الحادية عشرة صباحا.. لم يعد الطبيب العجوز إلى بيته في الموعد الذي اعتاده! اتصلت زوجته بالمستشفى الخاص الذي يمتلك جزءا من أسهمه.. وجاء رد لم تتوقعه. الدكتور وفيق لم يكن يبيت بالمستشفى أمس!! أسقط في يد الزوجة وهي تعلق في اندهاش: لكني أعرف أنه يبقى كل ثلاثاء بالمستشفى ويعود في العاشرة صباحا إلى بيته! يا أفندم.. أنا الدكتور حجازي مدير المستشفى وأعرف ما أقول جيدا وأكرر لك أن الدكتور وفيق ليس في جدول المبيت على الإطلاق! سقطت السماعة من يد الزوجة.. لم تعهد على زوجها كذبا طوال خمسة وثلاثين عاما هي عمر زواجهما.. تلاحقت علامات الاستفهام أمام عينيها.. أين يذهب كل ثلاثاء بعد انتهاء عيادته؟!.. ومع من يبيت؟!.. ولماذا هذا الأربعاء لم يعد الى بيته؟!.. ولا يرد تليفونه؟!.. هل هو غاضب من أحد أبنائه؟!.. هل أغضبته هي؟!.. سارعت ماجدة تتصل بابنها المهندس محمود وأخته نورهان الموظفة بأحد البنوك الاستثمارية.. لكن لا إجابة شافية.. الدهشة تسيطر على الجميع.. تجمع الأبناء مع أمهم ونزلوا جميعا إلى عيادة الدكتور وفيق ببرج الأطباء بوسط القاهرة.. سألوا البواب عن حضور الدكتور وفيق لعيادته مساء الأمس.. وأكد البواب أنه حضر بالفعل وقام بالكشف على مرضاه حتى الحادية عشرة مساء ثم غادر العيادة كعادته مساء كل ثلاثاء متوجها إلى البرج السكني المجاور لبرج الأطباء! تلاحقت أنفاس الزوجة وارتبكت الكلمات فوق لسانها وهي تسأل البواب: وماذا يفعل في البرج السكني؟! له سكن بالبرج يا هانم!! هل شاهدته في هذا السكن.. انت متأكد؟! يا هانم هو يبيت هناك كل ثلاثاء؟! وحده.. يبيت وحده؟! لا أعرف.. البرج هناك له بواب يمكن أن يجيبك.. أما أنا فلا أعرف شيئا لأن الدكتور لم يخبرني شيئا عن هذا السكن ولكن عرفته من زميلي بواب البرج السكني!! توترت الزوجة وتلونت وجوه الابن والابنة واتجهوا جميعا نحو البرج المجاور.. قابلوا حسنين بواب البرج فأكد لهم ما سمعوه وأضاف أنه شاهد الدكتور وفيق ليلة الأمس لكنه لم يشاهده صباح هذا اليوم كما اعتاد كل أربعاء! شاطت أعصاب الأسرة الصغيرة.. صعدوا الى الطابق التاسع حيث أشار حسنين البواب الى شقة وفيق.. لم يرفع الابن يده من فوق جرس الشقة وتوالت طرقات الأم وابنتها على الباب ولا أحد يرد ولو بكلمة أو حركة!.. ودون أن يفكر استدعى الابن بعض العمال الذين قاموا بكسر باب الشقة لتظهر أولى المفاجآت.. الدكتور وفيق ملقى فوق الأرض وحول عنقه آثار أصابع ضغطت بشدة على العنق!.. يبدو أنه مات مقتولا.. خنقه شخص أو أكثر!.. اتصل الابن بالشرطة وأمر والدته وأخته والبواب بألا يتحركوا من أماكنهم أو يلمسوا شيئا حتى تتم معاينة النيابة لمسرح الحادث!.. اللحظات تمر بطيئة.. الزوجة منهارة والابنة انخرطت في بكاء طويل والابن أخفى رأسه بين راحتيه وراح يكلم نفسه في هيسترية.. ما الذي أتى بأبيه هنا وماذا كان يفعل ولماذا أخفى عنهم هذا المكان ومن الذي قتله وهو رجل عجوز في السبعين من عمره؟!!.. لحظات.. وملأت الشرطة المكان! مداخل ومخارج الشقة سليمة.. والجاني دخل الشقة بترحيب من صاحبها بدليل وجود بقايا فاكهة ومياه غازية وثلاثة أكواب شاي فارغة وبقايا سجائر بعضها مستورد والآخر محلي!.. الشىء اللافت للنظر وجود خزينة بحجرة النوم مفتوحة ومبعثرة المحتويات.. وفي دولاب حجرة النوم علبة كاملة من المنشطات! فجأة.. أشار بواب البرج السكني الذي يقف بين الضابط إلى لوحة كبيرة فوق جدار حجرة النوم.. اللوحة برسم اليد لامرأة جميلة بقميص نومها