إذا أردت ان تضع عصرنا هذا تحت عنوان عريض يجمع كل عناوينه الفرعية واحداثه وأفعاله وأقواله فلن تجد عنواناً أفضل من أنه "عصر اللا انتماء".. لذلك ينبغي أن ننحي جانبا كل الأفكار والمبادئ والشعارات والمناهج والنظريات التي كنا نرددها ونؤمن بها قديماً فهي غير صالحة للاستهلاك الآدمي في عصر اللاانتماء.. ولايمكن ان تصل إلي الناس الآن بترديد تلك الشعارات والنظريات.. فخذها من قصيرها واترك هذه الشعارات لمصيرها.. لا أحد يصدق أو تتحرك مشاعره اذا حدثته عن الوطن وحبه والولاء له.. وعن الأمة وقضاياها.. وعن الوحدة العربية والديمقراطية والحرية والاشتراكية والرأسمالية.. واليمين واليسار والدين والحرام والحلال والانتخابات والاحزاب وان صوته أمانة والمشاركة السياسية والاخلاص في العمل والولاء لمكان عملك أو قيادتك أو حتي أسرتك وعائلتك وناسك.. هذا كله كلام فارغ "لا يودي ولا يجيب" .. فلا أحد ينتمي الي شيء أو شخص أو مكان أو زمان أو قيمة أو اسرة.. وكل انتماءاتنا ورقية.. علي الورق وهي غير متحققة علي الأرض.. يعني شهادة ميلاد واسم رباعي أو خماسي وكارنيه نقابة أو بطاقة عمل وملف في شئون العاملين وجنسية علي الورق ومحل الميلاد ومحل الاقامة.. لكن لا أحد منا ينتمي وجدانيا أو عقلياً لشيء من هذا كله. حتي هوجة تشجيع الأندية في كرة القدم ليست انتماء لصالح ناد أو فريق وإنما هي انتماء ضد فريق آخر.. فهي ليست انتماء حب ولكنها انتماء كراهية.. ولا يوجد انتماء في غياب الحب.. بمعني ان الذي يحب المعارضة هو في الواقع يكره الحكومة.. والذي يحب الزمالك هو في الحقيقة يكره الأهلي.. أنت تستطيع ان تعرف علي وجه اليقين اتجاهي في الكراهية.. لكنك لا تستطيع ان تعرف من أحب.. فنحن لا نحب شيئا ولا شخصا ولا فريقا ولكننا نكره اضداد الأشياء والأفكار والاشخاص والأندية.. يعني المرأة التي تحب رجلاً آخر غير زوجها.. هي في الواقع لا تحب هذا الرجل ولكنها تكره زوجها.. يعني حبنا رد فعل لكراهيتنا.. حبنا مثل تصويتنا في الانتختابات انتقامي وكيدي وكراهي.. وفرحتنا بخسارة مرشح اضعاف اضعاف فرحتنا بفوز المرشح الذي صوتنا لصالحه.. وكل ولاءاتنا وانتماءاتنا كيدية وليست أصيلة.. هي رد فعل للكراهية التي تحكم حركتنا في الحياة.. وتحكم كل سلوكياتنا واقوالنا وأفعالنا. الانتماء الي الذات هو الانتماء الوحيد الحقيقي.. كل منا ينتمي الي ذاته وملذاته ومتعته وحاجات بطنه وفرجه وخارج هذه الذات لا يوجد أي انتماء أو ولاء أو حب.. لذلك يستمر الفساد لأن لنا مصلحة في استمراره ويستمر الانحراف لان لنا فيه حاجة.. لذلك لا يري أي منا شيئا خارج ذاته.. والذين يؤيدون الحكومة يحافظون علي مصالحهم ومواقعهم ولا يحبون الحكومة.. والذين يكيلون اللعنات للحكومة يتكسبون أيضا من المعارضة واللعنات أو يريدون ان تشتري الحكومة ألسنتهم وأقلامهم.. فنحن نتكلم بثمن ونسكت بثمن.. ونؤيد بثمن ونعارض بثمن.. ونعادي بأجر ونسالم بأجر.. ولا أحد يصدق كلام لسانه أو حروف قلمه لا أحد يوجعه هم عام أو تؤرقه قضية وطنية أو قومية. زمان كان من السهل تصنيف الناس.. هذا يميني وهذا يساري وهذا اخواني وهذا وفدي وآخر ماركسي وغيره ملحد وآخر متدين.. الأمور كانت