كتب عمر إلي من هنالك من الجيش أن يتبرزوا من بين أظهرهم إلي أطراف البلاد وركب عمر رضي الله عنه في أول من المحرم هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل علي ماء يقال له: صرار فعسكر به عازما علي غزو العراق بنفسه واستخلف علي المدينة عليابن أبي طالب واستصحب عثمان بن عفان وسادات الصحابة ثم عقد مجلسا لاستشارة الصحابة فيما عزم القيام به ونودي أن الصلاة جامعة وقد أرسل إلي علي فقدم من المدينة ثم استشارهم فكلهم وافقوه علي الذهاب إلي العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: إني أخشي إن كسرت أن تضعف المسلمين في سائر أقطار الأرض وإني أري أن تبعث رجلا وترجع انت إلي المدينة فسكت عمر والناس عند ذلك واستصوبوا رأي ابن عوف فقال عمر: فمن تري ان نبعث إلي العراق فقال: قد وجدته. قال: من هو؟ .. قال: الأسد في براثنه سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل إلي سعد فأمّره علي العراق وأوصاه فقال: ياسعد بن وهيب لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحبه فإن الله لا يمحو السئ بالسئ ولكن يمحو السئ بالحسن وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله منذ بعث إلي أن فارقنا عليه فالزمه فإنه الأمر.. هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين. ولما أراد فراقه قال له: إنك ستقدم علي أمر شديد فالصبر الصبر علي ما أصابك ونابك تجمع لك خشية الله واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة وانما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء منها: للسر ومنها: العلانية فأما العلانية: فآن يكون حامده وذامه في الحق سواء وأما السر: فيعرف بظهور الحكمة من قلبه علي لسانه وبمحبة الناس.. ومن محبة الناس فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم وإن الله إذا أحب عبدا حببه وإذا أبغض عبدا بغضه فاعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك عند الناس ( قالوا: فسار سعد نحو العراق في أربعة آلاف ثلاثة آلاف من أهل اليمن وألف من سائر الناس وقيل: في ستة آلاف وشيعهم عمر من صرار إلي الأعوص وقام عمر في الناس خطيبا هنالك فقال: إن الله إنما ضرب لكم الأمثال وصرف لكم القول لتحي القلوب فإن القلوب ميتة في صدورها حتي يحييها الله من علم شيئا فلينفع به فإن للعدل أمارات وتباشير فأما الأمارات: فالحياء والسخاء والهين ،اللين وأما التباشير: فالرحمة وقد جعل الله لكل أمر بابا ويسر لكل باب مفتاحا فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق والاكتفاء بما يكفية من الكفاف فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شئ إني بينكم وبين الله وليس بيني وبينه أحد وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه فانهوا شكاتكم إلينا فمن يستطع فإلي من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع. »البداية والنهاية ابن كثير»