عرفته السينما فنانا دمث الخلق يسعي إلي أهدافه ملتزما طريقه الخاص عازفا عن السهر وشرب الخمور متفرغا لعمله وبيته حتي ان البعض اتهمه بالتزمت والرجعية معتبرين ان الاستقامة والفن عدوان لدودان لأنها تغلق أبواب الحرية في وجه الفنان.. فهل تصدق بعد ذلك ان تتقدم منولوجست لبنانية ببلاغ إلي نيابة الأزبكية تتهم هذا الفنان الملتزم.. أو شيخ الفن كما أطلقوا عليه وفي البلاغ ادعت ان الفنان حاول تقبيلها وانها غاوية شهرة ليس إلا.. وخرجت الصحف تدافع عن "حسين صدقي" الذي تعرفه جيدا ثم أثبتت التحقيقات ان اللبنانية كاذبة. ومن كرم أخلاقه سامحها.. لكن الصحف خرجت تقول: ان هذه اللبنانية المغمورة لم تطعن صدقي في أخلاقياته لكنها طعنت السينما المصرية كلها!! هكذا كانت الاتهامات والشائعات تحيط بالفنان حسين صدقي الذي حاول أن يثبت للجميع.. بالفعل وليس بالكلام.. ان الفن لا يتعارض أبداً مع صحيح الدين.. وكان مشهورا بأن سيارته لا تخلو من سجادة الصلاة.. وانه يقطع التصوير لكي يؤدي الفروض في مواعيدها. اتهموه بالإخوانية .. وفشلوا .. وكانت صداقته من الإمام الأكبر عبدالحليم محمود..وأيضاً الشيخ الجليل محمود شلتوت مضرب الأمثال بل ان عبدالحليم حضر لحظة وفاته وهو من لقنه الشهادة. وعندما بني مسجدا افتتحه الرئيس محمد نجيب ورئيس وزراء مصر في هذا الوقت جمال عبدالناصر.. ورئيس مجلس الأمة أنور السادات. الدين والفن تلخص لنا حياة وأفلام حسين صدقي ابن الحلمية الجديدة المولود لأم تركية وأب مصري في 9 يوليو 1913 كيف يمكن للفنان ان يقبض علي دينه ولا يفرط في فنه ويسخره لخدمة وطنه وأهله ومبادئه.. فهل ينفصل شخص الفنان عن فنه؟.. هذا السؤال يجيب عنه الناقد الكبير كمال رمزي: حسين صدقي ظهر كشاب يتمتع بدرجة عالية من الدماثة والخلق الرفيع جنتلمان في مظهره ومخبره يرتدي البدلة الكاملة وقور.. لا يخلع طربوشه في الأماكن العامة.. ودود صادق لا يخدع الجنس الآخر حتي إذا اتيحت له فرصة الاختلاء بفتاة أو امرأة.. يعرف تماما معني الصداقة ولا يخلف وعداً علي نفسه يمد يد العون لكل محتاج ويقف إلي جانبه بلا تردد. وحتي قبل دخوله إلي الوسط الفني كان يتردد مع صديق طفولته المخرج محمد عبدالجواد ابن عبدالجواد محمد سكرتير فرقة رمسيس حين ذاك ويتردد معه علي مقاهي عماد الدين المعروفة بأنها ملاذ الفنانين.. كان يجلس كشاب خجول يجلس قليلا ثم يغادر قبل العاشرة مساء ولا يشارك في حفلات ما بعد منتصف الليل ولا يشرب إلا الينسون.. ثم بدأ يتردد علي المسارح وينتقل من فرقة إلي أخري ولأن السينما في هذه الفترة منتصف الثلاثينيات تعتمد علي المطربين "محمد عبدالوهاب- أم كلثوم- أسمهان- ليلي مراد- فريد الاطرش.. وغيرهم" وجاءت فكرة البحث عن وجوه شابة مختلفة.. وكان النجم الأمريكي "كلارك جيبل" يمثل نموذجا مختلفا أرادت السينما المصرية ان تحاكيه ووقعت الممثلة والراقصة والمنتجة والمخرجة "أمينة محمد" في فيلم "تيتاونج" 1937 وهو فيلم مختلف عن السائد في هذا الوقت حيث تدور قصته حول شاب مصري يحب فتاة من جذور صينية. وكانت قد نشرت إعلانا بجريدة الأهرام تبحث عن وجوه جديدة وكان ينافسه علي البطولة محسن سرحان لكن المصور الفرنسي ديفيد كورنيل فضل عليه حسين صدقي كما تقول الناقدة "ناهد صلاح" في كتابها "الملتزم". وبعدها لك يا سي محمد يقول حسين صدقي في مقال كتبه عن السينما ونشرته جريدة الأخبار في 12 أغسطس 1952: يفزعني كل فنان يضع صناعة الأفلام جنبا إلي جنب مع الملاهي والمراقص.. والسينما من أهم أسلحة الدولة بعد الجيش.. والأمم الكبيرة كلها سخرت هذا الفن في الدعوة الايجابية لشتي الأغراض السياسية والخلقية والوطنية وهي أداة للتربية والتعليم والتوجيه والارشاد.. وهي النور الذي استخدمت الشعوب الناهضة قوته في تثقيف الكبار ومحو الأمية الفكرية بينهم وجعلهم مواطنين صالحين. وكانت أعمال صدقي