يظهر ان مصر لم تعجب المأمون كثيرا عندما زارها عام 832 ميلادية. اثر ثورة عارمة هددت سلطان الخلافة. وقد عزل المأمون الوالي الضعيف. وهدأت النفوس. وراح المأمون يزرع الوادي الخصيب شمالا وجنوبا. جاء في المقريزي: "قال سعيد بن كثير بن عفير: كنا بقبة الهوا عند المأمون لما قدم مصر فقال لنا: "ما أدري ما اعجب فرعون من مصر حيث يقول: "أليس لي ملك مصر. وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون"؟ فقلت: أقول يا أمير المؤمنين فقال: قل يا سعيد. فقلت: ان الذي تري بقية مدمر لأن الله عز وجل يقول: "ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون". قال: صدقت. ثم أمسك". ولا يمكن أن يكون المأمون قد بقي علي هذه السطحية في التفكير طوال إقامته بمصر. لان القصة التي يحكيها يعقوب نخلة روفيلة في كتاب له عن تاريخ الأقباط طبع عام .1889 ان دلت علي شيء. فعلي ان المأمون عرف ان مصر ليست كل ما رآه من قبة الهوا وأفضل ان أنقل القصة كما رواها يعقوب نخلة روفيلة وهي قصة معروفة متداولة. قال: "ولما خمدت نار الفتنة. وهدأت الأحوال. شرع المأمون في تطييب خواطر الناس. فصار يطوف بالبلاد. وأخذ يتفقد أحوال الرعايا لتسكين جأشهم. وقيل انه في أثناء تجواله في البلاد مر بضيعة تسمي "طاه النمل". فلم يدخلها لحقارتها ولما تجاوزها خرجت إليه عجوز تسمي ماريا صاحبة الضيعة. وأخذت تصيح علي الخليفة المأمون مستغيثة. فظنها متظلمة. فوقف لها. وسأل عما تريد. فقالت: يا أمير المؤمنين. نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي. والقبط تعيرني بذلك. فأتوسل إليك أن تشرفني بحلولك في ضيعتي. ليكون لي ولعقبي الشرف. ولا تشمت بي الأعداء. فأجاب الخليفة المأمون طلبها. وثني عنان فرسه إلي قريتها. "ولما نزل بها. جاء ولدها إلي صاحب المطبخ وسأله كم يحتاج من الغنم والدجاج والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع وغير ذلك. مما جرت به عادته. فأحضره إليه. وكان مع الخليفة المأمون أخوه المعتصم. وابنه العباس. فقدمت له وجميع من بمعيته من فاخر الطعام شيئا كثيرا. حتي استعظم ذلك. "فلما أصبح الصباح. وقد عزم علي الرحيل. حضرت إليه ومعها عشر وصائف. في يد كل وصيفة طبق. فلما رآها المأمون عن بعد قال لمن معه: قد جاءتكم القبطية بهدية ريفية. فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب. فاستحسنت ذلك وأمرها بإعادته. فقالت: يا أمير المؤمنين! لا تكسر قلوبنا. ولا تحتقر بنا. فقال لها: ان في بعض ما صنعت لكفاية. ولا نحب التثقيل عليك. فردي مالك. بارك الله فيك. فلم ترض. وألحت عليه بقبول المال. فلم يسعه إلا اجابة طلبها. ثم سألها: من أين لك كل هذا؟ "فأخذت قطعة من الأرض وقالت يا أمير المؤمنين! هذا وأشارت إلي الذهب من هذا وأشارت إلي الطينة التي تناولتها من الأرض. ثم "من عدلك يا أمير المؤمنين"! مكانة المعرفة وجاء في كتاب يعقوب نخلة روفيلة هذا كلمة عن بطريرك الإصلاح. الأنبا كيرلس الرابع. المتوفي عام .1891 وهذا الرجل يذكرنا باباء الكنيسة الكبار أولئك الذين قادوا الشعب المصري في أحلك عصوره. دفاعا عن حمي العقيدة. والقومية". ومما يدل علي شدة احترامه للعلم. ورغبته في نشره وتنشيطه. انه لما علم بوصول أدوات المطبعة إلي الإسكندرية. وكان