬فذلك لأنها تريد أن تكون بمستوي روبيرتو في الحوارات الموجزة التي تجريها معه‮. ‬
في ذاك الصباح،‮ ‬عندما كانا بداخل‮ ‬غرفة التبريد،‮ ‬تجرأت وسألته إن كانت هناك كلمات‮ ‬غير موجودة‮.‬
‮- ‬تعبير‮ "‬كلمات‮ ‬غير موجودة‮" ‬تعبير متناقض‮- ‬صرخ من مقعده بينما كان يرص الشحنة المودعة في شوكة العربة‮-. ‬إن لم تكن موجودة،‮ ‬فهي‮ ‬غير موجودة‮.‬
‮- ‬حقًا‮.‬
‮- ‬ماذا تقولين؟
‮- ‬أقول حقًا‮. ‬
‮ ‬الضجيج القادم من موتور الغرفة كان يعيق الفهم،‮ ‬ما اضطر روبيرتو للنزول من العربة والاقتراب من خوليا‮.‬
‮- ‬ألا تستوعبين أن كلمة‮ ‬غير موجودة هي كلمة لا يمكن أن يكون لها وجود؟ كأنك تقولين إن الشارع الضيق واسع‮.‬
‮- ‬طيب،‮ ‬لا أعرف‮- ‬قالت خوليا‮-. ‬كلمة بوبريما،‮ ‬علي سبيل المثال،‮ ‬لا وجود لها،‮ ‬مع ذلك يمكن أن أنطقها‮. ‬انظر‮: ‬بوبريما‮. ‬
‮ ‬بعد لحظات من الحيرة،‮ ‬وضع روبيرتو إصبع السبابة علي صدغه وهو يحركه من جانب لآخر،‮ ‬كأنه يشير إلي أن خوليا مهووسة،‮ ‬وعاد إلي العربة ليهجر الغرفة إلي رصيف الشحن والتفريغ‮.‬
‮ ‬خرجت خوليا خلفه متوجهةً‮ ‬الآن إلي منضدة محل الأسماك،‮ ‬حيث تناولت خرطوم فم طويل وبدأت من خلاله تملأ بالثلج المجروش المناضد الصلبية التي ستضع فوقها البضاعة بعد ذلك‮. ‬ورغم أنها كانت ترتدي ملابس ثقيلة،‮ ‬إذ تحت الأفارول اليونيفورم الأبيض كانت ترتدي بلوفر ثقيلا برقبة عالية وفانلة،‮ ‬إلا أن البرد في هذه المنطقة من المركز التجاري كان كثيفًا‮. ‬بعد ذلك،‮ ‬عندما يفتحون للجمهور ويشعلون الإضاءة الشديدة،‮ ‬سيتحسن الطقس قليلًا‮.‬
‮ ‬بعد أن ملأت المناضد بالثلج توجهت إلي إحدي الغرف،‮ ‬وشحنت عدة صناديق في عربة يدوية ساقتها بعد ذلك اتجاه المحل‮. ‬أثناء ذلك،‮ ‬كان بقية زملائها قد وصلوا وبدأ كل واحد منهم في عمله استعدادًا لاستقبال الجمهور‮. ‬وكان روبيرتو يتنقل من جانب لآخر،‮ ‬متحققًا من أن كل شيء يسير علي ما يرام،‮ ‬موجهًا تعليمات يراها ضرورية‮. ‬لم يكن رئيس عمل مزعجًا ما دامت العمالة تقوم بواجبها طبقًا للمتفق عليه‮. ‬وفي إحدي مرات ذهابه وإيابه توقف حيث تقف خوليا وأبدي لها إعجابه بمهارتها في عرض الأسماك،‮ ‬حيث ترفع ذيلها بطريقة تعطي انطباعًا بأنها حية‮.‬
‮- ‬هكذا علمونا في الكورس التأهيلي،‮ ‬إنه سهل جدًا‮- ‬قالت نازعةً‮ ‬عن نفسها أي أهمية‮.‬
‮- ‬وبالنسبة ل بوبريما‮- ‬قال مستأنفًا الحوار السابق‮.‬
‮- ‬بوبريما‮- ‬قالت هي‮.‬
‮- ‬من أين جاءتك هذه الكلمة‮.‬
‮- ‬جاءت لتزورني ليلة أمس في‮ ‬غرفتي‮- ‬أجابت خوليا‮.‬
أطلق روبيرتو ضحكة دون أن يكف عن ترتيب السمك الميت‮. ‬أثناء ذلك اقتربت موظفة من قسم المحار وقالت له إن الرخويات المتبقية قليلة جدًا وأغلبها مفتوحة‮.‬
‮- ‬لا تستخرجيها‮- ‬قال‮-. ‬الرخوية رقيقة جدًا‮. ‬
عندما انصرفت الموظفة،‮ ‬قالت خوليا دون أن تكف عن ترتيب البضاعة‮:‬
‮- ‬الحقيقة أنني لا أعرف ماذا يضحكك‮.‬
3
في تلك الليلة،‮ ‬عندما كانت خوليا تذاكر النحو في‮ ‬غرفتها،‮ ‬دخلت الكلمة بوبري من النافذة‮. ‬لاحظت أنها هي الكلمة القديمة بوبريما لأنها لم تشف كليةً‮ ‬من الجرح الناتج عن استئصال المقطع‮ "‬ما‮" ‬منها‮. ‬الآن قالت إنها تشعر بأنها عرجاء بدون هذا المقطع‮.‬
‮- ‬إذن عليكِ‮ ‬أن تختاري ما بين أن تشعري بالعرج وتكتسبين معني أو أن تكوني كاملة ولا تعنين شيئًا‮- ‬قالت لها خوليا شيئًا مزعجًا‮.‬
قررت الكلمة،‮ ‬بعد لحظات من التردد،‮ ‬أنه إذا كان اكتساب معني يفرض قبول تلك العاهة،‮ ‬فهي تفضّل أن تبقي بلا معني‮. ‬اقترحت عليها خوليا من جديد أن تعيد إليها المقطع المستأصل،‮ ‬والذي احتفظت به لتحليله،‮ ‬تقول،‮ ‬فربما كان ورمًا خبيثًا،‮ ‬وبوبري عادت لتخلع ملابسها وتمددت علي الشزلونج واستسلمت لإجراء العملية،‮ ‬أو إلغاء العملية،‮ ‬بحسب مكان الرؤية،‮ ‬أجرتها لها خوليا وردت إليها بغرزتين مقطعها المفقود‮. ‬وبعد أن صارت من جديد بوبريما،‮ ‬نهضت وتأملت نفسها،‮ ‬ارتجف جسدها وتنفست براحة،‮ ‬كمن عثر في جيبه علي محفظة ظن أنه قد فقدها،‮ ‬وقالت إن ذلك شيئًا آخر‮. ‬ثم انصرفت من الغرفة دون أن تقول شكرًا‮.‬
تقول خوليا إنه تحتم عليها نشر خبر أن لديها عيادة للنحو أو شيء شبيه،‮ ‬هكذا،‮ ‬خلال الأيام التالية،‮ ‬بدأت عبارات في تقديم نفسها دون أن تجرؤ أن تعترف لها بأنها دكتورة ولا بأن تلك الغرفة عيادة‮. ‬وتحققت من أن هناك عبارات من كل الأنواع المتخيلة‮: ‬عبارات بمشاكل فسيولوجية وعبارات بمشاكل سيكولوجية‮. ‬كما كان ثمة عبارات تعاني من اضطرابات نفسية،‮ ‬من بينها ما تعاني من ضعف الجسد نتيجة لمشكلة عقلية أو ضعف العقل نتيجة لصراع جسدي‮. ‬شاهدتْ‮ ‬عبارات مكسورة وعبارات مفكوكة وعبارات مزدوجة الشخصية أو مزدوجة المعني،‮ ‬حتي لا نتحدث عن عبارات منحوتة،‮ ‬مقتضبة،‮ ‬سيئة النغمة،‮ ‬بسيطة،‮ ‬معقدة،‮ ‬شفافة‮...‬
ذات يوم جاءت إلي العيادة جملة‮ "‬أنا عبارة‮".‬
‮- ‬وأنتِ‮ ‬ماذا حدث لكِ؟‮- ‬سألت خوليا،‮ ‬التي كانت تتعامل معها بتعالٍ‮ ‬ما،‮ ‬مثل أغلب الأطباء الخبراء في تعاملهم مع مرضاهم‮.‬
‮- ‬حدث أنني عبارة عبثية‮. ‬لو نظرت للوهلة الأولي لكينونتي،‮ ‬ما ضرورة أن أعلن ذلك بصوت مرتفع؟‮ ‬
‮- ‬كل الحيطات قليلة‮- ‬قالت خوليا‮-. ‬انطري،‮ ‬أنا نفسي أعرف أنني خوليا،‮ ‬مع ذلك لدي بطاقة هوية تبرهن ذلك‮. ‬علي سبيل الاحتياط‮.‬
‮- ‬علي سبيل الاحتياط لماذا؟
‮- ‬ربما يطلبها ضابط شرطة،‮ ‬فعلي سبيل المثال،‮ ‬طلبوا مني البطاقة ثلاث مرات خلال هذا الشهر‮. ‬أنا لا يلاحظ علي من الخارج أنني خوليا،‮ ‬لأن ليس لي شكل خوليا‮. ‬ربما أكون فليثيداد،‮ ‬أو أنطونيا،‮ ‬أو كايتانا‮. ‬وأنتِ،‮ ‬بالإضافة إلي أن لك شكل عبارة،‮ ‬تقولين عن نفسك أنك عبارة‮. ‬ومن المستحيل أن يخلط أحد بينك وبين شيء آخر مختلف‮. ‬أنتِ‮ ‬لا تحتاجين لبطاقة هوية ولا لشهادة ميلاد‮. ‬
‮ ‬انصرفت العبارة مقتنعة تقريبًا بمزاياها‮. ‬وبشكل لافت،‮ ‬كانت الزائرة التالية في تلك الليلة جملة‮: ‬أنا لست عبارة‮.‬