منسجمة جدا مع وجهات نظره وتربيته الملتزمة.. فقدم فيلم "الدفاع" أمام يوسف وهبي ثم "عمر وجميلة" أمام أمينة نور الدين يليه "أجنحة الصحراء" مع أنور وجدي وراقية إبرايهم ومحسن سرحان. وفي نفس العام 1939 يقدم "العزيمة" اخراج كمال سليم والذي يؤرخ به كأول فيلم واقعي يدعو إلي العمل ويعلي من شأنه وأول مرة تنزل الكاميرات إلي الشارع والحارة بصدق كبير.. وقد تم محاربة الفيلم وقتها.. نظرا لروحه الثورية وحاولوا منعه.. وعاشت جمل الحوار الخالدة في الفيلم بين حسين صدقي وفاطمة رشدي. صدقي عندما أراد "محمد" أن يقبل "فاطمة" لكنها بدلال الأنثي تصرخ فيه: "يا ندامتي.. عيب يا سي محمد.. وبعدها لك يا سي محمد. وشاهد الجمهور المصري لأول مرة في الأفلام أجواء شهر رمضان والموالد والمسحراتي وصلاة التراويح بطريقة أدهشتهم. ثم دخل حسين صدقي إلي مرحلة جديدة قرر فيها ان ينتج لنفسه ويحقق أهدافه من السينما كما عبر عنها وكان يصر علي تحويل مصطلح السينما النظيفة إلي واقع علي الشاشة وانظر إلي مستوي غرامه الرائع مع ليلي مراد في شاطئ الغرام وكيف يكون الغزل العفيف.. ولك ان تتصور حوارا يدور بلغة أيامنا هذه لشاب يجد جميلة أمامه جالسة وحدها علي البحر تلاغي الشمس والهواء. شركته التي كونها لأول مرة كانت تضم تحية كاريوكا والمخرج حسين فوزي وباكورة أعمالها "أحب البلدي" وهو عمل لم يظهر فيه صدقي ولم يعجبه.. فقرر أن يستقل بنفسه في شركة "مصر الحديثة" وقدم فيلم "العامل" الذي كتبه بالتعاون مع صديقه محمد عبدالجواد ويعتبره النقاد من علامات السينما وكان سببا في تعجيل حكومة الملك فاروق بإصدار القوانين العمالية والترخيص بانشاء نقابات العمال.. وكانوا قد منعوا الفيلم أكثر من مرة وحقق الفيلم أرقاما قياسية في إيراداته وقدم بعده فيلم "الأبرياء" عالج فيه مشكلة تشرد الأطفال ثم قدم "الجيل الجديد" حول مشكلة البطالة ومن باب التنويع قدم الفيلم الكوميدي "الحظ السعيد" من تأليف أبوالسعود الابياري واعتبره البعض نغمة نشاذ في أعمال صدقي وكأنه ضد الضحك ثم عاد يقدم "غدر وعذاب" وكتبه واخرجه وشاركته البطولة المطربة نور الهدي.. نلاحظ هنا تنوعه قبل أن يخوض في الأفلام الدينية ويقدم "خالد بن الوليد" ورشح لبطولته الفنانة الإيطالية العالمية "صوفيا لورين" لكنها بالغت في أجرها وهو الفيلم الذي صوره بالألوان وأنفق عليه الكثير.. وأثناء تصوير خالد فكر في تقديم "عمر بن الخطاب" وعاندته الظروف الإنتاجية حتي يظهر بالمستوي الذي يحلم به.. ورغم ذلك لم ييأس وكتب فيلم "سهم الله" الذي يكشف فيه مكائد اليهود ضد رسول الله- صلي الله عليه وسلم- وكان مخرجه أحمد طنطاوي أشهر من قدم المسلسلات الدينية في بداية التليفزيون عام 1960.. لكن توفي قبل أن ينتهي من تجهيز الفيلم الذي لم ير النور. ولأنه يريد دائما وأبداً ان يكون في خدمة بلاده ترشح للبرلمان عن دائرة المعادي وفاز باكتساح لكنه لم يكرر التجربة فقد ارهقته وحاصره المرض بعدها.. والغريب بعد كل هذا ان يمشي في جنازته 8 أفراد فقط لأن النعي الذي تم نشره باسم الحاج حسين صدقي فلم يصدق الوسط الفني ان الحاج هو نفسه الفنان الكبير.. وكأن الدين والفن لا يلتقيان مع ان سيرة صدقي الانسانية والسياسية والفنية والدينية أثبتت ان الأصل في كل أفرع الدين الاباحة.. والتحريم جاء لسبب أو علة.. وقد توفي صدقي في 16 فبراير 1976 وكان قبلها مباشرة يعد لفيلم تليفزيوني عن "الخنساء شاعرة العرب" وكانت أبرز كلماته الخالدة: رسالتي الفنية هي العمل علي رفع مستوي الشعب وخاصة الطبقة العاملة الكادحة وعندما علم الشيخ الشعراوي بأنه ينوي حرق أفلامه العاطفية.. نصحه بألا يفعلها.. لأنه بذلك يتعدي علي أعمال قد تخصه ولكنها في نفس الوقت تخص غيره.. كما ان الحرق ليس وسيلة نافعة ويكفي حسن نواياه.. ثم اتضح ان حكاية حرق الأفلام هذه شائعة لم ترق إلي الخبر الصحيح.