تعجبني مسيرة «خالد يوسف» الفنية منذ بداياته كمساعد إخراج أول ليوسف شاهين ثم مشاركا له في إخراج فيلمه الأخير «هي فوضي» ثم الاستقلال بنفسه والاعتماد علي موهبته وحدها في إخراج أفلام ذات نوعيات مختلفة واتجاهات متناقضة من الفيلم السياسي «العاصفة» إلي الفيلم العاطفي ثم الاجتماعي ثم النضالي إن صح التعبير. وفي كل هذه الأفلام استطاع خالد يوسف أن يبتعد عن تقليد منهج أستاذه وإن كان قد التزم بالتكنيك الذي تعلمه منه وطرق إدارة الممثلين وهذه كانت خبرة كبيرة تتألق بها أفلام «يوسف شاهين» وتعطي كل الممثلين المشاركين في أفلامه هالة خاصة لا نراها في أفلامهم الأخري مع مخرجين آخرين. تراجيديا متميزة لكن ما لم يتعلمه خالد يوسف من أستاذه وهي «خبرة يتمتع بها شاهين بقوة وتأثير» هو استغلال خصائص الميلودراما للانطلاق منها إلي بعد إنساني وفلسفي عام يعطيها أحيانا طابعا تراجيديا متميزا كما في فيلم «العصفور».. مثلا أو «عودة الابن الضال». الميلودراما ظلت ثقيلة في أفلام خالد يوسف عجز عن اعطائها الأجنحة الشفافة التي تمكن شاهين من الصاقها بجسد الموضوع الذي يعالجه فراحت تتخبط علي أرض تشحنها المبالغات أحيانا والمفاجآت الميلودرامية الثقيلة .. وإن كان قد نجح في اعطائها صيغة شاعرية حلوة في فيلم «العاصفة» أول أفلامه وأجملها وأقواها حتي الآن . ثم يأتي استغلاله للجنس كأداة درامية فعالة تعطي لكثير من الأحداث دلالتها.. وتطبع الفيلم بطابع خاص وحار يزيد من نكهتها ومن قابليتها للتأثير علي الجماهير الكبيرة خصوصا في مصر. الجنس كان شفافا شاعريا لدي شاهين ويكفي أن نذكر مشاهده في «فجر يوم جديد» أو في «العصفور» بينما تظل حادة قاسية وأحيانا هجومية إلي حد ما لدي «يوسف» بل أن يزيد منها أحيانا لدرجة المبالغة رغبة منه في «صدم» الجمهور والاستيلاء عليه بالضربة القاضية. كل هذه المزايا والعيوب نجدها واضحة ناصعة في فيلمه الآخر «كف القمر» الذي كثّف فيه خالد يوسف رؤياه السينمائية ومنهجه ووصل به إلي أقصي درجاته. جحيم المدينة الفيلم يروي رحلة خمسة أشقاء صعايدة من قريتهم الصغيرة بعد مقتل أبيهم الذي اكتشف كنزا أثريا ولكن جشع التجار أردي به للاستحواذ علي ما وجده .. واضطرت الأم «وفاء عامر» إلي تربية أبنائها الخمسة ثم دفعهم إلي الهجرة إلي القاهرة هربا من انتقام قد يلحق بهم أو لضرورات مواجهة الحياة. الفيلم يروي مصير وأقدار هؤلاء الخمسة.. في جحيم المدنية التي تحاول اختراقهم أو تناديهم كنداهة يوسف إدريس لتلقي بهم في الهاوية. لا أدري لماذا خطر علي ذهني فورا ومنذ بداية الأحداث فيلم الإيطالي فسكونتي «روكر وأخوته» الذي يروي أيضا هجرة أربعة اشقاء من صقلية الفقيرة إلي مدينة ميلانو الشمالية لكن هذه المرة برفقة أمهم ليواجهوا بكل ما يملكون من أصالة وبراءة وكبرياء ريفية مخاطر مدنية تلتهمهم من الداخل واحدا إثر الآخر بل ان التشابه يمتد أيضا إلي حب أحدهم للفتاة