المخرج والممثل الأمريكي كلينت ايستوود .. مسيرة مدهشة مليئة بالمفاجآت تحمل في طياتها ابعادا سياسية واجتماعية وفنية.. قل أن تجمعت في مسيرة فنان واحد. فهذا الممثل الذي ابتدأ حياته المهنية في عالم التمثيل حاملا اسما آخر غير اسمه ليعمل في بلد آخر غير بلده.. استمد جماهيرية معينة من خلال أدائه أدوار «الكاوبوي» راعي البقر في الأفلام الإيطالية التي ارادت أن تقلد أفلام الغرب الأمريكي واطلقوا عليها اسم «الوسترن سباجيتي» سرعان ما انطلق من خلالها ليعود إلي بلاده مستبعدا اسمه الأصلي .. محاولا أن يدلي بدلوه في عالم السينما الأمريكية التي ترددت طويلا في قبوله كمخرج.. ولكنها قبلته كنجم جديد من نجوم أفلام الغرب الشهيرة وجعلت منه امتدادا لشخصية خاصة نمطية كان يؤديها بامتياز ممثلون من أمثال جاري كوبر وجون واين والتي اشتهرت بتمثيلها الهدوء والقوة معا ودفاعها عن القيم النبيلة والوقوف دائما إلي جانب المظلومين والضحايا. لكن طموح ايستوود كممثل جعله يتمرد علي هذه الشخصية النمطية ويستبدلها بشخصية أخري لها طابع خاص هي شخصية المخبر «هاري» في سلسلة أفلام «هاري القذر» شخصية رجل بوليس فاسد ولكنه قادر علي أن يحقق العدالة علي طريقته .. مستعملا كل أدوات العنف والقسوة اللاقانونية ورغم النجاح الساحق الذي حققه ايستوود في هذا المجال فإن طموحه كان يدفعه للمزيد.. لقد أراد اقتحام فن السينما مخرجا ومبدعا وليس ممثلا فقط. ورغم نجاح بعض المحاولات الأولي .. إلا أن الوسط الهوليوودي لم ينظر إليه بعين الجد.. واعتبر إخراجه لأفلام من الفئة «ب» مجرد هواية ستبعثرها رياح الزمن. لكن المفاجآة الحقيقية جاءت عند عرض فيلمه «بال رايدر» في مهرجان «كان» حيث لفتت طريقة إخراجه انتباه النقاد الفرنسيين والأوروبيين الذين أعطوه عناية خاصة وفتحوا له المجال بعد ذلك لتقديم أكثر من فيلم من إخراجه في مهرجان «كان» .. البعض منها حاز علي جوائز جانبية. هذه الاستمرارية وهذا العناء وهذاالإيمان بالنفس استطاعت أخيرا أن تجعل هوليوود تتراجع عن موقفها تجاهه. وأن تعترف به مخرجا بل وأن تقلده أوسكار الإخراج عن فيلمه «اللامتسامح» الذي كان نقطة الانطلاق الكبري لايستوود في أمريكا التي استطاع قهرها بعد أن قهر من قبلها أوروبا والمهرجانات الأوروبية الكبري. وتوالت أفلام ايستوود الرائعة التي لم تلتزم بخط واحد، بل تعددت خيوطها وتنوعت مواضيعها لدرجة التناقض أحيانا. فهو يقدم مثلا فيلما عن حياة جون هوستون وعن طريقة إخراجه لفيلمه الشهير «الملكة الأرمنية» تحت اسم «صبا وأسود وقلب أبيض» يقدم فيه دراسة عن الأجواء الداخلية لمخرج كبير وفن صعب. ثم يقدم فيلما بالغ العاطفية مع سيدة التمثيل في أمريكا جريد ستريب باسم «جسر ماديسون» ويقدم فيلما عن الزعيم الأفريقي مانديلا.. وآخر عن عالم الغيبيات والميتافيزيقيا