في قاع ذاكرتي يسكن هتافنا في طابور الصباح ونحن تلاميذ بمدرسة بني عدي الوسطي الابتدائية بنين في قلب صعيد مصر "تحيا مصر والسودان" كان الهتاف المدوي يملأ فضاء الكون ويشق عنان السماء ويزلزل الأرض تحت أقدامنا.. أو هكذا كان إحساسنا. لقد جمع الله مصر والسودان.. وما جمعه الله لا يفرقه انسان. ما بين مصر والسودان "شماله وجنوبه" صلات وروابط أقوي من حادثات الليالي وتقلبات الأيام والعقود والقرون. علاقة وطيدة وثيقة غير قابلة للمساومة أو للانفصام فالسودان " جنوبه وشماله وشرقه وغربه" في قلب مصر والعكس صحيح ونعيد ونزيد دون ملل أو كلل ونؤكد علي أمرين: ** الأول: ان السودان كان ولايزال وسيظل امتدادا طبيعيا وعمقا استراتيجيا لمصر. ومن قال بغير ذلك يعد من الفاقدين للبصر وللبصيرة معا ومن الجاهلين بالجغرافيا وبالتاريخ أيضا ومن الشامتين في مصائب ونوائب أمتنا العربية وأكاد أقول من المترصدين والمتربصين بشعوبنا العربية. ومن هذا المنطلق فإن المحاولات المصرية الجادة لم ولن تتوقف من أجل الحيلولة دون تصاعد الأحداث الي ما لا تحمد عقباه. ** الأمر الثاني: فضلا عن نهر النيل فهناك ألف سبب وسبب يربط بين أهل مصر وأهل السودان.. هناك بطبيعة الحال رابطة العروبة لغة وثقافة وروابط الدين ومن نافلة القول ان المصريين يكنون للسودانيين أعز المشاعر وأحلاها وأقواها مودة وأصدقها محبة وان رابطة الدم جمعت علي امتداد التاريخ بين الملايين من المصريين والسودانيين عن طريق النسب والمصاهرة فضلا عن الشراكة في العمل والكفاح من أجل لقمة العيش. السودانيون ينتشرون في مدن مصر لاسيما في أقصي الصعيد وفي ضواحي القاهرة وليسمح لي قارئي العزيز أن أذكر علي المستوي الشخصي ان زوج ابنة عمي من أبناء السودان وكان حفل اكليل ابنتهما في كنيسة مار جرجس بمصر الجديدة مكتظا بالمدعوين من السودانيين وعلي رأسهم الرئيس السوداني الأسبق الراحل جعفر نميري حيث كان استقر في القاهرة عقب الانقلاب السلمي علي نظامه وان صديقي الحميم ومواطني المصري سيد سعد محمد هاجر الي السودان منذ عقود وتزوج سودانية وانجب واستقر هناك.. وهذا مجرد مثال وقس عليه مئات الألوف من الحالات وعندما اختلت الموازين بين شمال السودان وجنوبه وايضا بين العاصمة الخرطوم واقليم دارفور وتفاقمت الأوضاع وساءت الأحوال وتصاعد الخلاف والاختلاف وحدث الخلل الجسيم في المنظومة السودانية بوجه عام ومن ثم اندلعت المعارك وتواصلت الحروب بين السودانيين أنفسهم وسالت دماء الأبرياء أنهارا لتروي أرض السودان عندئذ فإن الهاربين من جحيم النيران لم يجدوا سوي مصر إذ هي الملجأ الآمن والأم العطوف ولم يهرعوا إلا إلي أهل مصر حيث الاخوة ورابطة الدم والحميمية والصداقة والكرم والوفاء واليوم فإن السودانيين يعيشون بين ظهرانينا في كل مكان علي أرض مصر. في المدن وعشوائياتها في القاهرة وضواحيها يسعون من أجل فرصة عمل واليوم ايضا أصبح انفصال جنوب السودان عن شماله قاب قوسين أو أدني. فالكارثة سودانية وعربية وأيضا مصرية بالدرجة الأولي ومصر لا.. ولم.. ولن تبتعد عن السودان قيد انملة مصر في خضم محنة السودان المصريون في قلب المعترك