في دير انطونيوس بالجبل. بعث إلي وكيل البطركخانة بمصر. يأمره باستقبالها عند وصولها. باحتقال رسمي. يقوم فيه الشماسة بالملابس الرسمية المختصة بالخدمة الكنائسية. ويقابلونها من باب البطركخانة بالتراتيل والأناشيد. "وتحدث الناس كثيرا بغرابة هذا الاستقبال. فلما عاد من الدير. وعلم بحديثهم. قال لبعضهم: اني اعجب لاستغرابكم هذا الاستقبال. مع اني لو كنت حاضرا. لرقصت كما رقص داود أمام تابوت العهد". وهذا الحادث يذكرني بأحد الباشوات العثمانيين من حكام مصر. في لحظة من لحظات التاريخ المظلمة. والمرء يتلمس السبيل إلي بصيص من النور. فإذا النور ضياء باهر. وإذا علماء الأزهر في طليعة القومية المصرية" وإذا روح مصر الخالدة لا يمكن أن تنطفئ. ما أشرقت عليها شمس العلوم والمعارف. علوم الدنيا. أو علوم الدين. قال الشيخ عبدالرحمن الجبرتي: "كان الباشا العثماني من أرباب الفضائل. وله رغبة في العلوم الرياضية. وقد قابله صدور العلماء في ذلك الوقت. فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم. ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا. وقالوا: لا نعرف هذه العلوم. فقال الباشا: المسموع عندنا بالديار الرومية "أي بتركيا" ان مصر منبع الفضائل والعلوم. وكنت في غاية الشوق إلي المجئ إليها. فهل اردد مع القائل: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه؟". فقال له الشيخ عبدالله الشبراوي: يا سلطانم. هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف.. ونحن لسنا أعظم علمائها. وإنما نحن المتصدون لخدمتهم. وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة. وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلي علم الفرائض والمواريث. كعلم الحساب. قال الباشا: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية. بل هو من شروط صحة العبادة. كالعلم بدخول الوقت. واستقبال القبلة. وأوقات الصوم. والأهلة. وغير ذلك. فقال الشيخ الشبراوي: نعم. معرفة ذلك من فروض الكفاية. إذا قام به البعض سقط عن الباقين. وهذه العلوم تحتاج إلي لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية. كرقة الطبيعة. وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل. والأمور العطاردية. قال الباشا: وأين البعض الذين تتكلمون عنهم؟ قال الشبراوي: موجودون في بيوتهم. يسعي "بضم الياء" اليهم. ثم أخبره عن الشيخ حسن الجبرتي "والد الشيخ عبدالرحمن". فقال الباشا: التمس منكم ارساله عندي. فرد الشبراوي: يا سلطانم. ان الشيخ حسن عظيم القدر. وليس هو تحت أمري. انما تكتبون له ارسالية مع بعض خواصكم. فلا يسعه الامتناع. ففعل ذلك. وطلع إليه الشيخ حسن الجبرتي. ولبي دعوته. فسر الباشا برؤياه. واغتبط به كثيرا. وأخذ الباشا يزور الشيخ كل أسبوع. مع غاية الأدب والامتثال ومما قاله الجبرتي الابن ومما شاهدته من كمال أدبه وشدة اعتقاده وحبه "أي الجناب المكرم الأمير أحمد أغا" انه صادفه مرة بالطريق وهو إذ ذاك كتخذا الحاويشية. وهو راكب في ابهته واتباعه والشيخ حسن الجبرتي راكب علي بغلته. فعندما رآه أحمد أغا ترجل ونزل عن جواده. وقبل يده. والتمس منه أن يفيد به بعض الطلاب ليقرئه شيئا من الفقه والدين. هذا هو تاريخ مصر لحمة واحدة في انصهار كامل.