‮- ‬قولي لي‮: ‬هل أنا عبارة أم لا؟‮- ‬سألت العبارة خوليا‮-. ‬
‮- ‬أنت عبارة بالطبع‮- ‬أجابت الشابة‮-. ‬
‮- ‬إذن لماذا أقول أنا لست عبارة‮.‬
‮- ‬لا أعرف‮- ‬قالت خوليا،‮ ‬التي لم تتجرأ علي أن تعاملها مباشرة علي أنها كذابة‮- ‬ثمة أناس يقولون شيئًا ويقصدون شيئًا آخر‮. ‬إنه أمر شائع‮. ‬في عملي هناك سمّاك متخصص في اللغة‮. ‬ربما تكونين عبارة جاسوسة،‮ ‬عبارة متطفلة تريد أن تعبُر للعبارات الأخري بلزوجة لتراقب شيئًا فيها‮. ‬ولعلك عبارة متواضعة جدًا،‮ ‬لا تحبين التفاخر بأنك عبارة‮. ‬الأذكياء حقيقةً‮ ‬لا يحبون التفاخر بذكائهم‮.‬
‮- ‬بالنسبة لي،‮ ‬بالطبع،‮ ‬لم أعطِ‮ ‬أبدًا أي تلميح بأنني عبارة‮- ‬قالت أنا لست عبارة بنبرة ذات تواضع مترفع‮.‬
‮- ‬إذن ربما ذلك‮- ‬ختمت الشابة‮.‬
لم يكن لدي خوليا إجابات لأغلب المسائل التي كانت تطرحها العبارات،‮ ‬غير أن العبارات كانت تحضر لاستشارتها فكانت تعاملها كلها باهتمام،‮ ‬محاولةً‮ ‬ألا تصيبها بخيبة الأمل ولا أن تصيب نفسها،‮ ‬وهكذا كانت تدرس النحو بجدية لم تعهدها في أي مشروع آخر‮. ‬ولحسن الحظ،‮ ‬كانت عبارات كثيرة تطرح مشكلات سهلة الحل‮. ‬كلبي عوراء،‮ ‬علي سبيل المثال،‮ ‬كانت تؤلمها المفاصل لأن،‮ ‬كما لاحظت خوليا في الحال،‮ ‬كلب وعوراء لا يتفقان‮. ‬شرحت للعبارة أن التعارض يشبه إدخال قطعة بازل في مكان‮ ‬غير مكانها‮. ‬
‮- ‬حينها ستعاني القطعة ويعاني البازل‮- ‬قالت‮-. ‬لاحظي أن كلب كلمة مذكرة وعوراء كلمة مؤنثة‮. ‬
العبارة وضعت وجه من تجهل معني المذكر والمؤنث،‮ ‬هكذا خوليا كانت تلاحظ أن أغلب الجمل،‮ ‬مثل أغلب الأشخاص،‮ ‬لا تعرف شيئًا عن نفسها‮. ‬كلبي عوراء لم تكن تحتاج إلي شروحات،‮ ‬فقط كانت تريد أن تقص لها خوليا الألم،‮ ‬هكذا أرقدتها علي كراسة ووضعت لها بعض البنج وأجرت لكلمة عوراء عملية صغيرة تتلخص في تحويل الكلمة من مؤنث إلي مذكر،‮ ‬بحيث صارت العبارة كلبي أعور‮.‬
‮- ‬عندما استوت العبارة في مجلسها‮- ‬تقول خوليا‮- ‬كانت تبدو أخري،‮ ‬ولم يكن شيء يؤلمها‮.‬
شكرتها العبارة جدًا،‮ ‬ورغم أنها كانت تعيش في كتاب مبلل(رواية كان فيها المطر مستمرًا طول الوقت وكان الروماتيزم معتادًا‮) ‬لم تعانِ‮ ‬من ألم المفاصل مرة أخري‮. ‬
‮- ‬لكن ليست كل المشكلات التي كانت تأتيني سهلة‮- ‬توضح أمام نظرة مياس المندهشة‮. ‬
بالطبع لم تكن كذلك‮. ‬فذات ليلة ظهرت في‮ ‬غرفتها أمي لديها أسلاك في الجفون،‮ ‬وهي عبارة مربكة بشكل واضح،‮ ‬مع ذلك ذكّرت خوليا بخشونة رموش أمها الاصطناعية،‮ ‬التي كلما قبّلتها عند فتح أو إغماض عينيها كانت تخدش وجهها‮. ‬العبارة كانت مكتئبة لأن العبارات الأخري التي كانت تعيش معها في منهج تعليم الإسبانية للأجانب كانت تهرب من صحبتها كما لو كانت طاعونًا‮. ‬
‮- ‬جسديًا‮- ‬كانت تقول‮- ‬حالتي جيدة،‮ ‬لا شيء يؤلمني،‮ ‬غير أنني أكتئب عندما أري كيف تنظر إليّ‮ ‬عبارات الكتاب الأخري‮. ‬
‮- ‬يحدث أنكِ‮ ‬عادية،‮ ‬أتكلم عن حالتك الجسدية‮- ‬أجابتها خوليا‮-‬،‮ ‬كل عناصرك متسقة ومتناسقة بشكل جيد‮. ‬إضافة إلي أن نغمتها لها وقع مريح جدًا‮. ‬أمي لديها أسلاك في الجفون تحتوي،‮ ‬لو انتبهتِ،‮ ‬علي إيقاع شعري‮. ‬
كانت خوليا قد درست منذ فترة قريبة القصيدة ذات الأحد عشر مقطعًا،‮ ‬التي شاع استخدامها،‮ ‬كما يقول الكتاب،‮ ‬بين أفضل الشعراء وانتبهت في الحال أنها تنتمي إلي تلك الطبقة‮. ‬
‮- ‬أنتِ‮ ‬قصيدة ذات أحد عشر مقطعًا‮. ‬في الواقع أنتِ‮ ‬مكونة من ثلاثة عشر مقطعًا،‮ ‬لكن بما أن الكلمة الأخيرة يقع التشديد فيها علي المقطع السابق علي ما قبل الأخير،‮ ‬يجب ألا نعد مقطعًا،‮ ‬هذه هي المعايير‮. ‬أنتِ‮ ‬مقسومة إلي نصفين،‮ ‬يسميان شطرين‮. ‬الشطر الأول هو أمي لديها،‮ ‬والثاني أسلاك في الجفون‮. ‬إن ركزتِ،‮ ‬بين مقطع وآخر،‮ ‬لتستمتعي بإيقاعكِ،‮ ‬من المناسب أن تعملي وقفة صغيرة‮. ‬يجب أن تقرئي نفسك بهذه الطريقة‮: ‬أمي لديها‮ ‬\ أسلاك في الجفون‮.‬
كانت العبارة تتأمل خوليا بالاحترام الذي به ينظر مريض إلي طبيب يشرح له أشياءً‮ ‬عن نفسه لا يفهمها،‮ ‬لكن صحته تعتمد علي هذه الشروحات‮. ‬حتي دون أن تعرف ما المقطع وما الشطر،‮ ‬كل ما كانت خوليا تقوله كان له رنين حسن بداخلها‮. ‬
‮- ‬كانت تشعر بالسعادة لأنها معقدة جدًا‮- ‬شرحت خوليا لميّاس‮.‬
بالفعل،‮ ‬كانت تعتقد أنهم في كتاب اللغة الإسبانية للأجانب ينظرون لها بحقد لأنهم حسّاد‮.‬
‮- ‬إذن إيقاعي جيد؟‮ - ‬سألت العبارة‮. ‬
‮- ‬إيقاعك رائع‮- ‬شددت خوليا‮-. ‬مشكلتك ليست في جسدك،‮ ‬بل في رأسك‮.‬
‮- ‬أتقصدين أنني مجنونة؟
‮- ‬أنتِ‮ ‬غريبة‮. ‬انظري،‮ ‬ليس طبيعيًا أن يكون في الجفون أسلاك‮.‬
‮ ‬بقت العبارة متأملةً‮ ‬عدة ثوانٍ‮ ‬وتذكرت الكلمة أظافر،‮ ‬التي كانت إحدي مفردات الكتاب المخصص للأجانب وتعيش فيه ولها رنين يروق لها جدًا‮. ‬حينئذ طلبت من خوليا أن تستبدل كلمة أظافر بكلمة أسلاك‮.‬
‮- ‬ليس معتادًا كذلك أن يكون للجفون أظافر‮- ‬أجابت خوليا بصبر‮-. ‬لا أظافر ولا أسلاك،‮ ‬عليكِ‮ ‬أن تبحثي عن اسم مختلف‮.‬
‮- ‬ما الاسم؟‮- ‬سألت العبارة‮.‬
‮- ‬انظري حولك‮- ‬قالت لها خوليا دون تردد،‮ ‬راضيةً‮ ‬بالفرصة التي أتيحت لها لتبسط معارفها‮- ‬وقولي لي ماذا ترين‮.‬
‮- ‬ترابيزة‮.‬
‮- ‬إذن،‮ ‬ترابيزة اسم‮. ‬وماذا ترين أيضًا؟
‮- ‬كتابًا‮.‬
‮- ‬إذن،‮ ‬الكتاب اسم‮. ‬وماذا أيضًا؟
‮- ‬لمبة‮.‬
‮- ‬إذن،‮ ‬لمبة اسم‮.‬
‮- ‬إذن‮- ‬سألت أمي لديها أسلاك في الجفون مدهوشة‮- ‬كل الأشياء التي أراها حولي اسم؟
‮- ‬بالضبط يا صديقة،‮ ‬اسم أو أسماء،‮ ‬تُقال بالطريقتين‮. ‬ذبابة اسم،‮ ‬سرير اسم،‮ ‬قلم اسم،‮ ‬كراسة اسم،‮ ‬نافذة اسم،‮ ‬بورنس اسم،‮ ‬بيجامة اسم‮...‬
‮- ‬وأجزاء الجسد البشري كلها اسم؟
‮- ‬كلها
‮- ‬الساق اسم؟
‮- ‬نعم‮.‬
‮- ‬والعين اسم؟
‮- ‬كذلك
‮- ‬والفم اسم؟
‮- ‬كذلك،‮ ‬قلت لك كلها‮.‬
‮- ‬والخراء؟
