من المفاجآت السعيدة التي قدمها لنا مهرجان القاهرة السينمائي الثالث والثلاثون لهذا العام.. هذه المجموعة من الأفلام الفلسطينية الجيدة التي تعكس وجهات نظر أصحابها المختلفة حول هذه القضية الساخنة التي لا تتوقف عن الغليان. الأفلام الفلسطينية التي رأيناها جاءت مختلفة، ناضجة، تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت وتطرح أكثر من سؤال.. وتضعنا أمام أكثر من طريق.. لقد تخلت عن الطابع الوثائقي والتسجيلي الذي كان يميزها سابقًا لتختار خطًا أكثر شجنًا وأشد إنسانية ولتمس قضايا ما كانت تمسها قبلاً.. تتعلق بالحياة العادية التي يحياها الفلسطينيون.. أحلامهم.. آمالهم المغتصبة.. خفقات قلوبهم علاقتهم بأولادهم.. عواطفهم، وموقفهم من أنفسهم بعد هذه السنوات الطويلة من العذاب والكفاح والمقاومة والاستبسال.. شجاعة وإصرار إنتاج هذه الأفلام.. والسعي نحو إحيائها.. كان يحتاج إلي شجاعة وإصرار أكثر من الموهبة.. وهذا ما فعله هؤلاء الأبطال السينمائيون الفلسطينيون بسعيهم الحثيث نحو إيجاد إنتاج من دول تتعاطف مع قضيتهم وتفهمها.. وإذا لم تكن الدول نفسها.. فبعض رعايا هذه الدول الشجعان الذين لم تعم أعينهم الدعايات الخاطئة.. والميديا المستبدة التي تحاول دائمًا أن تغطي وجه الظلم بقناع زائف من الديمقراطية ومن الحق المغشوش. أفلام المرأة والجديد والجميل في هذه الأفلام التي رأيناها من خلال تظاهرة الأفلام العربية أن اثنين منها أخرجتهما سيدات..، شرين دعبس التي أخرجت فيلم «أمريكا» الفائز باستحقاق بجائزة الفيلم العربي الكبري إلي جانب جائزة السيناريو.. ونجوي النجار التي أخرجت فيلم المر والرمان بالاشتراك مع دول مثل فرنسا وبلجيكا وألمانيا والذي فاز بجوائز متعددة في مهرجانات عربية وأجنبية.. وها هو الآن يتلألأ علي الشاشات المصرية إلي جانب تحفة الياسليمان (الزمن المتبقي) التي تروي صفحات دامية وصفحات مشرقة من حياة أسرته في فلسطين من خلال أسلوبه العابث الحزين، الفانتازي الشديد الذكاء والرهافة. إذن «فلسطين كانت ماثلة أمامنا.. في العين.. وفي القلب.. وفي الذاكرة. في المر والرمان.. تقدم المخرجة المؤلفة قصة حب علي خلفية ساخنة قصة حب.. تعبر عنها النظرات أكثر مما تعبر عنها الكلمات.. ويعبر عنها الموقف أكثر مما تقوله الحركات.. الفيلم يقول الكثير والكثير جدًا حول موضوع صعب ودقيق دون أن يسقط لحظة واحدة في ابتذال مشهدي.. أو موقف يمكن الحكم عليه بأنه لا أخلاقي.. رغم أن القصة تقترب في ثناياها.. من الخيانة الزوجية.. وهو موضوع (مقدس) لم تحاول السينما الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها أن تقترب منه سابقًا. حفل زفاف الفيلم يبدأ بحفل زفاف.. حيث نري العريس (زيد) شاب في مقتبل العمر والوسامة يستعد للذهاب إلي الكنيسة في القدس حيث سيتم زواجه من (قمر) الشابةالفلسطينية وفق مراسم وطنية وشعبية تدخلنا في صميم العائلات الفلسطينية المسيحية وطقوسها القديمة المعروفة في الزواج، وبعد الكنيسة.. هناك الاحتفالات الليلية المليئة بالبهجة.. التي تنسينا ما لاقاه العريس من متاعب وهو في طريقه إلي إتمام زواجه.. من الحواجز الإسرائيلية والتفتيش المهين. العريس زيد يملك حقلاً كبيرًا للزيتون.. ومعصرة قديمة تابعة له.. يعصر زيتونه ثم يبيع محصوله.. وزواجه لا يمنعه من إتمام عمله.. لأنه (الموسم) الذي لا يمكن أن يتأخر عن موعده. وفي ليل الاحتفال.. تأتي دورية إسرائيلية لتصادر الأرض بحجة وهمية كالعادة.. ويحاول زيد أن يقاوم.. دفاعًا عن أرضه وحياته ويصطدم بأحد جنود الدورية.. مما يؤدي إلي القبض عليه وإيداعه السجن رهن التحقيق. هذا التحقيق الذي قد لا يتجاوز اليوم إلا في الأحوال العادية.. يستمر شهرًا أو أكثر مما يدعو الأسرة إلي توكيل محامية يهودية للإفراج عنه.. وإثبات حقه بملكية الأرض. وفي هذا الوقت الضائع والحزين لا تجد (قمر) متنفسًا لها إلا أن تعود للعمل الذي كانت تمارسه.. وهو الرقص في فرقة شعبية فولكلورية.. وهناك