التي يرتبط بها أخوه. ولكن كل الأبعاد السياسية والاجتماعية والنفسية الرائعة التي وضعها فسكونتي في تحفته الكبيرة هذه قد غابت تماما عن سيناريو «كف القمر» الذي شارك خالد يوسف في كتابته إلي جانب كاتبه الأصلي «ناصر صلاح الدين». تصوير خلاب بداية كف القمر مغرية وشديدة الجمال أضفي عليها الديكور الرائع والتصوير الخلاب لأمير التصوير في مصر رمسيس مرزوق سحرا لا يقاوم خصوصا المشاهد الليلية التي يضيئها نور القمر.. وتبدو فيها بيوت الصعيد البيضاء وكأنها لوحة مرسومة بأصابع رسام عبقري مليئة بالظلال والإيحاء والشاعرية. كاميرا مرزوق والحركة الذكية التي خلقها خالد يوسف في هذه المشاهد الأولي هيأتنا وفتحت شهيتنا واسعة إلي ما سنراه بعد ذلك خصوصا أن القماشة التي وعدنا بها قماشة مدهشة وتدخل في صلب وضمير المجتمع المصري المعاصر. كيف سيواجه الأشقاء الخمسة «تحول» المدنية وهل ستقوي إرادتهم الريفية الصلبة علي مقاومة إغرائه. وهكذا يطوف بنا الفيلم ببراعة ليوزع الأعمال علي الإخوة الخمسة كل حسب إمكانياته وحسب الظروف التي يواجهها أو التي تقع في متناول يده وبالطبع فإن الكل يأتمر بإرادة الشقيق الأكبر «ذكري» الذي أوصته أمه بأن يكون الراعي والمسئول عن أخوته. وعوضا عن أن يغوص السيناريو في قاع المدنية وأن يمسك بأحشائها وأن يعرضها علينا عارية من دون مساحيق من وجهة نظر هؤلاء «الأبرياء الملتحمين» يقع الفيلم في أحداث ميلودرامية متشابكة ويرتبك الإيقاع ويضطر الممثلون إلي رفع الصوت لكي يعبروا عما يدور في أعماقهم. يقع الأخ الأوسط ويلعب دوره حسن الرداد متفوقا بأدائه علي إخوته الأربعة وإن جنح أحيانا شأن الباقين إلي رفع الصوت واختيار الأداء المسرحي العالي النبرة للتعبير عن غضبه أو تمرده أو اندفاعه يقع في حب فتاة تعمل في اتيليه متواضع ويدرك بعد قليل أنها عشيقة شقيقه الأكبر ولن يتم كشف هذه الحقيقة إلا في الجزء الأخير من الفيلم.. كما يقع الأخ أكثرهم براءة «ياسين» ويؤدي دوره هيثم زكي في محاولة جادة منه لتسلق السلالم يعوقه دائما تلعثمه في الأداء .. وتساعده براءة تقاسيم وجهه لكن لا ينجح في تقديم المستوي المقنع والمؤثر الذي وصل إليه في مسلسله التليفزيوني «دوران شبرا» الذي حقق له جماهيرية كبيرة يستحقها. فتاة لعوب وتنجح «جومانا مراد» في دور العاملة التي يعشقها الشقيقان بتقديم صورة حية لفتاة لعوب أجبرتها ظروف حياتها القاسية علي أن تسير في طريق الشوك. أداء مقنع وسلس وشديد الرقة والجرأة معا حققت فيه «جومانا» نصرا نسائيا حقيقيا وقفت علي مستوي واحد مع نجمتين كبيرتين تتقاسمان أدوار البطولة .. وفاء عامر في دور الأم التي نراها في مراحل عمرية مختلفة تؤدي أحيانا في نمطية واحدة دورا شاقا يتطلب مجهودا خرافيا..