تحضرني كلمة للمفكر الفرنسى الكبير اندريه مالرو.. قالها واصفاً الأفلام البوليسية الأمريكية التي اعتدنا أن نطلق عليها اسم (الأفلام السوداء) بأنها المعاول المعاصر الحقيقى للتراجيديا اليونانية لأنها تجمع بين مواجهة الإنسان لأقدار غاشمة، ومحاولته الانتصار عليها ثم سقوطه المدوى أمام قوتها الهائلة.. كما تصور عنا الإنسان وتمرده.. علي القيم السائدة.. وسيطرة صراعه النفسى علي سلوكه العام. كل هذه الصفات.. نجدها في هذا الفيلم الأمريكى الجديد الذي يحمل عنواناً شاعرياً مثيراً هو «كان ما.. وراء أشجار الصنوبر» ويروى خلال مراحل زمنية ثلاثة.. صراعات نفسية تدور داخل النفس البشرية، وصراعات خارجية تدور بين الفرد والمجتمع. ويغطى الفيلم فترة زمنية طويلة.. تتجاوز الستة عشر عاماً.. يتواجه فيها الأجداد مع الأحفاد.. في مسيرة درامية يحرك القدر خيوطها بقوة.. ويسقط الإنسان في حبائلها كما تسقط الذبابة في شرك العنكبوت. الفيلم يجمع بين نجمين كبيرين.. تعدهما السينما الأمريكية ليسيطر علي عرش نجومية هوليوود المقبلة، ميريان كيسلنج بوسامته الظاهرة، وحضوره الدرامى الطاغى الذي أثبته في أكثر من فيلم خصوصاً في كتيبة المجرمين.. الذي رأيناه أخيراً، والذي يعود إلينا في هذا الفيلم قبل أن تتوجه إليه الأنوار مجدداً.. في الدورة القادمة لمهرجان »كان« حيث يلعب بطولة واحداً من أهم الأفلام المشاركة في المسابقة. ميريان كيسلنج.. وقد أصبح في هذا الفيلم فتى أشقر الشعر.. شديد الوسامة كالعادة.. بطل من أبطال الجرى بالموتوسيكلات.. وله برنامج خاص في أحد السيركات المتنقلة.. يعود إلي ماضيه.. يحث كان مرتبطاً بفتاة من أصل لاتينى.. هجرها دون أن يدرى أنها كانت حاملاً منه، وهاهو يعود إليها الآن.. محاولاً التكفير عن خطأه والارتباط بها ورعاية ابنه الصغير الذي أنجبته منه. ولكن العقبات المالية تقف حجر عثرة.. دون تحقيق أحلامه.. مما يضطره إلي قبول عرض أحد الأفاقين بسرقة البنوك.. والهرب بدراجته النارية.. التي لا يمكن ملاحقتها.. وبالفعل يحقق أكثر من مغامرة قبل أن يقع في حيز شرطى.. يلاحقه ويطلق عليه النار دون أن يعطيه فرصة لتسلية نفسه. ويلعب دور الشرطى.. الممثل الصاعد بقوة الصاروخ.. برادلى كوبر الذي رُشح للأوسكار في دورته الأخيرة عن دوره المتميز في فيلم »الإضاءة الفضية« الذي لعب فيه دور زوج يعانى من أزمة نفسية قاتلة.. بعد اكتشافه خيانة زوجته، ويحاول الخروج منها، بعلاقة غريبة تجمعه مع فتاة تعانى مثله اضطراباً عصبياً.. كوبر أدى الدور بمهارة شديدة.. جامعاً بين الهزل والجد.. معبراً عن أزمته النفسية الداخلية.. بعفوية مدهشة.. وتلقائية حازت إعجاب الملايين. إنه هنا يلعب دور الضابط القاتل.. الذي يعيش بعد قتله اللص عمداً ودون سبب أزمة ضمير رهيبة.. تمنعه من مواجهة المجتمع الذى كرّمه على (جريمته) وجعل منه بطلاً. ولكن الشرطى لا يسامح نفسه.. ولكى يكفر عن جريمته يكشف فساد رفاقه في البوليس الذين استولوا علي الأموال التي جمعها العاشق المسكين، الذي أرداه الشرطى قتيلاً.. دون سبب. كوبر عبّر عن عذابه الداخلى بقوة مدهشة.. ومقنعة.. حملها على ظهره.. طيلة خمسة عشر عاماً.. أصبح فيها ابنه الشاب مراهقاً.. يرتبط بصداقة متينة مع ابن اللص القتيل دون أن يدرك أن أباه كان سبباً في موت ومقتل والد صديقه. كل خيوط التراجيديا اليونانية نجدها.. معقودة حول مبدأ الجريمة والعقاب.. التكريم الخارجى.. والعذاب الداخلى.. ولجنة الأقدار التي تجمع بين الغرباء لتصفية الحساب الأخير. فيلم بوليسى مدهش.. يجمع بين سرعة الإيقاع.. وعمق الفكرة.. وجمال الأداء، ويؤكد سيطرة السينما الأمريكية وجودتها وتفوقها.. عندما تقرر التخلى عن (المقبلات) الفارغة.. وتعتنى بالمضمون الفكرى والفنى فتصبح قادرة علي التميز وعن ألا ينافسها أحد.. في هذا الميدان.