تقابل (قيس) المدرب الجديد للفرقة الذي تلقي تعليمه في الخارج.. ثم عاد ليشرف علي هذه الفرقة ويقدم عرضه الجديد (المر والرمان) ومنذ اللحظة الأولي.. تبدأ خيوط علاقة مبهمة تدور بين قمر.. العروس الحزينة والمدرب الشاب.. وتحاول هي بكل ما تملك من قوة وإرادة أن تتفاداها.. ولكن خفقات القلب لا تخضع دائمًا لنداء العقل.. ورغم زياراتها المتكررة لزوجها في سجنه.. ورغم إقامتها فترة عند أهلها.. وفترة عند أهله.. تتخذ حجة العمل.. حجة أساسية تدفعها لرؤية قيس والاقتراب منه. ولا يحس بهذه العلاقة أحد.. إلا صاحبة المقهي أم حبيب وتلعب دورها الفنانة الفلسطينية الكبيرة هيام عباس التي رأيناها متألقة في أكثر من فيلم فلسطيني، وهي هنا تبدو عملاقة مدهشة تذكرنا باليونانية (إيرن باباس).. في أسلوبها وحيويتها وذكائها وحضورها الرائع لقد رسمتها الكاتبة والمخرجة.. بالحبر الأسود الغليظ.. فبدت متفوقة في شخصيتها رغم ثانوية الدور.. علي كل الشخصيات الأخري.. إنها امرأة تفهم الحياة.. ومازال شبق الجسد يملأ عينيها وحركاتها. وطنية حتي النخاع.. ثائرة.. متكبرة عنيفة وحنون ومن أجمل مشاهد الفيلم مشاهد حوارها وشجارها مع الدورية الإسرائيلية التي هاجمت مقهاها.. وتصديها لهم بعنفوان وطني يميز النساء الفلسطينيات الثائرات لقد أعطت هيام عباس بدورها هذا للفيلم ألقه وحيويه ومعناه.. وأثبتت أن الممثل الكبير يظل كبيرًا.. حتي لو لم يتعد دوره.. العدة سطور. خلال فترة سجن الزوج.. تنمو العلاقة بين قمر وقيس وكادت أن تصل إلي منتهاها.. وتحدد مستقبل كل منهما، لكن خروج الزوج من السجن والإفراج المؤقت عنه.. يضع الأمور مرة أخري في توازن جديد.. وتشعر قمر.. أن الحب لم يعد من حقها.. فتقرر الابتعاد عن قيس وخنق عواطفها في مشهد أخير عاصف.. يدور في سيارة قيس.. وعلي مشارف المدينة الحزينة التي بدت بيوتها البيضاء كشواهد القبور. ويفتح قيس مدينة ألعاب خاصة به.. ويعرض في حفل الافتتاح استعراض المر والرمان.. ويرقص الراقصون بقلوبهم وأرجلهم رقصات وطنهم الجريح.. بيما تعود (قمر) إلي حضن زوجها دافنة إلي الأبد حبًا كان يمكن أن ينير حياتها.. حبًا عرفت كيف تلجم اندفاعه وكيف تقف في طريق جموحه. أبعاد مثيرة القصة تبدو عادية لا تحمل الكثير من الجديد.. ولكن الإطار الذي تدور فيه يعطيها أبعادًا تراجيدية مثيرة.. الاحتلال.. وسجن الزوج المتعسف.. والرقص الشعبي الذي يطلق فعاليات الجسد ويربطه بشكل مباشر مع أرض الوطن.. اندفاعات القلب الجريح الذي يحتاج إلي الدفء والحنان.. ثم هالة الواجب الذي يفرض نفسه بقوة في الظروف التي تعيشها الأرض المحتلة الآن. كل هذا عرفت المخرجة نجوي النجار كيف تحبكه بيسر وسهولة في نسيج درامي مقنع ومؤثر.. تاركة دومًا في الخلفية.. أرض فلسطين.. وعادات فلسطين.. وقلب فلسطين وواجبها يخفقون كالرايات.. فوق حقول زيتونها الخضراء. البعد العاطفي الجديد فيما تقدمه نجوي النجار.. هو هذا البعد العاطفي.. الذي يفرض نفسه ويصرخ رغم القبور الصارمة التي تتخلله. وقد استطاعت المخرجة الشابة بالفعل أن تقدم لنا شريحة حارة من الحياة الفلسطينية تحت عبء الاحتلال.. بذكاء وحساسية ضاربة هذه المرة علي وتر العواطف الممنوعة. وخالقة نوعًا من الصراع الداخلي بين نداء الواجب وهمس القلب.. في صدر عاشقة.. تكتشف معني الواجب في اللحظة نفسها التي تكتشف فيها قوة الحب وقسوته. فلم يصب أحيانًا فيما اعتدنا أن نراه من أفلام تدور في فلسطين.. (وحشية الاحتلال وظلمه ولا إنسانيته.. والحواجز والفساد ومصادرة الأراضي دون حق وزج الأبرياء في السجون). ولكنها عرفت كيف تخرج من هذا الإطار التقليدي لتقدم لنا خفقات القلب المجنون رغم الألم والحصار والواجب الوطني. منعطف جديد ومن خلال هذه النظرة غير المعتادة.. وهذا المنعطف الجديد.. يستمد (المر والرمان) أهميته وتأثيره.. ويؤكد أن السينما الفلسطينية قد بلغت حدًا من الذكاء يجعلها تعرف كيف تشق لنفسها دروبًا متعددة مضيئة في غابة السينما الكثيفة الأشجار.