انتبهت خوليا إلي أنها تقول خراء لتثير اشمئزازها،‮ ‬لكنها تجاهلت ذلك وأجابت بنعم،‮ ‬الخراء اسم‮.‬
‮- ‬والفَرْج؟‮- ‬ألحت أمي لديها أسلاك في الجفون‮.‬
‮- ‬كذلك‮.‬
‮- ‬هل من الممكن أن أبدل إذن أسلاك بفروج؟
‮- ‬فلنجرب‮- ‬قالت خوليا لتري الجملة النتيجة بنفسها‮- ‬اخلعي ملابسك ونامي علي هذه الورقة‮.‬
عبارة أمي لديها أسلاك في الجفون تعرت ورقدت فوق الورقة البيضاء،‮ ‬حيث بعملية بسيطة بدلت لها خوليا اسم أسلاك باسم فروج،‮ ‬لتصبح هكذا‮: ‬أمي لديها فروج في الجفون‮. ‬عندما نظرت العبارة لنفسها في المرآة لم تشعر بالرضي‮.‬
عيدي إليّ‮ ‬الأسلاك‮- ‬قالت مستاءة‮.‬
‮ ‬حينها اقترحت عليها خوليا الاسم رموش‮. ‬نظرت العبارة إلي خوليا بارتياب،‮ ‬كما لو أنها تريد أن تخدعها‮.‬
لا تنظري لي هكذا‮- ‬قالت لها‮- ‬ستخرجين رابحة لأن ما يشغل الجفون في الواقع هو الرموش‮. ‬وهذه مشكلتك الوحيدة‮.‬
‮ ‬العبارة استسلمت من جديد لخوليا لتصير هكذا‮: ‬أمي لديها رموش في الجفون‮ ‬
‮- ‬راضية؟‮- ‬سألتها خوليا مثل ترزي يسأل زبونه إن كان يجد نفسه مرتاحًا داخل البذلة الجديدة‮.‬
‮- ‬راضية‮- ‬أجابت العبارة‮.‬
‮- ‬إذن لا يتبقي إلا الإتفاق‮. ‬أنتِ‮ ‬مدانة لي بمئة يورو‮- ‬أضافت بنبرة مزحة لم تلتقطها العبارة‮-. ‬
‮- ‬اليورو اسم؟‮- ‬سألت‮.‬
‮- ‬نعم بالطبع،‮ ‬قلت لك إن كل ما يُلمس وكل ما يُري،‮ ‬وحتي كل ما يؤكل وكل ما يُشم،‮ ‬أسماء‮.‬
‮- ‬وما يُسمع؟
‮- ‬نفس الحكاية‮. ‬الموسيقي اسم،‮ ‬الضوضاء اسم،‮ ‬الحوار اسم‮.‬
‮- ‬هل يهمك إذن أن أعطيك مئة حجر بدلًا من مئة يورو؟ فبعد كل شيء،‮ ‬الحجر أيضًا اسم‮.‬
‮ ‬لم يكن سهلا أن تشرح لها فارق القيمة بين بعض الأسماء وبعضها الآخر،‮ ‬وبالتالي تركتها تنصرف في النهاية دون أن تحصّل منها شيئًا،‮ ‬بعد كل ما كانت قد قالته لها بمزاج‮. ‬ما استطاعت خوليا أن تتحقق منه بعد ذلك أن تلك العبارة قضت حياتها بشكل رائق،‮ ‬دون أن يتدخل أحد في حياتها،‮ ‬داخل نفس الكتاب المخصص للأجانب والذي كان يجعل حياتها مستحيلة من قبل‮. ‬
4
دراسة الاسم،‮ ‬التي سمحت مشكلة أمي لديها أسلاك في الجفون بتناولها بشكل مناسب،‮ ‬تركت آثارًا سيئة علي حالة خوليا النفسية‮. ‬بدأت تشعر باختناق لمعرفتها أنها محاطة بأسماء،‮ ‬أنها هي نفسها اسم سواء علي تقدير أنها فتاة أو شابة أو امرأة أو سمّاكة،‮ ‬الأمر سواء،‮ ‬ففي كل الأحوال هي مجرد اسم،‮ ‬مثلها مثل الناس الذين يحيطون بها في المترو عندما كانت تذهب لعملها،‮ ‬مثلها مثل العربة التي تحتويهم جميعًا،‮ ‬مثل نوافذها وأبوابها ومثل معاطف الرجال وساعاتهم وبلوزات السيدات،‮ ‬مثل أزرارها،‮ ‬كلها أسماء أيضًا‮. ‬وهناك حيث تنظر،‮ ‬ماذا كانت تري‮: ‬وجوهًا،‮ ‬كل منها بفم وأنف وعين وأذن وشعر،‮ ‬بمعني أنها اسم ممتليء بأسماء أخري‮ (‬فكرت في دجاجة محشوة بدجاجة أخري‮). ‬وإذا نزلت ببصرها،‮ ‬رأت أقدامًا وأحذية‮ (‬أسماءً‮ ‬توأم‮) ‬وسيقانًا وشنطًا معلقة علي أكتاف السيدات ومحفظات يمسكها الرجال في أيديهم‮. ‬ما من فجوة واحدة كانت تطل عليها إلا واتضح أنها اسم‮. ‬رائحة المترو نفسها كانت اسم،‮ ‬مثلها مثل الضجيج الصادر عن عجلاته والضوضاء التي تأتيها من المحادثات‮. ‬وفجأة أدركت قرار بوبريما الغريب‮. ‬لم يكن لها معني،‮ ‬أوكيه،‮ ‬لكنها أيضًا لا تنتمي إلي هذا القطيع اللانهائي‮.‬
في ذاك اليوم،‮ ‬ووسط هجمة من الحنين ناجمة عن‮ ‬غزو الأسماء،‮ ‬تركت المترو،‮ ‬خرجت إلي السطح في أي محطة،‮ ‬وتنفست هواءً‮ ‬وهي تعلم أنها تتنفس أيضًا اسمًا وبشكل لا يمكن تجنبه‮. ‬بعدها تجولت بالشوارع،‮ ‬كلها كانت أسماءً،‮ ‬وراحت تتأمل البوابات والسيارات المركونة،‮ ‬وتقول إنها توقفت أمام فاترينات المحلات،‮ ‬التي كانت لا تزال منطفئة،‮ ‬غير أنها كانت تقترب بعينيها من الزجاج لتلاحظ محتوياتها وكل الفاترينات،‮ ‬بلا استثناء،‮ ‬كانت مليئة بأسماء‮. ‬فقدت خلال هذا التسكع الشعور بالزمن وكانت الظهيرة تدخل بينما كانت هي تدخل سوقًا شاهدت فيه أسماءً‮ ‬ميتة ومفتوحة نصفين وكثيرًا منها أصبح فيليه،‮ ‬لكن الفيليه كان اسمًا أيضًا،‮ ‬مثل اللحمة التي جاءت منها‮. ‬لا يهم إلي كم قطعة ستقطع حيوانًا،‮ ‬ولا كبر حجم كل جزء،‮ ‬لأن كل ما تحصل عليه،‮ ‬بما فيه ما لا يُستغل،‮ ‬شئت ذلك أم أبيت،‮ ‬مجرد مجموعة من الأسماء‮. ‬ثمة أسماء لها ريش،‮ ‬كثير منها بلا رأس،‮ ‬وأسماء تأتي من البحر،‮ ‬هذا الاسم الآخر الهائل،‮ ‬الذي منه يأتي الاسم كالماري،‮ ‬والاسم تونة،‮ ‬والاسم ساردين،‮ ‬والاسم قط،‮ ‬والاسم سيّاف البحر،‮ ‬والاسم نازلي،‮ ‬الاسم رخوي،‮ ‬قوقعة،‮ ‬جمبري،‮ ‬جمبري صغير،‮ ‬سلطعون‮... ‬وكثير‮ ‬غيرها تتساوي كونها حية أو ميتة،‮ ‬تتساوي كونها مجمدة أو طازجة،‮ ‬تتساوي لأنها كلها أسماء‮. ‬
انصرفت من السوق ولا يزال أمامها وقت وخطر ببالها امكانية السير وملاحظة كل شيء بشكل دقيق فربما تتمكن من العثور،‮ ‬بين كل الأسماء التي تكوّن العالم،‮ ‬علي شيء يخالف هذا الشرط القواعدي،‮ ‬أي ثغرة تطل من خلالها علي شيء متحرر،‮ ‬علي شيء يكون في النهاية شيئًا آخر‮. ‬لم تكن قادرة علي تخيل شكل هذا الشيء،‮ ‬ولا وظيفته،‮ ‬غير أنها في الحال بدأت تشرد بخيالها مع فكرة أن تأخذه بين يديها وأن تحمله إلي‮ ‬غرفتها وأن تذيع بصوتها أن أحدًا،‮ ‬فتاةً‮ ‬متواضعة،‮ ‬اسمها خوليا،‮ ‬موظفة في محل أسماك كبير المساحة،‮ ‬عثرت علي شيء،‮ ‬دون أن يكف أن يكون شيئًا،‮ ‬لم يكن اسمًا‮. ‬وحلمت أن الطوابير تراصت لتري هذا الشيء الغريب وأنها تلقت دعوات من التليفزيون لتكشفه للعالم وأن كل القنوات،‮ ‬باستثناء تلك التي ظهرت فيها مع هذا اللا اسم،‮ ‬لم تحظ بمستمعين في تلك الليلة‮. ‬وأنها في الشارع كانوا يقتربون منها ويطلبون منها توقيع أوتوجراف ويعانقونها لأنها اكتشفت في النهاية شيئًا لم يكن اسمًا‮. ‬وبعد ذلك منحوها جائزة نوبل،‮ ‬لا تعرف في أي مجال،‮ ‬ولا كان لديها أدني فكرة أي فرع في النوبل يتفق مع اكتشافها،‮ ‬ربما تكون نوبل في الإبداع الجديد،‮ ‬نوبل متخصصة تُمنح كلما قدم شخص للعالم اكتشاف شيء ودون أن يكف عن أن يكون شيئًا،‮ ‬استطاع أن يكون لا اسم‮. ‬وبالأموال التي حصلت عليها من الجائزة أقامت معملا بحثيًا يعمل به أشخاص يرتدون البالطو الأبيض ومن خلال التكنولوجيا الأكثر تقدمًا يعكفون علي البحث عن عالم موازٍ‮ ‬لعالمنا مكونًا من كيانات،‮ ‬رغم أنها كيانات،‮ ‬إلا أنها لم تكن أسماءً‮.‬