واضحة والالوان كانت فاقعة.. كنت تستطيع ان تعرف الوطني من العميل والمخلص من الخائن.. الآن يصعب ذلك الي حد المستحيل لأن الالوان باهتة والخطوط متداخلة والاصوات عالية وكل شيء اصبح معروضا علي "عربيات يد" في سوق العتبة أو الوكالة أو الموسكي لا شيء يظهر حتي تحت المجهر ولا توجد حقائق أو قيم مطلقة لكنها توجد متداخلة مع المصلحة والغرض.. ولم يعد مستهجنا ابدا ان يبيت الرجل أحمر ويصبح أبيض.. أن يكون مع الشيء ظهرا وضد نفس الشيء أو الشخص عصراً و"شوف مصلحتك يا سيد". والناس يحددون انتماءاتهم وولاءاتهم بمحددات مختلفة عن ذي قبل.. فأنا مع الشيء أو ضده طبقا للقمة عيشي ورزق عيالي ومصلحتي والموضع الذي تؤكل منه الكتف والفلوس التي احصل عليها من موقعي وثمنا لموالاتي أو معاداتي. *** اصبح مألوفا ان يتباهي الناس بأنهم فسدة.. ولم يعد أحد.. يخجل أو يستحي من ذلك.. واصبح مألوفا ان يلتمس المجتمع اعذارا للخونة والفسدة والمنحرفين.. كأن يقال ان الزوجة خانت زوجها مع رجل آخر لأنها مظلومة ومقهورة وزوجها بخيل "ومفتري" ويستحق ماجري له.. ويقال ان الموظف يقبل الرشوة لأنه فقير ومحروم ولديه "كوم لحم" "طب حيعمل ايه يعني؟" .. والمدرس يعطي دروسا خصوصية ليزيد دخله ويواجه متطلبات الحياة .. والاعلاميين والصحفيين يقبضون من المصادر ويقبلون الرشوي والهدايا ويتصارعون علي الاعلانات لأن هذا رزقهم ورزق عيالهم.. والساقطة انحرفت وتبيع لحمها لأنها تريد جمع "حق الدواء والعملية" لوالدها المريض.. وهي تضحي من أجل تربية اخوتها الصغار. المجتمع الأن غفور رحيم "حبوب" يلتمس الاعذار للأقذار ولايري بأسا في افعالهم المشينة ويتعاطف معهم ويسخر ممن يتحدثون عن المثل العليا والقيم والأخلاق والفضائل.. المجتمع لا يدين السفالات والسرقات والفساد.. ولكنه يدين الاستقامة والصلاح والفضيلة.. بل الأدهي من ذلك أن المجتمع يكافيء أهل الفساد والانحراف والرذائل ويعطيهم الجوائز والهرم الذهبي.. والخارجون علي القيم والفضائل هم نجوم المجتمع وقادة الفكر والرأي والاقتصاد فيه. وفي مجتمع كهذا يكون من العبث والرفث والفسوق والجدال والعصيان ان تتحدث حديثا أتي عليه الدهر وتجاوزه الزمن وتظل تهاتي حول الولاء والانتماء "ومسرنا الحبيبة والوطن الغالي" والأمة العظيمة التي هي خير أمة أخرجت للناس.. يكون من العبث واضاعة الوقت ان تطالب الذين يبيعون أصواتهم لمن يدفع بأن يكون لديهم انتماء للوطن وحب له وأن يشاركوا سياسيا. يعني يا صديقي حازم رشوان .. مدرس اللغة الانجليزية بالمملكة العربية السعودية.. كيف يمكن ان أصل الي الناس بلغة لا يفهمونها؟ نحن نتحدث العربية ونكتب بها لكن دلالات ومعاني الالفاظ تختلف عندنا عنها في أذهان الناس الان.. يعني أنا أري مثلا أنه لا فرق بين ان يبيع الانسان صوته وان يبيع شرفه وعرضه وبناته وزوجته لمن يدفع .. هل يمكن ان يفهم الناس ذلك الربط بين الفعلين اللذين اراهما فعلا واحدا؟ سيضحك الناس من قولي هذا ويردون بصوت واحد: "وايه يعني انت جيت في جمل هات اللي يدفع في البنت والمدام ويشيل" .. يعني .. الربط بين الفعلين ليس صادما ولا مقززا.. فنحن الان نبيع كل شيء لاننا في زمن "الاحتراف" .. وكل من يبيع نفسه وعرضه وجسده يقول نفس ما يقوله مدربو ولاعبو كرة القدم "احنا في زمن الاحتراف" .. والمقصود من زمن الاحتراف ان الامر لم يعد يقاس بالانتماء والولاء والكلام الفارغ "بتاع العواجيز ده" .. تماما مثل الدعوة لكل من يتحدث عن القيم والفضائل والأخلاق والامة بأن يكون واقعيا "بلاش المثالية والرومانسية دي الكلام ده ما يأكلش عيش دلوقت .. خليك واقعي وعيش عيشة أهلك". والجماهير التي تصرخ في المدرجات وخارجها جماهير موظفة تعيش زمن الاحتراف.. لكن الجماهير الهاوية المحبة لم يعد لها وجود.. وهذه الجماهير الموظفة والمحترفة مستعدة لبيع ولائها لمن يدفع أكثر لو طبق الاحتراف علي جمهور الكرة.. بمعني ان تمتد التجارة في اللاعبين والمدربين الي المتاجرة بالجمهور. *** الناس في زمن اللا انتماء تجاوزوا مرحلة قبول الرشوة واصبحوا الآن في مرحلة طلبها كحق مكتسب.. والناس لا يشتري أحد اصواتهم الآن لكنهم وصلوا الي مرحلة عرض اصواتهم للبيع.. لذلك اتسمت انتخابات مجلس الشعب الأخيرة بانخفاض ملحوظ وكبير في سعر الصوت.. لأن العرض أكبر من الطلب وكثيرون اشتكوا بمنتهي البجاحة علي صفحات الصحف من ان المرشحين ضحكوا عليهم وأنهم ذهبوا لبيع أصواتهم .. وصوتوا مقدما للمرشح لكنه لم يعطهم الخمسين أو العشرين جنيها المتفق عليها وتعاطفت الصحف معهم وعرضت قضيتهم علي أنها قضية انسانية يستحق ضحاياها التعاطف والرثاء.. ولان الباعة في مجتمعنا اصبحوا أكثر من المشترين والعرض أكبر من الطلب فإنني اتوقع في الانتخابات القادمة أن تباع الأصوات بالتقسيط وأن يقدم باعة الأصوات تسهيلات في الدفع.. وهو مايحدث الان في بيع الكلي والاكباد والأعضاء عموما.. حيث وصل الأمر الي بيع الكلية بالتقسيط.. يحصل البائع علي مقدم وربط كلام.. ويحصل علي الباقي بعد نجاح الجراحة لمن نقلت إليه الكلية.. وهذا المؤخر لا يتم دفعه أبدا. ولأن الباعة أضعاف المشترين ولايوجد انتماء الا للفلوس فإنني لا استبعد بيع الشرف والاعراض والبنات والزوجات بالتقسيط المريح.. وحكاية استبعاد أي كارثة لم تعد مجدية.. ففي زمن اللا انتماء لا احد يندهش أو يصاب بالصدمة والذهول.. وكل شيء اصبح وارداً ومتوقعا فاليوم خير من الغد وغدا خير من بعد غد.. والسباق أو النسق الاجتماعي والمجتمعي الآن يشجع علي الرذائل.. فقد كان بالأمس يغفرها ويلتمس لها الاعذار.. وغدا سوف يشجعها ويدعو ويحث عليها الناس اليوم لا ينكرون المنكر ولا يعرفون المعروف.. وغدا وربما هو حادث الآن بالفعل يأمر الناس بالمنكر وينهون عن المعروف. ولأن المجتمع غفور رحيم ويصفق للرذائل ويشجعها اصبح الفساد سلوكا لحظيا.. الناس مفسدون ولا يشعرون.. يفسدون كما يتنفسون ويأكلون ويشربون ويبولون.. ولا يمكن ان تقف في وجه الفساد والمفسدين.. فالمجتمع لا يستنكر الفساد بل يستنكر مواجهته والتصدي له لا يمكن ان تمنع الناس من التنفس والاكل والشرب والتبول .. كذلك لا يمكن ان تمنعهم من الفساد .. أنا افسد إذن أنا موجود .. ومنعي من الفساد يعني موتي. والفساد لم يعد سلوكا مرفوضا في المجتمع بل اصبح سلوكا مبررا بل ومطلوبا ليصبح المرء نجما ومن أهل القمة.. كما لم يعد بالامكان تعريف فعل الفساد في ظل تآلف المجتمع معه