الشفاف!.. نظر الضابط نحو البواب وسألوه عما يقصده من إشارته للوحة.. قال: الدكتور وفيق لا يزوره أحد على الإطلاق في هذا السكن.. لكني شاهدت صاحبة هذا الوجه عنده أكثر من مرة.. سمعته ذات مرة يناديها بفيفي هانم.. ولا أعرف عنها أكثر من هذا! سأله كبير المفتشين: وهل رأيتها ليلة أمس؟! الجو كان برد وأمطار وكنت داخل حجرتي معظم اليوم والبرج يتردد عليه موظفون بالأدوار الإدارية والسكان وأقاربهم ولا تتوقف الحركة دخولا وخروجا ووقوفا أمام المصعد! وهل المرات التي شاهدت فيها فيفي كانت كلها مساء الثلاثاء؟! لا أتذكر.. لكني شاهدتها كثيرا تصعد إلى الدكتور! هل تتذكر أنه كان يبيت في الشقة كلما زارته هذه السيدة؟! تقريبا.. نعم.. أعتقد أنه كان يبيت وأنها كانت تخرج في الصباح لتركب معه السيارة.. وسمعت بالصدفة ذات مرة أنه سيوصلها الى محطة مصر لتلحق بقطار الاسكندرية! الزوجة تتابع وهي تضرب كفا بكف مع إجابات البواب ثم تختلس بين حين وآخر نظرة طويلة وعميقة نحو صاحبة الصورة.. بينما ضابط آخر يبحث في موبايل الدكتور وفيق عن اسم فيفي فيعثر على ثلاثة أسماء كلها تبدأ بفيفي مع اختلاف اسم الأب.. ويقرر مفتش المباحث إجراء تحريات سريعة مكثفة حول كل اسم من الأسماء الثلاثة دون أن تشعر إحداهن بتتبع المباحث لها!.. وبالفعل تبدأ سلسلة من التحريات الأخرى في اتجاهات مختلفة. .. وكان لابد من الاستماع للزوجة.. قالت: عشت معه خمسة وثلاثين عاما هادئة.. بلا مشاكل ولا شكوك ولا غيرة.. وفيق كان زوجا مثاليا وفي غاية العقل والحكمة.. يعشق عمله ورغم تقدمه في السن إلا أنه يمارس عمله بانتظام بين المستشفى والعيادة.. أما هذه الشقة فهي مفاجأة صادمة بالنسبة لي.. الصراحة كانت عنوان حياتنا ولا أعرف لماذا أخفى عني هذا السكن أو ماذا يفعل فيه أو سبب غيابه ليلة كل أسبوع عن بيته.. لا أعتقد أن في حياته امرأة أخرى فلم أشعر قط بأن مشاعره تحولت عني لحظة واحدة.. ربما تكون هذه اللوحة اشتراها وفيق بعد اعجابه بها دون أن يعرف صاحبتها! وقال بواب برج الأطباء لكبير الضباط: الدكتور لا يتحدث كثيرا.. وعيادته دائما مزدحمة بالرجال والنساء.. وحينما استدعاني أحد الضباط لشقة البرج السكني وأطلعني على اللوحة التي بها رسم لامرأة بقميص النوم وسألني هل رأيت هذه السيدة من قبل.. قلت له دعني أتذكر.. والآن تذكرت أنني بالفعل شاهدتها مرة واحدة في عيادة الدكتور ونزلت معه وهي المرة الوحيدة التي شاهدته فيها يغادر العيادة وبصحبته امرأة غير زوجته وابنته!! مفاجأة جديدة ظهرت قبل توسيع دائرة الاشتباه واستدعاء عدد من المسجلين خطر الذين يمكن أن يقوم أحدهم بمهاجمة شقة الدكتور.. المفاجأة تجلت في توصل الضابط المكلف بفحص موبايل الدكتور الى أن اثنتين ممن يحملن اسم فيفي يعيش بالقاهرة والثالثة تسكن في الاسكندرية وتأتي إلى القاهرة يوما في الأسبوع!.. تتجه على الفور مأمورية أمنية إلى الاسكندرية بعد أن اكتملت التحريات حول فيفي ويتم اصطحابها إلى مديرية الأمن بعد التأكد من وجود علاقة ما تربطها بالدكتور وفيق!... وأمام النيابة بدأ استجوابها. قالت فيفي: - "..... نعم أنا صاحبة الصورة.. لا أنكر أنني أزوره كل ثلاثاء.. لكني لم أقتله.. ربما أساعدكم في الوصول إلى الجاني.. لكن صدقوني ليس بيني وبين الدكتور إلا كل خير ومستحيل أن يطاوعني قلبي على قتله.. عرفته حينما كنت في القاهرة وذهبت إليه كأي مريضة يزعجها ارتفاع ضغط الدم في عز شبابها.. ولا أعرف كيف تبادلنا حوارا في أدق أمور حياتي