‮ ‬فيما كانت الفانتازيا تتطور في رأسها،‮ ‬كانت خوليا تسير عائدة إلي حيها دون أن تنتبه،‮ ‬ووصلت في اللحظة التي عاودها القلق وكان قد اختفي بالفعل بفضل تلقيها لنوبل،‮ ‬وازدادت قوته عندما وجدت نفسها محاطة بكل الأسماء المألوفة لها‮. ‬ولمّا شعرت بنقص الهواء،‮ ‬توجهت بشكل فطري إلي الأسعاف وطلبت منهم أن يحملوها لخدمة الطواريء‮.‬
‮- ‬ماذا حدث لك؟‮- ‬سألت الطبيبة التي كانت شابة لكنها تبدو خبيرة كذلك‮.‬
‮- ‬انظري يا دكتورة‮- ‬قالت خوليا شبه لاهثة‮- ‬كنت في طريقي للمترو عندما تحتم علي الخروج لأنني‮...‬
‮- ‬كنتِ‮ ‬تشعرين بالاختناق؟‮- ‬سألت الدكتورة‮.‬
‮- ‬إلي حدٍ‮ ‬ما‮. ‬نعم،‮ ‬انظري‮. ‬كانت تخنقني فكرة أنني محاطة بأسماء‮. ‬لم يكن ممكنًا أن أنظر في أي اتجاه دون أن أجد اسمًا‮. ‬رؤوس الأشخاص،‮ ‬عيونهم،‮ ‬آذانهم،‮ ‬شفاههم،‮ ‬الأسنان خلف الشفاه وملابسهم وشنطهم وأحذيتهم وجواربهم‮... ‬بعدها دخلت سوقًا مليئًا بأسماء اللحوم،‮ ‬تعرفين الخراف والدجاج والأسماك‮... ‬كل هذا بالإضافة إلي أنني أنا نفسي اسم مكون من أسماء مثل الكبد أو البنكرياس أو الشعر والأظافر وأصابع اليد والقدم،‮ ‬حتي اليد والقدم نفسها أسماء‮.‬
الدكتورة نظرت إلي خوليا بمزيج من الاستغراب والشفقة‮. ‬بعدها نهضت من مكانها خلف المكتب،‮ ‬وتوجهت حيث تجلس هي وربتت علي كتفها،‮ ‬كأنها تتحقق إن كانت المريضة تقبل لمسها‮. ‬
‮- ‬هل يحدث لك هذا منذ فترة طويلة؟
‮- ‬منذ بدأت دراسة النحو‮.‬
‮- ‬حسنًا،‮ ‬لا تقلقي‮. ‬لقد عانيتِ‮ ‬من هجمة حنين لها تأثيرات علي التنفس‮. ‬أتعرفين فيما يكمن اللهث؟
‮- ‬لا يا دكتورة‮.‬
‮- ‬طيب،‮ ‬يكمن في تناول كمية من الأوكسيجين أكثر مما يحتاجها جسدنا‮. ‬يحدث في أوقات الهلع مثل التي تجاوزتها في التو‮. ‬ألا تلاحظين أنك الآن تتنفسين أسرع من المعتاد؟
‮- ‬نعم،‮ ‬لأنني أحتاج لهواء‮.‬
‮- ‬اللهث يسبب هذا الشعور،‮ ‬لكنك في الحقيقة تتنفسين فوق احتياجاتك‮. ‬حاولي أن تسترخي وسترين كيف ستكونين أفضل‮.‬
الدكتورة سحبت من درج مكتبها كيسًا ورقيًا وأشارت لخوليا لتضعه علي فمها وتتنفس بداخله‮.‬
‮- ‬لماذا؟‮- ‬سألت خوليا‮.‬
‮- ‬سترين رويدًا رويدًا،‮ ‬عند تنفس ثاني أكسيد الكربون الذي يخرج من رئتيكِ،‮ ‬كيف تهدئين وتستعيدين إيقاعك الطبيعي‮. ‬
بعد دقائق معدودة كانت قد اختفت هجمة القلق،‮ ‬أو علي الأقل تأجلت‮.‬
‮- ‬أظن أنني بخير‮- ‬قالت خوليا بانطباع الدهشة‮-. ‬لم أكن أتخيل أنه في‮ ‬غاية البساطة‮.‬
كتبت لها الدكتورة مهدئًا للقلق،‮ ‬وأعطتها عنوان طبيب متخصص،‮ ‬وأوصتها أن تذهب إليه إذا ما جاءها الهلع من الأسماء مجددًا‮. ‬
‮- ‬طبيب نفسي‮- ‬أضافت لتوضح لها‮.‬
‮- ‬أتعتقدين أنني مجنونة يا دكتورة؟
‮- ‬لا،‮ ‬بل هي لحظات نمر بها والطب موجود لندافع به عن أنفسنا‮. ‬أتريدين أن أكتب لك إجازة لتستريحي من العمل يومين؟
‮- ‬لا،‮ ‬اعطيني فقط ورقة تبرر تأخيري اليوم‮.‬
سجلت الدكتورة في ورقة أن خوليا جاءت هذا الصباح إلي خدمة الإسعاف لعرض طاريء،‮ ‬وسلمتها لها في ظرف،‮ ‬وودعتها وهي تضغط علي يدها بانطباع متأثر‮.‬
‮- ‬أتسمحين لي بأخذ كيس ثاني أكسيد الكربون؟‮- ‬سألت خوليا‮.‬
‮- ‬بالطبع،‮ ‬خذيه،‮ ‬إنه يفيد في أي شيء‮. ‬ألم تشاهديه في أي فيلم؟
‮- ‬يحدث أني أذهب قليلًا إلي السينما‮-. ‬اعتذرت‮.‬
كل الأطباء يجب أن يكونوا هكذا،‮ ‬فكرت خوليا ممتنة،‮ ‬بينما كانت تترك العيادة‮.‬
‮ ‬قبل أن تدخل المترو،‮ ‬دخلت صيدلية واشترت أدوية القلق بحسب وصفة الدكتورة‮. ‬وهناك فتحت العلبة،‮ ‬وسحبت كبسولة وابتلعتها بعد أن كومت قليلا من الريق في فمها‮. ‬بمرور عشر دقائق،‮ ‬وداخل عربة المترو،‮ ‬لاحظت أن‮ ‬غزارة الأسماء توقفت عن أن تشغلها وفكرت في أن السبب هو الكبسولة،‮ ‬اسم آخر‮. ‬
5
تقول إنها وصلت إلي العمل منتصف الصباح وسلمت الورقة ل روبيرتو‮.‬
‮- ‬ماذا حدث؟‮- ‬سأل بعد أن قرأ‮.‬
‮- ‬حدث لي وأنا في المترو حالة من اللهاث‮- ‬قالت هي،‮ ‬فخورة بأنها استخدمت هذا التعبير‮- ‬وتحتم عليّ‮ ‬أن أهرول إلي الإسعاف‮.‬
‮- ‬فوبيا الأماكن المغلقة؟
حينها رأت خوليا الفرصة للتحدث عن النحو مع اللغوي وأجابت‮:‬
‮- ‬لا،‮ ‬ليس فوبيا الأماكن المغلقة،‮ ‬بل فوبيا الأسماء‮.‬
‮- ‬الأسماء؟
‮- ‬نعم،‮ ‬فكرة أن تري حيثما نظرت أسماءً‮ ‬فحسب،‮ ‬تبدو لي خانقة‮. ‬مثل أن أجد نفسي داخل خلية نحل‮. ‬كنت جالسة علي اسم،‮ ‬أنا نفسي كنت اسمًا وحذائي وملابسي وأحذية وملابس الآخرين كانت أيضًا أسماءً،‮ ‬مثل نظارات الناس وشواربهم،‮ ‬مناديلهم،‮ ‬عيونهم،‮ ‬كتبهم،‮ ‬جرائدهم‮...‬
‮- ‬رأسك ليس مضبوطًا يا فتاة‮- ‬قال روبيرتو‮.‬
‮- ‬رأس أيضًا اسم‮- ‬ردت هي‮.‬
ظل روبيرتو ينظر إليها بإيماءة ما بين الفضول والسخرية،‮ ‬كما لو أنه يشك في أنها تتكلم بجدية‮. ‬بعدها أخذها من ذراعها وقادها إلي مكان أقل ضجيجًا،‮ ‬كأنه سيخبرها بسر‮.‬
‮- ‬لكن الأشياء ليست أسماءً‮ ‬يا خوليا‮. ‬الأسماء هي الكلمات التي نسمي بها الأشياء‮. ‬وإذا ما فكرتِ‮ ‬جيدًا،‮ ‬لن يكون نفس الشيء‮.‬
‮- ‬أليست السمكة اسمًا؟
‮- ‬لا،‮ ‬الاسم هو كلمة سمكة‮.‬
‮- ‬وماذا تكون السمكة؟
‮- ‬السمكة حيوان نسميه بكلمة سمكة‮.‬
‮ ‬تقول خوليا إنها شعرت بدوار،‮ ‬كأنها بلغت حافة الهاوية أو تركوها في التو في مركز متاهة‮. ‬انتبهت إلي أنها لم تكن تعرف بوضوح جدًا ماذا تعني التسمية‮. ‬هل تسمية الشيء يكون بديلا عن امتلاكه؟ هل كنا نسمي الأشياء لأن ليس لدينا طريقة أخري للاقتراب منها؟ هل كان الاسم حاجزًا أو جسرًا بيننا وبين العالم؟ لو لم تتناول كبسولة من دواء القلق لتعرضت مرة أخري للاختناق‮. ‬مع ذلك،‮ ‬فكرت في أن عليها أن تزود الجرعة إن لم تبتعد تلك الأفكار عن رأسها‮.‬