في ساحة الميدان. في مقدمة الصفوف رأب الصدع السوداني كما تراه مصر يتمثل في مواصلة العمل وزرع الأمل وبث روح الأمن والأمان ونشر الطمأنينة بين جميع السودانيين. الوزارات المصرية تعمل في السودان من أجل التنمية بكافة أشكالها وأنواعها وإقامة المشروعات الزراعية والصناعية في جميع أرجاء السودان جنوبه وشماله وشرقه وغربه. المصريون في كل بقعة من بقاع السودان الشقيق ولما كان أهل الجنوب في مسيس الحاجة الي الاتصال بالعالم تقدم ابناء مصر وأقاموا أبراج المحمول رغم العقبات والصعاب نظرا للتضاريس الطبيعية وانتشار الغابات بكثافة.. محطات كهرباء مصرية أنارت ثلاث ولايات جنوبية وقفزت بسكانها قفزة هائلة من عصر سابق الي عصرنا هذا وبتمويل واشراف مصري ايضا اقيمت بعض المدارس بمختلف المراحل التعليمية والمزمع اقامة فرع لجامعة الاسكندرية في جنوب السودان وبالتحديد في العاصمة "جوبا" وقد تحمست لهذا الأمر "نياين دينج مالك" حاكمة ولاية "وراب" الجنوبية يذكر ان هذه الولاية هي مسقط رأس "سلفاكيرميارديت" رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان. أقامت مصر العديد من المستشفيات في مختلف المدن والقري السودانية البعثات الطبية المصرية تجوب بقاع السودان. في مجال الطيران تم افتتاح خط طيران بين القاهرةوجوبا. والجدير بالذكر ان الجامعات ومعاهد العلم والتعليم المصرية تضم الآلاف من الدارسين من أبناء السودان. وفي مجال الري: بالتعاون بين المتخصصين المصريين والسودانيين تم تطهير المجاري المائية وحفر آبار مياه للشرب في العديد من المناطق. وزير الري المصري د. محمد نصر الدين علام قام بجولة واسعة في جنوب السودان وشماله وافتتح العديد من المشروعات التي نفذتها بعثة الري المصرية في السودان باستثمارات تصل الي 26.6 مليون دولار. الجنوبيون أكدوا حسب التصريحات التي نشرت ان الميناء النهري الذي نفذته الحكومة المصرية وافتتحه الدكتور علام يعد أول ميناء نهري في الجنوب منذ الاحتلال الانجليزي كما يعتبر نقطة انطلاق لتنمية مدينة "واو" بولاية غرب بحر الغزال كما تستعد مصر لإنشاء ميناء آخر في مدينة "بانتيوم" بجنوب السودان أيضا ليكون أول طريق ملاحي علي امتداد التاريخ في جنوب السودان. مشروعات الري التي تقوم بها مصر في السودان تشمل دول حوض النيل بالكامل وبعثة الري المصرية تقوم بمهام أخري لها أهميتها ومنها علي سبيل المثال انها ترصد مقاييس النيل وتصرفاته.. ثم توثق هذه المعلومات وتقدمها للحكومتين المصرية والسودانية لاتخاذ ما يلزم من تدابير عند حدوث فيضانات مدمرة. وحسبما نشر في الصحف المصرية والسودانية فقد قدمت مصر 4.5 مليون دولار لإعادة تأهيل محطات قياس المناسيب وتصرفات المياه وكميتها في الجنوب خاصة محطة "ملكال" و"جوبا" و"واو" وامدادها بأحدث الأجهزة التكنولوجية. ** ووفقا لما أعلن منذ فترة ليست بالقصيرة فإن حجم المشروعات والاستثمارات المصرية في السودان يصل إلي 5.6 مليار دولار. ألم نقل في مستهل مقالنا ان مصر في قلب السودان وان السودان في قلب مص؟ تري.. ماذا عن علاقة مصر بالسودان بشطريه بعد الانفصال.. القضية جد خطيرة.. والحديث يتواصل.