باسم «الماوراء» وفيلما عن حياة عازف جاز شهير مات ضحية المخدرات. وفيلم «القوة المطلقة» الذي يروي فيه علي طريقته فضيحة جنسية وجريمة قتل يرتكبها رئيس جمهورية بلده، ويخوض ايستوود عالم الملاكمة فيقدم فيلم «فتاة مليون دولار» عن فتاة تحترف هذه المهنة الصعبة، وينال من أجله جائزة أوسكار الثانية. كما يقدم فيلما جريئا لا مثيل له في تاريخ السينما عن الحرب الأمريكية- اليابانية من خلال وجهتي نظر، وجهة نظر الجيش الأمريكي .. ووجهة نظر الجيش الياباني ويعرضهما في فيلمين مستقلين ولكنهما يكملان بعضهما ليطرحا الحرب من وجهة نظر مدهشة لم يسبق لأي مخرج آخر أن يسلكها، ويخوض في الدراما الواقعية فيقدم فيلما بالغ التأثير هو «الاستبدال» هذه الأفلام الكبيرة المدهشة.. وسواها أخرجها ايستوود ومثل في بعضها . وتميزت كلها بأسلوبه الحاد الصعب والمبهر كحد السكين .. يعرف كيف يدغدغ اعصاب المتفرج وكيف يثير عواطفه.. وكيف يحرك ضميره وكيف يدفعه إلي اتخاذ موقف. أسلوب جزلي أفلام ايستوود الأخيرة كلها تحف سينمائية جديرة بدراسة متمعنة يركز فيها علي نقاط الاختلاف والتوافق في أسلوب جزلي وصعب وشديد التنوع يشابه في جماله وتنوعه.. جمال «قوس القزح» وها هو فيلمه الأخير يأتينا بعد انتظار وهو يروي حياة إدجار هوفر، الرجل الذي أسس نظام الاستخبارات الأمريكية واشتهر بقسوته وعنفه وبرود قلبه والذي وضع دعائم النظام البوليسي الأمريكي .. وكان بشكل ما واحدا من ضحاياه. فيلم كبير لمخرج كبير عن موضوع بالغ الأهمية يقوم بأداء دور البطولة فيه ممثل شاب يعتبر الآن واحدا من أهم ممثلي أمريكا وأكثرهم قوة وتأثيرا وموهبة وهو «ليوناردو دي كابريو» الذي بدا كايستوود ممثلا «حلو المظهر» قبل أن ينقلب علي أيدي مخرجين كبار ك«سكورسيزي» واحدا من أهم ممثلي أمريكا .. وأقدرهم علي تجسيد شخصيات مختلفة بالغة التعقيد والعمق «كما اثبت في تحفة سكورسيزي جزيرة شاتر». كل هذه الميزات في الموضوع وفي كل من شخصية المخرج والممثل لم تكن كافية لأن تفسح المجال أمام هذا الفيلم الذي يجعل كل هذه الميزات لاقتحام سابقة الأوسكار الشهيرة حيث اختفي اسمه تماما من كل الترشيحات الفنية وكأنه لم يكن. ايستوود يستوفي في «إدجار» حياة هذا الرجل بدءاً من طفولته الأولي وحتي لحظة موته لكن بطريقته الخاصة .. إذ يبدأ الفيلم «إدجار هوفر» في نهاية مسيرته يقرر أن يكتب تاريخ حياته وأن يمليه علي سكرتير شاب اختاره لهذا العمل الدقيق. عين سينمائية الفيلم يتراوح بين أحداث ماضية يرويها هوفر مركزا علي دوره وآرائه ومعتقداته .. نراها من خلال استرجاعات مختارة بدقة ومصنوعة بارهاف وبعين سينمائية شديدة الوعي وبين أحداث حالية يعيشها هوفر وقد وصل إلي مرحلة حاسمة من عمره ومن مهنته. إنه يروي كيف توصل إلي تشكيل جهاز المخابرات الأمريكية الذي