لا أستطيع فهم ذلك‮- ‬قالت في النهاية‮.‬
ما الذي لا تستطيعين فهمه؟
لا أفهم جيدًا ما يحدث بين الكلمات والأشياء،‮ ‬ولا ما يعنيه بالضبط تسمية شيء‮. ‬تعتقد الواحدة أنها تعرف شيئًا وهي لا تعرفه‮.‬
طيب،‮ ‬الآن‮ ‬غيّري ملابسك واخرجي لتهتمي بالزبائن،‮ ‬فالمحل ممتليء لآخره‮. ‬وأنا سأقوم بتسليم الشهادة المرضية لشؤون العاملين‮.‬
في‮ ‬غرفة تغيير الملابس تناولت كبسولة أخري،‮ ‬وبعدها،‮ ‬بينما كانت تغير ملابسها،‮ ‬فكرت في أن الاسم إن لم يكن الشيء،‮ ‬بل الجسر إلي الشيء،‮ ‬فاسمها خوليا ليس هي،‮ ‬بل جسر يوصل إليها‮. ‬ربما يكون جسرًا مكسورًا،‮ ‬إن فكرت في بعض الأحداث لها علاقة بحياتها‮. ‬مع ذلك،‮ ‬كانت تقول لدواخلها‮ "‬روبيرتو‮" ‬وكان يبدو أنها تستحوذ علي روبيرتو،‮ ‬بنفس الطريقة التي تقول بها كلمة ليمون فيمتليء لسانها بالريق‮. ‬مرتديةً‮ ‬اليونيفورم،‮ ‬خرجت إلي المحل وبدأت تعتني بالجمهور دون أن تكف عن التفكير في نوع التبعية الذي تمتلكه الأشياء علي الكلمات،‮ ‬أو الكلمات علي الأشياء،‮ ‬دون العثور علي رابط من خلاله كانت الأولي تعيش مرتبطة بالثانية والعكس‮. ‬بالفعل،‮ ‬قالت لنفسها،‮ ‬بينما كانت تنظف نصف كيلو من سمك السلمون،‮ ‬كلمة سمكة ليست هي بالضبط السمكة‮. ‬عندما قالتها،‮ ‬شعرت باضطراب كبير،‮ ‬كأنها عبرت حجاب،‮ ‬واضعةً‮ ‬نفسها داخل كيان مختلف عن الواقع‮.‬
رغم كل شيء،‮ ‬وبفضل الكبسولة الثانية،‮ ‬التي انضمت تأثيراتها إلي تأثيرات الأولي،‮ ‬ظلت منتبهة بلا مشاكل حتي راحة الظهيرة،‮ ‬مع أنها كانت أبطأ من المعتاد،‮ ‬مثل كاميرا بطيئة،‮ ‬مدركةً‮ ‬لكل حركة من حركاتها‮. ‬بشكل عام،‮ ‬تقول،‮ ‬كنت سريعة جدًا‮: ‬في دقيقتين كنت أفتح السمكة المذهبة وأستخرج من جسدها،‮ ‬مهما كان طازجًا،‮ ‬الشوكة المركزية دون أن يبقي جرام واحد من اللحم ملتصقًا بها‮. ‬وكنت أنتزع منها القشور،‮ ‬التي كانت تقفز حول السكين مثل شرارات الحديد دون أن تؤذي الجلد علي الإطلاق‮. ‬لم أفقد مهارتي،‮ ‬لكن فقدت سرعتي‮. ‬بعض زملائها لفتوا انتباهها لبطئها عندما مروا بجانبها‮ (‬اسرعي اسرعي‮!). ‬غير أن خوليا لم تشعر بضيق عندما رأت أن الواقع يسير أسرع منها،‮ ‬حتي أن ذلك كان يثير فيها شعورًا بالمرح لأنها قادرة علي الاحتجاج‮. ‬
مع قدوم ساعة الراحة،‮ ‬توجهت إلي أحد أبواب المحل الذي من خلاله يستقبلون البضاعة وخرجت لتشم الهواء وهي لا تزال تجتر مسألة العلاقات بين الكلمات والأشياء‮. ‬ثمة شيء لا يمكن اختزاله،‮ ‬شيء لا تستطيع التفكير فيه أو أنها‮ ‬غير قادرة علي فعل ذلك‮. ‬وقتها،‮ ‬ظهر روبيرتو بعدة صناديق فارغة رصها بجانب بعضها لتبقي ملتصقة بالحائط‮.‬
‮- ‬هكذا لا تزالين تدورين مع الأسماء‮- ‬علق متوجهًا إلي خوليا‮.‬
‮- ‬نعم‮ - ‬قالت‮- ‬مع الأسماء المحددة‮.‬
‮- ‬سترين كيف الحال عندما تصلين للأسماء المجردة‮- ‬حذرها وهو يعود للداخل لرص صناديق أخري‮.‬
في الواقع،‮ ‬شرحت ل ميّاس،‮ ‬كانت قد درست أيضًا الأسماء المجردة،‮ ‬لكن بدا لها أن إطلاق هذه العبارة‮ ("‬مع الأسماء المحددة‮") ‬بالشكل الطبيعي الذي قامت به،‮ ‬سيثير شغف روبيرتو‮.‬
في تلك الليلة،‮ ‬عندما كانت مستعدة لتلقي بنفسها فوق السرير قبل الساعة المعتادة بتأثير كبسولات القلق،‮ ‬حضرت لغرفتها عبارة قالت إنها تنسب لنفس كتاب الإسبانية للأجانب الذي تنسب إليه أمي لديها أشواك(الآن رموش‮) ‬في الجفون‮. ‬العبارة كانت خرجت من المترو بسبب هجمة قلق‮.‬
استغربت خوليا من أن الجملة تعبّر عنها‮ (‬أيضًا في عبارة أشواك السابقة حدست علامة علي قسوة رموش أمها المصطنعة‮) ‬لهذا شعرت بأنها مطاردة قليلا‮. ‬
‮- ‬ماذا يحدث لك؟‮- ‬سألت بطريقة شبه متجهمة‮.‬
‮- ‬قلتِ‮ ‬ل أمي لديها أشواك في الجفون إن الاسم هو كل ما يمكن أن يُري ويلمس ويشم،‮ ‬مثل قطة ومثل خراء ومثل فَرج‮.‬
‮- ‬أرجوكِ‮- ‬قالت خوليا متخذةً‮ ‬جدية دكتورة‮- ‬عليكِ‮ ‬أن تتجنبي نطق الأسماء‮ ‬غير المناسبة‮.‬
‮- ‬اتفقنا‮. ‬لكن أيهمك رؤية الأسماء التي أتكون منها أنا؟
‮- ‬اخلعي ملابسك وتمددي علي الشزلونج‮.‬
بمجرد أن خلعت ملابسها وتمددت علي الورقة،‮ ‬شرعت خوليا في البحث عن الأسماء التي تتكون منها خرجت من المترو بسبب هجمة قلق‮.‬
‮- ‬هنا أجد الاسم مترو،‮ ‬والاسم سبب،‮ ‬والاسم هجمة،‮ ‬والاسم قلق قالت وهي تشير لهذه الأطراف بطرف قلمها،‮ ‬دون أن تلمسها،‮ ‬مثل دكتور أمراض جلدية يبجث عن التهابات مشتبه فيها في جسد المريض‮. ‬
‮- ‬هل أنتِ‮ ‬متأكدة أن سبب وهجمة وقلق أسماء؟ أقول لك ذلك لأنني لا أراها ولا ألمسها ولا أشمها‮.‬
خوليا شرحت لها أن هناك نوعين من الأسماء‮: ‬المحددة،‮ ‬مثل منضدة أو قلم،‮ ‬وهي التي يمكن لمسها،‮ ‬والمجردة،‮ ‬مثل كابوس أو سبب،‮ ‬وهي التي يمكن الشعور بها فحسب‮. ‬
‮- ‬الأسماء المجردة‮- ‬أضافت‮- ‬تُدرك بالعقل‮. ‬الهراء،‮ ‬مثلا،‮ ‬أو الجمال،‮ ‬وكذلك السعادة،‮ ‬الوحشية أو الشر كلها أسماء مجردة لأنها تسمي أشياءً‮ ‬لا يمكن لمسها بأصابع اليد،‮ ‬بل بالذكاء‮. ‬
‮- ‬هل هي أشياء روحية؟‮- ‬سألت العبارة‮.‬
‮- ‬شيء كهذا‮- ‬أجابت خوليا‮.‬
‮- ‬بالطبع‮- ‬أضافت متأملةً‮ ‬خرجت من المترو بسبب هجمة قلق‮- ‬فالحال أن المفتاح الإنجليزي ليس مثل الإحساس‮.‬
‮- ‬لقد فهمتِ‮ ‬بشكل ممتاز‮- ‬الإحساس اسم مجرد بينما المفتاح اسم محدد‮.‬
‮- ‬بالتالي أضافت العبارة‮- ‬أنا مكونة من ثلاثة أسماء مجردة‮ (‬سبب‮- ‬هجمة‮- ‬قلق‮) ‬ومن اسم محدد‮ (‬مترو‮) ‬بينما الأسماء في عبارة أمي لديها أسلاك في جفونها،‮ ‬كلها محددة‮.‬
‮- ‬الآن ليس لديها أسلاك،‮ ‬بل رموش‮. ‬
‮- ‬إذن رموش،‮ ‬الأمر سواء،‮ ‬المقصود أنها كلها أسماء محددة،‮ ‬أليس كذلك؟
‮- ‬بالفعل‮.‬
‮- ‬ما يعني‮- ‬ختمت خرجت من المترو بسبب هجمة قلق‮- ‬أنني اكثر روحانية من زميلتي‮.‬