واعترافه به كمسوغ للتعيين أو للفوز بمقعد البرلمان أو لتولي المناصب .. يعني الفساد صار من مصلحتي.. وما يحقق لي مصلحتي ليس فسادا.. والمجتمع لا يعاقب الفاسدين ولكنه يكافئهم .. والفسدة لا يسقطون من القمة أبدا.. ولكنهم يتنقلون الي قمة اخري .. "واللي ريحته فاحت في مكان يتم نقله الي مكان آخر" فالفسدة لا يسقطون ابدا.. لكن الذي يتصدي للفساد ويقاومه هو الذي يسقط. وأنا مع الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء واتحدي مثله ان تكون أي جهة تدخلت في الانتخابات.. وأزعم أن الدولة كما تركت الاقتصاد للسوق وآلياتها تركت الانتخابات أيضا للسوق والعرض والطلب .. بل تركت الناس أيضا للسوق "وتركنا بعضهم يومئذ يموجون في بعض" .. الناس ليسوا في حاجة الان الي توجيهات وتدخل من الدولة لممارسة الفساد وبيع الأصوات.. فهم بلا اي تدخل من أحد يديرون الانتخابات ادارة اقتصادية لا سياسية.. والبلطجية الذين استخدموا السنج والمطاوي أمام لجان الانتخابات لم يوظفهم أحد ولم تستدعهم الحكومة ولكنهم عرضوا خدماتهم علي المرشحين.. بأجر .. علما بأن البلطجية والهتيفة والخطاطين الذين كتبوا اللافتات لم يدلوا بأصواتهم في الانتخابات وليست لديهم بطاقات انتخابية. *** البلطجية الذكور مثل الساقطات الاناث تماما.. فالبلطجي أيضا يبيع لحمه كما تبيع الساقطة لحمها ويبيع قوته كما تبيع هي جمالها.. ويبيع رجولته كما تبيع انوثتها.. وهي ترتمي تحت شاريها بأوراق ضئيلة .. وهو أيضا يرتمي تحت نعل شاريه بدراهم معدودة.. البلطجي ساقط مثل بنات الليل أيضا.. ولا فرق بين بيع جسد البلطجي وجسد الساقطة.. واذا باع المرء شيئا لا يقدر بثمن ولا يمكن بيعه فقد باع شرفه.. فالشرف ليس غشاء بكارة فقط.. انه بيع الذمة والكلمة والجسد للرجال والنساء معا.. بيع الدم واللحم والوطن.. بيع الثيبات والابكار والافكار وبيع الاذكار أيضا.. لم نعد بحاجة الي تدخل لنفسد ونزور ونزيف.. فنحن نمارس الفساد بطريقة "يفتح الله".. والله يفتح لنا وعلينا دروب الفساد غضبا منه علينا ويبارك لنا في الحرام غضبا علينا ويمدنا في طغياننا نعمه .. "وبين الشاري والبايع يفتح الله" .. الفساد لم يعد جريمة لأن الراشي والمرتشي متضامنان ومتحالفان.. والبائع والشاري راضيان.. والفساد لا يصل الي القضاء الا إذا اختلف "الحرامية" والفاسدون.. وهم الآن لايختلفون .. وجملة الفساد منسجمة ومفيدة .. الفعل قائم والفاعل والمفعول به راضيان.. لذلك لايصل الفساد الي منصة القاضي الفساد بالتراضي .. مالك انت ومالنا يا قاضي؟!! .. وقد قال رئيس اللجنة العليا للانتخابات إن هناك عمليات تزوير وقعت وسجلت بالصوت والصورة لكنها ليست جريمة لأن أحدا لم يتقدم بشكاوي.. الفساد والتزوير بالتراضي .. مالك أنت ومالنا ياقاضي؟!! نظرة لأن الأشياء تعرف بضدها .. فإننا لم نعد نعرف الكذب لأن الحق بيننا غاب .. لم نعد نعرف القبح لأن الجمال "فص ملح وذاب".. لم نعد نعرف الفساد لان الصلاح ذهب بلا إياب .. عندما ضاعت الأضداد تاهت المعالم.. وصارت "العالمة" كالعالم.. الانتخاب حدوتة ملتوتة تبدأ بكوتة وتنتهي بتوتة والكل حافظ دوره علي المسرح ظبط الكلام والمقام والصوت علي النوته!! عربي!!