بهذه السرعة.. عندما سألني عن مشاكل في حياتي تسبب لي ارتفاع ضغط الدم.. قلت له أن حياتي كلها مشاكل.. وأجابني بأن كل أدوية الطب لن تفلح في علاجي ما لم تنته هذه المشاكل من حياتي.. بكيت ووجدت نفسي أحكي له عن مطلقي الذي كان طبالا بإحدى الفرق الموسيقية ثم أدمن الهيروين وساءت أحوالنا المعيشية فطلب مني طليقي أن أعمل راقصة أفراح وظل يضغط عليّ ليل نهار حتى وافقت على العمل في فرقته.. واحتقرت نفسي وأنا أظهر أمام المدعوين والمعازيم ببدلة الرقص العارية.. بل تعرضت لمواقف سخيفة فقد كنت مطمعا لكل من هب ودب من الرجال دون أن يهتم زوجي.. كان لا يهمه سوى الحصول على كل ما أكسبه ليشتري المخدرات.. تمردت عليه وقصصت حكايتي على المحكمة التي طلقتني منه.. وهربت إلى القاهرة لأبتعد عن مطارداته لي.. لكن كان لابد لي من العودة إلى الاسكندرية لرعاية طفلي في شقة الحضانة التي لم أستطع التضحية بها لأنها من حق ابني حينما يكبر.. ولو تركتها لطليقي سوف يبيعها على الفور!.. هذه هي حكايتي التي سمعها مني الدكتور في لحظات صفاء.. وكانت مفاجأة لي حينما طلب أن يتزوجني عرفيا ويتولى الإنفاق عليّ إلى ان يدبر لي عملا في القاهرة.. حكى لي هو الآخر أنه يحب زوجته ويحترمها لكنها لم تعد قادرة على إشباع حاجته كزوج.. ولا يمكن أن يجرحها يوما بالزواج عليها.. وأنه لا يريد أن يكون لنا بيت في القاهرة خوفا من أن يتسرب خبر زواجنا الى أسرته الصغيرة فيفقد مكانته وهيبته أمامهم.. ووافقته.. كلانا كان في أشد الاحتياج للآخر.. هو يحتاج شبابي وجمالي وأنا في أمس الحاجة لحنانه وماله.. عشت معه عاما هو أجمل سنوات عمري حتى فوجئت بطليقي وقد توصل الى معرفة الشقة التي أتردد عليها فأخبرته أنني أعمل لدى الدكتور.. لم يهتم إن كنت أعمل فعلا أو أنني على علاقة خاصة بالدكتور.. كان ما يهمه أن أمنحه نقودا كلما شاهدني.. وحينما أردت إيقاف هذا النزيف ذهب الى مقابلة الدكتور في نفس موعد مقابلتي له ليلة الثلاثاء.. رفضت أن أفتح له باب الشقة.. لكن الدكتور حينما قصصت عليه حكاية ابتزاز طليقي أمرني بفتح الباب وأحسن استقباله ومنحه بعض المال وطلب منه أن يبتعد عن طريقي.. واعترضت بشدة حينما أبلغه الدكتور أنه سيمنحه مبلغا كل أول شهر.. لكن الدكتور أمرني بالسكوت! ... وعدت الى الاسكندرية صباح اليوم التالي غاضبة وأقسمت للدكتور بأني لن أحضر مرة أخرى حتى ينتقل الى شقة أخرى لا يعرفها هذا الشيطان.. وفي الأيام التالية كان الدكتور يتصل بي يوميا ليخبرني بأن طليقي يطارده في العيادة والمستشفى ليحصل على المال.. وطلب مني أن أحضر في موعدي ليلة الثلاثاء الموعودة ليبلغ الشرطة حينما يحضر طليقي ويتم القبض عليه أمام عيني وبشهادتي ضده.. والحقيقة أنني خشيت من الحضور لأني أعرف أن طليقي مجرم وسوف يسبب فضيحة في وجودي!.. ولم أتصور أبدا أن الأمر سوف ينتهي بأن يقتل زوجي! انتهت أقوال فيفي.. لكن النيابة أمرت بحبسها بعد إلقاء القبض على طليقها وحبسه هو الآخر.. فور اعترافه بالجريمة وإدعائه أن طليقته دبرتها معه!.. فيفي تؤكد أنها بريئة وأن محكمة الجنايات سوف تظهر براءتها في النهاية.. لكن ماجدة زوجة الدكتور عاشت أسود أيام عمرها.. رفضت حضور جنازة زوجها وهي تؤكد لابنها وابنتها أنها لم تعد زوجة لأبيهم بعد أن سمعت اعترافات الراقصة طليقة المدمن وقد صارت ضرتها.. قالت الأم لأولادها وهي تنظر الى الجنازة من بعيد.. تصورت أن يحدث كل شىء فوق ظهر الأرض إلا أن يخونني وفيق ولو ليلة واحدة!!