‮- ‬إن أردتِ‮ ‬أن تري الأمر بهذه الطريقة‮...‬
تقول خوليا إن العبارة الروحية انصرفت راضيةً‮ ‬جدًا عن نفسها‮. ‬هي رمت بنفسها بملابسها علي السرير ونامت في الحال‮. ‬
6
في تلك الليلة،‮ ‬وبرغم كبسولات القلق،‮ ‬التي فكرتْ‮ ‬بعد قراءة النشرة الداخلية في أنها ربما لم تكن قوية جدًا،‮ ‬استيقظتْ‮ ‬عند الفجر بشعور بالضيق لأنها فهمت خطأ الفكرة العامة عن الاسم عند دراسته‮. ‬ماذا ظنها روبيرتو عندما وجدها تخلط بين الاسم الذي يطلق علي الشيء وبين الشيء نفسه؟ الكلمة تفتح الباب للاقتراب من الشيء‮. ‬ونقطة‮. ‬فكرت في أنك لو أكلت كلمة خبز،‮ ‬لن تقضي علي الجوع‮. ‬ولا بكلمة مقص يمكنك أن تفتح بطن سمكة‮. ‬الكلمة هي الرواية اللغوية للأشياء كما اللقطة هي الرواية التصويرية‮.‬
ومع أنها أدركت المسألة بطريقة عقلانية،‮ ‬إلا أن مشاعرها كانت تقودها باستمرار للنقطة السابقة،‮ ‬كأن في منطق روبيرتو خدعة ما‮. ‬فكرت من جديد في اسمها،‮ ‬خوليا‮. ‬طبقًا لما درسته،‮ ‬هو عبارة عن شكل خاص للاسم،‮ ‬اسم يطلق علي شخص‮. ‬لكن بالنسبة لها،‮ ‬الاسم والشخص هما نفس الشيء‮. ‬هل كان من الممكن أن تُسمي ب ماريا،‮ ‬أليخاندرا،‮ ‬أو مونيكا؟ إطلاقًا‮. ‬هل كان من الممكن أن يسمي روبيرتو ب مانويل،‮ ‬فرنثيسكو أو بدرو؟ لا أيضًا‮. ‬هي تقول روبيرتو وتنتفض كما لو أنه دخل إلي السرير،‮ ‬معها‮.‬
‮- ‬أحيانًا‮- ‬قالت لمياس القَلِق‮- ‬كانت كلمة روبيرتو تدخل من فتحات مختلفة بجسدي‮ (‬مؤخرتي،‮ ‬فرجي،‮ ‬أذناي،‮ ‬أنفي‮) ‬وكانت تتجول بداخلي وتمنحني متعة بكثافة مجهولة‮. ‬
‮ ‬أثناء ذلك،‮ ‬تقول،‮ ‬سمعت ضجيجًا،‮ ‬فأشعلت النور،‮ ‬وقفزت من السرير،‮ ‬فعثرت علي الاسم رجل فوق المنضدة‮. ‬كانت تسير بالبيجامة،‮ ‬وبدا أن الاسم لم يهتم بذلك‮. ‬أما خوليا،‮ ‬رغم أنها تعرف أن الاسم رجل ليس الرجل نفسه،‮ ‬طلبت منه أن ينظر لجانب آخر حتي ترتدي معطف الطبيب الأبيض،‮ ‬الذي كان أيضًا معطف عاملة الأسماك،‮ ‬والذي معه كانت قد بدأت تهتم بالكلمات‮.‬
الاسم رجل بدأ يتحدث عن الزمن‮. ‬أنها بالفعل كانت تمطر،‮ ‬أنها بالفعل لم تكن تمطر،‮ ‬أنها بالفعل كفت عن المطر‮. ‬كان يبدو أنه من المرضي الذين يخجلون من حكاية ما حدث باستثناء أنهم دخلوا العيادة‮. ‬حينئذ يتكلمون ويتكلمون عن هذا وعن ذاك حتي يكتسبون الثقة‮. ‬وعندما قضي وقتًا في الثرثرة،‮ ‬دعته خوليا برقة أن يحكي مشكلته‮. ‬نظر الاسم لجانب ولجانب آخر،‮ ‬كمن يخاف من أن يستمع إليه أحد،‮ ‬وفي النهاية قال‮:‬
انظري،‮ ‬لقد اطلعت وعرفت أنني اسم ذكر‮. ‬المشكلة أنني لا أجد العضو الذكري في أي مكان‮.‬
الحكاية أن الأسماء ليس لديها أعضاء جنسية‮- ‬وضحت له خوليا‮-‬،‮ ‬لهم نوع،‮ ‬والنوع ليس الجنس تحديدًا‮. ‬رجل،‮ ‬من وجهة نظر النوع،‮ ‬مذكر،‮ ‬مثل قلم‮- ‬أضافت خوليا وأمسكت قلمًا بين يديها‮- ‬منضدة،‮ ‬مع ذلك،‮ ‬مؤنث‮.‬
والمنضدة أيضًا ليس لها عضو جنسي؟
قلت لكِ‮ ‬إن الكلمات لها نوع‮. ‬والنوع،‮ ‬من النظرة الأولي،‮ ‬يشبه الجنس قليلا،‮ ‬لكنه ليس الجنس‮.‬
خوليا كانت قد تحققت من أن الكلمات ليست وحدها ما تخلط بين الجنس والنوع‮. ‬الإنسان أيضًا كان يقع بتكرار في هذا الخطأ‮. ‬هي نفسها عرفت منذ فترة قريبة أن الجنس خصيصة حصرية للكائنات الحية،‮ ‬بينما النوع إحدي خصائص الكائنات النحوية‮.‬
‮- ‬وهل النوع مثل الجنس يساعد أيضًا في الإنجاب؟‮- ‬سألت حينئذ كلمة رجل‮.‬
‮ - ‬لا قالت خوليا‮- ‬لأن الإنجاب عملية بيولوجية،‮ ‬خاصة بالحيوانات والنباتات‮.‬
‮- ‬إذن،‮ ‬لو ضاجعت اسمًا مؤنثًا،‮ ‬ألن يحدث شيء؟ ألن ننجب أبناءً؟
‮- ‬أي اسم مؤنث تريد أن تضاجع؟‮- ‬سألت خوليا‮.‬
‮- ‬أجتمع ب رجُلة،‮ ‬بالطبع‮.‬
‮- ‬رجلة لا وجود لها،‮ ‬صديقي رجل‮.‬
‮- ‬هذا ما كنت أقوله‮. ‬قضيت حياتي كلها أبحث عن رجلة دون أن أجدها‮.‬
‮- ‬أحيانًا نجري وراء أشياء لا وجود لها‮. ‬
‮- ‬وإن تزوجت بالاسم امرأة الذي أعتقد أنه مؤنث؟‮- ‬سأل حينئذ‮.‬
‮- ‬إن تزوج رجل وامرأة‮- ‬قالت خوليا مطبقةً‮ ‬آخر معرفتها‮- ‬من الممكن أن ينجبا أطفالا‮. ‬لكن لا يجب خلط الأشخاص بالكلمات التي تسميهم‮. ‬فكلمة رجل لتسمية الكائن الإنساني،‮ ‬لكنها ليست الكائن الإنساني‮. ‬كذلك كلمة حجر ليست هي جوهر الحجر‮. ‬بحجر يمكن أن نفتح رأس أحد،‮ ‬لكن بكلمة حجر لا يمكن ذلك‮.‬
بدت كلمة رجل حائرة مثلما كانت خوليا عندما اكتشفت الحقيقة‮. ‬
تقولين إنني رجل لكنني لست كائنًا إنسانيًا؟
بالطبع،‮ ‬بنفس الطريقة التي بها كلمة منضدة ليست هي المنضدة وكلمة بيتزا ليست هي البيتزا‮. ‬فلو كانت كلمة بيتزا هي البيتزا،‮ ‬لكان الجوع قد انتهي من العالم في يومين‮. ‬الذين يخلطون بين الكلمة والشيء يصيبهم الجنون‮.‬
الآن تسمينني مجنونًا؟
مجنونًا لا،‮ ‬لكنك تبدو مختلا قليلا‮. ‬لا تشعر بالإهانة،‮ ‬فأنا أيضًا لدي مشاكل نفسية‮.‬
تتحدثين بجد؟‮- ‬سأل رجل،‮ ‬مستفزًا‮- ‬هل الطموح في الارتباط بامرأة وإنجاب أطفال وتكوين عائلة يعتبر مشكلة نفسية حقيقةً؟
الاسم رجل بدأ يتظاهر بالعنف،‮ ‬ما دفع خوليا للنهوض وتوجيه لكمات له في ظهره في نفس الوقت الذي كانت تحدثه عن مزايا النوع في مواجهة الجنس‮. ‬بعدها قدمت له كبسولة من كبسولات القلق التي كتبتها لها الطبيبة‮.‬
تناول هذه،‮ ‬ستجعلك أفضل‮.‬
بمجرد أن بدأ مفعوله،‮ ‬وشعر بأنه أكثر هدوءًا،‮ ‬سأل علي ما يتوقف كون بعض الكلمات مذكر والبعض الآخر مؤنث،‮ ‬قالت خوليا إنها لا تعرف،‮ ‬إن أحدًا لا يعرف،‮ ‬إن هذه إحدي ألغاز اللغة‮. ‬
وكيف يمكن تمييز بعضها من البعض الآخر؟‮- ‬قال‮.‬
بعضها لا يميز‮- ‬قالت خوليا‮- ‬مثل كلمة ساق‮. ‬إما أننا نعرف أنها مؤنثة أو لا نعرف،‮ ‬لكن ليست ثمة طريقة أخري للتأكد‮. ‬بشكل عام،‮ ‬الكلمات التي تنتهي بحرف‮ ‬o كلمات مذكرة،‮ ‬والكلمات التي تنتهي بحرف‮ ‬a مؤنثة‮. ‬هكذا‮ ‬cuadro اسم مذكر،‮ ‬و‮ ‬puerta اسم مؤنث‮.‬
لكن‮ ‬mano ‮ ‬تنتهي ب‮ ‬o ‮ ‬وهي مؤنثة علي ما أعتقد،‮ ‬لأن لا أحد يقول‮ ‬el mano ،‮ ‬بل‮ ‬la mano.