سيرأسه طوال عشرين عاما أو يزيد.. يبرر لنا سبب حماسه لهذا النظام التجسسي الذي يدخل إلي ثنايا حياة المواطن ولا يترك شيئا من خفاياها، يتحدث عن موت أبيه وعلاقته بأمه هذه العلاقة الفرودية التي ستشكل فيما بعد تأثيرا حاسما علي حياته العاطفية والجنسية معا. يحلل كراهيته للشيوعيين والراديكاليين ومحاربته المجنونة لهم وتعقبهم وطرد الغرباء منهم من الأرض الأمريكية، يتحدث عن كراهيته للزنوج وعن عنصريته التي جعلته يهاجم مارتن لوثر كنج ويحاول ابتزازه بالفضائح التي يعرفها.. يحدثنا عن وصوله بفضل مركزه إلي أسرار شخصية تتعلق بأكبر الرءوس في أمريكا بما في ذلك رؤساؤها.. علاقة كيندي بمارلين مونرو .. وعلاقة زوجته روزفلت بأحد الشيوعيين ثم بامرأة من جنسها.. حادثة اختطاف ابن لبندبرج التي هزت أمريكا ودوره فيها. محاربته للعصابات الأمريكية التي تشكلت في أيام منع الخمور وعلاقته مع بعض رؤسائها ثم علاقته الشخصية بمساعدته الشابة ثم بمساعدة يده اليمني والتي تتكشف لنا شيئا فشيئا لتظهر أنها ليست علاقة صداقة فقط بل هي علاقة حب متأجج ستستمر حتي نهاية العمر. كل ذلك يرويه «إدجار هوفر» من وجهة نظره.. دون التسلسل الزمني المعتاد دائما، تأتي الذكريات وتروح.. كموج البحر بلا سبب واضح وحسب الأهواء وما تقوده الذكريات. ثم نكتشف في اللحظات الأخيرة من الفيلم الوجه الآخر الحقيقي لهوفر وإن كل ما قاله عن نفسه وعن بطولاته وعن مثله العليا وعن مبادئه الأخلاقية السامية ليس لا كذبا وتمويها علي النفس وإن الحقيقية بعيدة تماما بل متناقضة تماما لما رأينا. سيناريو شديد الابتكار لرواية حياة رجل اختلفت حوله الآراء .. وتمتع بقدر كبير من كراهية مثقفي اليسار الأمريكيين وكل المواثيق عن حرية الفرد وخصوصيته. ليوناردو دي كابريو في دور هوفر يصل إلي أقصي درجات موهبته كذلك الأمر مع الممثلة البريطانية جودي دتش في دور أمه ونعومي داتسي في دور السكرتيرة الأمينة أو حبه الأول الكاذب .. دي كابريو عرف كيف يعبر بسلاسة معجزة عن كل ما يدور في نفس هذه الشخصية المركبة «شاهد حبه الثلاثة مع رفيق عمره مشاهد لا تنسي» ومشاهد ابتزازه للشخصيات وحفنة الحقد التي يوجهها إلي خصومه من الشيوعيين والسود.. لحظات لا تنسي في مسيرة هذا الممثل الشاب الذي لا يكف عن ادهاشنا بين كل فيلم وآخر. رواية إنسانية إدجار هوفر ليس مجرد رواية لحياة شخصية سياسية تباينت حولها الآراء واختلفت.. انه دراسة إنسانية متعمقة لإنسان يبحث عن نفسه من خلال مدارات حياتية صعبة.. ويواجه «آناه» الحقيقي مرة واحدة في حياته عندما يرتدي ثياب أمه المتوفاة وينظر إلي نفسه في المرآة باحثا عن وجهه وعن هويته الحقيقية. دور كبير لممثل خارق في فيلم خارج عن المعتاد يصور لنا أمريكا كما لم نعرفها من خلال مسيرة رجل عرفها في الصميم أكثر من أي شخص آخر.