وغادة عبدالرازق التي لعبت دور «جميلة» التي تحب ذكري أكبر الأشقاء ولكن أهلها يجبرونها علي الزواج بغيره، وبعد فشل هذا الزواج يرمونها في مستشفي للأمراض العصبية كي يمنعوها من الارتباط بحبيب قلبها الذي يعود مطالبا بها ويتزوجها في المصحة التي ارسلوها إليها بعد أن يقوم بواجب الثأر من قتلة أبيه ولكن أهل جميلة يختطفون أم ذكري كرهينة ليجبروه علي إعادتها إليهم وهذا ما يفعله ذكري راضخا رغم حمل جميلة منه !! ميلودراما ثقيلة مليئة بالثغرات ابعدتنا تماما عن الفكرة الأساسية التي كان يجب أن ينهض عليها الفيلم، والتي لم تعط أي فرصة لغادة عبدالرازق لإظهار قدرتها. مغامرات الإخوة لا أريد الخوض في تفاصيل مغامرات الإخوة الخمسة لأنه من الواضح أن الفكرة كانت جاهزة في رأس الكاتب لمسلسل تليفزيوني تتشعب فيه الأحداث والشخصيات وليس لفيلم سينمائي مكثف يعالج موضوعا شديد الحساسية وشديد الخصوصية، وهذا ما أوصلنا إلي هذه الدرجة من التفكك الدرامي الذي لم تستطع مهارة خالد يوسف وتكنيكه العالي المستوي من رأب صدعه والذي يراهن عليه مثلا في أكثر مشاهد الفيلم سينمائية وتأثرا وهو مشهد استغلال ذكري لأخيه الذي يعمل بائعا جوالاً في عربة صغيرة حيث يخفي أسفل عربته السلاح الذي يتاجر به وتقبض شرطة الأمن علي البائع الجوال ويصادرون العربة ويكاد الأخ يقع في ورطة كبيرة، ينجح ذكري بنفوذه في إنقاذه منها في هذه المشاهد البديعة تجلت قدرة خالد يوسف السينمائية وإيقاعه السريع كنبضات القلب وقدرته علي رسم البعد الاجتماعي والسياسي للأحداث ولو سار الفيلم كله علي هذا المنهج وهذه الوتيرة لوجدنا أنفسنا أمام فيلم خارق للعادة تفخر به سينمانا سنوات طويلة. الحس المكاني الحس المكاني المتميز للمخرج والذي ساعده مدير تصوير عبقري أعطي الفيلم نبرة جمالية مؤثرة في كثير من المشاهد واختيار الأماكن الخارجية الشديدة الذكاء والشديدة الجدة إلي جانب الديكورات الداخلية أعطت الصورة رونقا مستمرا وسحرا لا يقاوم. ولكن دوران الشخصيات في دوائر مقفلة واضطرارهم إلي رفع الصوت والصراخ أحيانا لكسر الجمود الدرامي الذي هيمن علي السيناريو أفقد الكثير من تأثر هذا السحر السينمائي الذي برع فيه كل من خالد يوسف ورمسيس مرزوق. المادة التي عمل عليها المخرج تؤهلها لأن تكون مادة تليفزيونية مثيرة نظرا لكثرة الشخصيات وتشعب الأحداث وهذا يبرر في رأيي عدم القدرة علي الإمساك «بخيط أريان» ليقودنا في متاهات الفيلم رغم المادة الثرية الأصلية التي كان يجب أن تكون الموضوع الرئيسي الذي يشغل بال خالد يوسف خصوصا من خلال اهتماماته الثورية الأخيرة عوضا عن التركيز علي تجارة الحشيش والدعارة والأبواب المقفلة وصراع الأخين علي فتاة ساقطة. «كف القمر» كان يمكن أن يكون تحفة سينمائية حقيقية لو لم يبتعد عن هدفه الأساسي ولو أعطي المخرج اهتماما أكثر بأداء ممثلين ولو عرف كيف يمسك بقوة في تسلسل مشاهده ومنطقية أحداثها وأدرك بحساسيته المعروفة وحسه الموسيقي متي يجب رفع اللهجة ومتي يجب خفضها.. وأن ما يشكل قوة ضاربة في التليفزيون قد يسبب نكسة مؤسفة في السينما.