أنت محق‮.‬
‮- ‬وmapa تنتهي ب‮ ‬ a مع ذلك مذكر لأننا لا نقول‮ ‬la mapa،‮ ‬بل‮ ‬el mapa.
- أنت محق مرة أخري،‮ ‬يا سيد رجل‮. ‬وidioma تنتهي ب‮ ‬a ومذكر‮. ‬نحن لا نقول‮ ‬la idioma. ثمة كلمات تتقنع بالمذكر وهي مؤنث،‮ ‬والعكس صحيح‮. ‬علي أي حال،‮ ‬كلمات‮ ‬mano, mapa, idioma مجرد استثناء‮. ‬الطبيعي عندما تنتهي الكلمة ب‮ ‬o تكون مذكر،‮ ‬وعندما تنتهي ب‮ ‬a تكون مؤنث‮.‬
‮ ‬حلت مشكلة رجل قبل أن يفيق كليةً‮ ‬من تأثيرات المهديء،‮ ‬ودخلت السرير ميتة من النعاس‮.‬
‮ ‬كانت ترعبها فكرة أن يتحتم عليها أن تشرح له أنه بالإضافة للمذكر والمؤنث هناك أيضًا النوع المحايد،‮ ‬الذي لا ينتمي للنوع الأول ولا للنوع الثاني‮. ‬لكن في ذاك اليوم كان لديها ما يكفيها‮.‬
7
رغم أن السوبر ماركت كان يفتح أيضًا في نهاية الأسبوع،‮ ‬إلا أن ذاك السبت،‮ ‬تقول خوليا،‮ ‬أخذته إجازة،‮ ‬بذلك تناولت قرصين مهدئين يوم الجمعة ليلًا،‮ ‬بدلًا من قرص واحد،‮ ‬واستيقظت ظهرًا شبه دائخة‮. ‬وبعد أن انتعلت الشبشب وارتدت فوق البيجامة روبًا ثقيلًا،‮ ‬كانت اشترته بعد استئجار الغرفة بقليل،‮ ‬قامت بزيارة صغيرة للحمّام توجهت بعدها إلي المطبخ،‮ ‬إذ كان سيرافين،‮ ‬صاحب الشقة،‮ ‬كان لا يزال جالسًا علي منضدتها‮.‬
صباح الخير‮- ‬حيته خوليا‮.‬
هلًا‮- ‬قال،‮ ‬واستمر في التجول بإصبعه،‮ ‬كأنه يخط طريقًا علي المشمّع المطبوع عليه لوحة كبيرة للهند‮. ‬أحيل علي المعاش منذ سنوات،‮ ‬بعد أن قضي حياته المهنية في شركة سياحة،‮ ‬ما منحه ثقافةً‮ ‬جغرافية كبيرة وسمح له بالسفر في‮ ‬كل العالم‮. ‬نحيف ومنحوت،‮ ‬كان يرتدي طقمًا رياضيًا يسير به في البيت وكان كبيرًا عليه،‮ ‬إذ كان من أنصار الملابس الواسعة جدًا،‮ ‬خاصًة الصالحة للواضع الذي اعتاد التأمل فيه‮.‬
خوليا حكت لميّاس أنها حصلت علي‮ ‬غرفة سيرافين مارباس من خلال إعلان علي الإنترنت‮. ‬بدا لها أن في تركيبة الاسم مع اللقب تختبيء رسالة مشفّرة،‮ ‬فسيرافين اسم ملاك ومارباس اسم شيطان‮. ‬كانت الفتاة تعرف كثيرًا عن الملائكة والشياطين لأنها كرست ساعات كثيرة لدراستهم عندما قال لها شخص ذات مرة،‮ ‬في المترو،‮ ‬إنها تشبه ملاكًا‮. ‬كانت سيدة،‮ ‬وكانت متوجهة إلي باب العربة لتستعد للنزول،‮ ‬فاستغلت ضغوط ساعة الزحام واقتربت بشفتيها لأذن خوليا،‮ ‬كأنها ستقبّلها،‮ ‬لتهمس لها‮:‬
يا فتاة،‮ ‬أنتِ‮ ‬ملاك‮.‬
عاجزةً‮ ‬عن التعبير،‮ ‬ظلت خوليا تراقب كيف وصلت المرأة للرصيف،‮ ‬كيف أُغلق الباب في ظهرها،‮ ‬وكيف أبعدهما القطار بعد ذلك بينما كانت كل واحدة منهما تنظر للأخري‮. ‬وبالليل،‮ ‬في سريرها،‮ ‬عندما‮ ‬غمّضت عينيها،‮ ‬رأتها من جديد تطفو،‮ ‬أكثر منها تسير،‮ ‬فوق حذاءٍ‮ ‬بني مزودًا بنعال هائلة‮. ‬وكانت شفتاها،‮ ‬المحددتان بخط أسود،‮ ‬كأنها مرسومة بقلم للعيون،‮ ‬تضمان ابتسامة ساخرة موجهة إلي خوليا الحائرة‮.‬
لا من طريقة ملبسها ولا من سلوكها كانت المرأة تشكّل جزءًا من المجتمع الذي يركب المترو في تلك الساعات‮. ‬منذ دخلت العربة،‮ ‬فاتحةً‮ ‬طريقًا بين الازدحام بطريقة إلهة(أو عاهرة،‮ ‬مشددةً‮ ‬خوليا لميّاس‮) ‬لتقف بجانب أحد الأبواب البعيدة،‮ ‬لم تكف عن النظر إليها‮. ‬وعندما كانت المرأة تبادلها النظر،‮ ‬وكانت تبادلها باستمرار،‮ ‬كانت خوليا،‮ ‬المختنقة،‮ ‬تهرب بنظرتها‮. ‬مع ذلك،‮ ‬قامت بجرد كامل لملابسها،‮ ‬المكونة من بلوزة بنية،‮ ‬وتشكّل طقمًا مع الحذاء البوت،‮ ‬وتقولب جسدها بكمال نادر،‮ ‬كأنها تستحوذ علي مرونة سائلة تذكرها بإعلان عن عطر‮ ‬غالٍ‮. ‬تحت البلوزة كانت ترتدي بنطلونًا أسود ضيقًا جدًا،‮ ‬وأيضًا سائلًا جدًا،‮ ‬وكان طرفه يتوه داخل البوت‮. ‬وبدلًا من ارتداء معطف،‮ ‬كما يلائم هذا الفصل من العام،‮ ‬كانت تضع علي كتفيها،‮ ‬علي شكل طبقة،‮ ‬شالًا نسيجه‮ ‬غشائي،‮ ‬بألوان ناعمة،‮ ‬يستحضر شكل أجنحة الفراشة‮. ‬أما شعرها،‮ ‬الأسود جدًا واللامع جدًا مثل حرير البنطلون،‮ ‬فكان في شكل ذيل حصان يسمح بكشف كمال ملامح وجهها،‮ ‬قليل المكياج‮.‬
يا فتاة،‮ ‬أنت ملاك‮- ‬قال لها هذا النوع من الأشباح الذي يشبه الكائنات الخيالية أكثر من الكائنات الواقعية‮.‬
‮ ‬وبعد يوم عمل عاشته بحنين من يجتاز نفقًا تتأخر في الخروج منه للأبد،‮ ‬تعرت أمام مرآة في‮ ‬غرفة ببيت أمها،‮ ‬حيث كانت تعيش في تلك الفترة،‮ ‬لتراجع جسدها بحثًا عن آثار الملاك دون أن تعثر عليها‮. ‬حدست،‮ ‬في المقابل،‮ ‬رائحة أسماك كانت تتوغل فيها مستخدمةً‮ ‬كل دفاعاتها،‮ ‬لتسكن بعناد في مسامات جلدها‮.‬
وخلال الأيام التالية،‮ ‬رغم أنها انتظرت دون نتائج أن تظهر من جديد سيدة المترو،‮ ‬قضت عدة ساعات أمام الكمبيوتر باحثةً‮ ‬عن معلومات حول الملائكة‮. ‬بهذه الطريقة وقعت علي منتدي كان فيه أناويل،‮ ‬أحد المشتركين،‮ ‬الذي كان يقدم نفسه كخبير،‮ ‬يشرح لها أن العالم مليء بملائكة لم يستووا بعد،‮ ‬وذلك بعد أن حكت له خوليا ما حدث لها في المترو‮.‬
عندما يخفق شيء أثناء تشكيل هذه الكائنات‮- ‬أضاف أناويل‮- ‬بدلًا من أن تلقي بعيدًا،‮ ‬كما يحدث في كونترولات الجودة المعتادة،‮ ‬يلقون بهم إلي الحياة في شكل كائنات بشرية،‮ ‬رغم أنهم لا يندمجون كليةً‮ ‬في هذا العالم نظرًا لطبيعتهم‮. ‬
‮ ‬وردًا علي أسئلة خوليا،‮ ‬أضاف هذا الأناويل أن هذه الملائكة‮ ‬غير مكتملة،‮ ‬ولكونها‮ ‬غير مدركة لأصولها ولا لطبيعتها الحقيقية،‮ ‬كانت تتجول بين الكائنات البشرية دون أن تتكيف معها،‮ ‬فيما كانت تتطور باستمرار نظرًا لعنف نصفها الآخر،‮ ‬لطبيعتها الشيطانية،‮ ‬رغم أنها كانت شياطين ناقصة أيضًا‮.‬
في الواقع‮- ‬أضاف أناويل‮- ‬عملية إنتاج ملاك وعملية إنتاج شيطان متشابهان‮. ‬فقط في نهاية حلقة المونتاج يمكن استخدام هذه المقارنة،‮ ‬فيُمنح للبعض شهادة بشيء أو بالشيء الآخر‮. ‬كيف؟ بطريقة عشوائية‮.‬
معلومة أناويل ذكّرت خوليا بفيلم تسجيلي عُرض بالتليفزيون حول البناطيل الجينز ذات الماركات المضروبة‮. ‬فكما يبدو،‮ ‬تتميز البناطيل الأصلية عن البناطيل المضروبة فقط بالتيكيت الملصوق بعد عملية التصنيع،‮ ‬إذ أن كليهما يصنّعان من نفس المواد الخام وعلي يد نفس الأشخاص‮.‬
علي أي حال،‮ ‬فكرة أن تكون ملاكًا،‮ ‬حتي لو كنت ملاكًا ناقصًا أو معاقًا،‮ ‬بالإضافة لكونها فكرةً‮ ‬موحية بقوة،‮ ‬جاءت لتفسر لها صعوبات علاقتها مع العالم،‮ ‬إذ يبدو جليًا أنها ألقيت فيه دون أن تكون مزودةً‮ ‬بما تحتاجه تحديدًا لفتح طريق‮. ‬وخلال فترة ما،‮ ‬سائرةً‮ ‬وراء هذا الأناويل،‮ ‬الذي بدأت تراسله باستمرار،‮ ‬واصلت بحثها حول طبيعة الملائكة والشياطين،‮ ‬مندهشةً‮ ‬من أن تنتمي،‮ ‬حتي ولو كعضو هزيل أو ابن‮ ‬غير شرعي،‮ ‬إلي عائلة كبيرة‮. ‬وعندما اصطدمت علي الإنترنت بإعلان سيرافين مارباس،‮ ‬كات تعرف تمامًا المكانة التي يشغلها السرافنة في علم الملائكة وما يعنيه مارباس في علم الشياطين‮.‬
هكذا اتصلت تليفونيًا بسيرافين مؤكدةً‮ ‬له أن الغرفة الإيجار من نصيبها،‮ ‬رغم أنها بعيدة عن العمل الذي التحقت به مؤخرًا،‮ ‬بمحل الأسماك بالسوبر ماركت‮. ‬
البيت كان مكونًا من ثلاث‮ ‬غرف،‮ ‬قرر صاحبه أن يؤجر‮ ‬غرفةً‮ ‬واحدةً‮ ‬فيه‮. ‬وكان السعر مناسبًا جدًا،‮ ‬ورغم أنها شقة بالطابق الثالث وبلا مصعد،‮ ‬إلا أنها علي بعد عشر دقائق من محطة المترو،‮ ‬وبعيدة جدًا عن بيت أمها،‮ ‬التي قررت أن تستقل عنها بعد قليل من حصولها علي عمل في محل الأسماك بالمكان الكبير‮.‬
في لقائها الأول مع سيرافين مارباس،‮ ‬أخذت خوليا دشًا بالماء وكمية‮ ‬غزيرة من الخل والليمون والنبيذ الأبيض،‮ ‬طبقًا لما نصحوها به في منتدي بالإنترنت للقضاء علي رائحة السمك التي،‮ ‬بحسب أحد المشتركين،‮ ‬تأتي من تفاعلات الإنزيمات والبكتيريا فوق جثة الحيوان‮.‬
وظيفة بخاخات الماء علي مناضد محلات السمك‮- ‬أضاف مستخدم النت‮- ‬ليست إلا التغطية علي هذه الرائحة‮.‬
رسمت أيضًا ابتسامة ساذجة تستخدمها مع الزبائن ومع العالم بشكل عام وربما تكون،‮ ‬فكرت عند ملاحظة النتائج التي حققتها،‮ ‬ابتسامة ملاك فعلا‮.‬
في اللقاء الأول ذاك،‮ ‬وضّح لها سيرافين مارباس أنه وزوجته لديهما ابنة طبيبة تمارس الطب في أستراليا،‮ ‬وأن لديها بدورها طفلة فقدت إصبعها‮- ‬الوسطي باليد اليمني‮- ‬عندما أغلق عليها باب‮ ‬غرفة الكراكيب الحديدي‮.‬
بالتالي لدينا حفيدة أسترالية ختم مذهولا كأنه لم يحك الحكاية العدد الكافي لتصديقها أو لجعلها حكايته‮.‬
هناك أناس كثيرون لهم حفيدات أستراليات‮- ‬قالت خوليا بطريقة شبه ميكانيكية،‮ ‬علي طريقة‮ "‬بعد أن نسمع لثلاث مرات ننطق ذهنيًا المرة الرابعة‮".‬
أما بالنسبة لزوجتي‮- ‬واصل سيرافين‮- ‬فتلزم السرير منذ خمس سنوات،‮ ‬لذلك لم تخرج لتحيتك‮. ‬ذات يوم،‮ ‬بعد أن انتهت من حصة اليوجا،‮ ‬بدأت تشعر بثقل في قدمها،‮ ‬ثقل في قدمها،‮ ‬كأن حذاءها من الرصاص،‮ ‬حملناها للمستشفي وخرجت علي كرسي متحرك لأنهم وصلوا للنخاع عندما حاولوا ان يعالجوا لها‮ ‬غضروفًا كانت له علاقة بثقل القدمين‮. ‬تشعر بآلام رهيبة والأطباء جعلوها مدمنة مورفين‮.‬
أوف‮- ‬قالت خوليا شبه مسيطرة علي ابتسامة الاحترام والتواطؤ‮.‬
أحيانًا تري أشياءً‮ ‬علي‮ ‬غير حقيقتها‮. ‬بالأمس رأت ساعي بريد يعبر بغرفة النوم‮.‬
هل كان ساعي بريد أمي؟
لا أعرف إن كان أميًا،‮ ‬لكن لماذا؟
أجابت خوليا بأنه لا لشيء،‮ ‬رغم أنه كان لشيء،‮ ‬إذ كان ساعي بريد أمي يظهر من آن لآخر في رأسها،‮ ‬مطلعها علي الخطابات التي كان يتحتم عليه تسليمها لتقرأ له عناوينها‮. ‬فكرت في أنه قد يكون نفس الشخص‮.‬
سيرافين مارباس أخبر خوليا بأنه تلقي مكالمات من أشخاص كثيرين مهتمين بالغرفة،‮ ‬لكنها راقت له من اللحظة الأولي كضيفة،‮ ‬ما كان يفضّل أن يتركه للحدس‮ (‬كان يثق كثيرًا في حاسة الشم‮) ‬إذ كانت تنقصه الخبرة كمؤجِر‮.‬
‮- ‬هكذا ستشغلين‮ ‬غرفة ابنتي الأسترالية‮. ‬ولابد أنك تفهمين أن ذلك لتساعدينا قليلًا،‮ ‬فمرض زوجتي يكلفنا نفقات كثيرة‮.‬
‮- ‬بالطبع‮- ‬قالت خوليا‮.‬
‮- ‬هنا،‮ ‬إن كنتِ‮ ‬هادئة،‮ ‬يمكنك أن تعيشي حياةً‮ ‬هادئة‮. ‬فزوجتي لا تخرج من‮ ‬غرفتها،‮ ‬عاجزة المسكينة،‮ ‬وتقضي نصف اليوم نائمة أو متصنعة النوم بسبب المخدرات‮. ‬سأعرفك عليها ذات يوم،‮ ‬لا تتعجلي‮. ‬بعد ذلك ستلاحظين أن هذا البيت مزدحم جدًا،‮ ‬وبه حركة كثيرة أيضًا‮. ‬هناك أيام يتصادف فيها وجود الطبيب،‮ ‬دكتور العلاج الطبيعي،‮ ‬الممرض،‮ ‬القس،‮ ‬ورجل الموت الرحيم‮... ‬حركة كثيرة‮.‬
في اليوم التالي أقامت في‮ ‬غرفة إبنة سيرافين الأسترالية،‮ ‬التي كانت تنام في‮ ‬غرفة أخري(البيت من ثلاثة‮ ‬غرف‮) ‬لأن في‮ ‬غرفة الزوجية،‮ ‬بالإضافة للسرير الميكانيكي شبه الفظيع الموجود في المستشفيات،‮ ‬كان ثمة أجهزة علاجية أخري مخصصة للعناية بالمريضة،‮ ‬لم تترك مساحًة لشيء آخر‮. ‬وكانت نافذة‮ ‬غرفة خوليا تطل علي ممر كبير مضيء،‮ ‬في عمقه،‮ ‬بالإضافة لمدخل جراج عام،‮ ‬ثمة نفق لغسيل السيارات بسقف بلاستيكي أو من مادة أخري شفافة ويديره رجل نحيف يترأس عاملين سمينين ينظفان داخل السيارات ويراجعان الأركان التي كانت تهرب من الماكينة‮. ‬النشاط الذي لا يتوقف كان أيضًا رتيبًا،‮ ‬بحيث كانت خوليا تقضي جزءًا من وقت فراغها في الفرجة علي هذه الحركة الكسولة بينما كانت تتلصص علي الحركات داخل رأسها‮.‬
تعرفت علي إميريتا،‮ ‬زوجة سيرافين،‮ ‬في اليوم التالي لإقامتها عند عودتها من العمل ليلا‮. ‬وقبل أن تتمكن من إزالة رائحة السمك،‮ ‬طلب منها مارباس أن تساعده ليجلس المريضة لتأكل‮.‬
‮- ‬انظري‮- ‬قال لها سيرافين‮- ‬إنها خوليا،‮ ‬الفتاة التي حدثتك عنها‮.‬
أما إميريتا،‮ ‬التي كانت لا تزال عارية تحت ملاءة خفيفة جدًا،‮ ‬حيث لم تكن تحتمل ملمس أي نسيج،‮ ‬فقدمت لها ابتسامة متألمة بينما كانت تستسلم لهما‮.‬
‮ ‬بعد أن ساعدت سيرافين علي تحريك المريضة وأعادت السرير لوضعه السابق ما أن أنهت طعامها،‮ ‬وضعا لها كريمًا علي كل جسدها‮. ‬جلد إميريتا،‮ ‬المفتوح في مناطق كثيرة،‮ ‬كان يشبه‮ ‬غشاء حشرة في مرحلة اليرقة،‮ ‬وكان يطلق،‮ ‬بسبب تعاطيها لكمية كبيرة من الأدوية،‮ ‬رائحًة نفاذة حد أن استحالت رائحة خوليا إلي عدم‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.