مائة وتسعة وعشرون عاماً مضت علي ميلاد الدكتور طه حسين. ذلك العالم المتبحر. والمفكر الفذ. والظاهرة الإنسانية التي لم تتكرر في مصر حتي الآن.. ولد طه حسين في 13 نوفمبر 1889 بعزبة الكيلو. مركز مغاغة. محافظة المنيا.. وأبي أن يموت إلا بعد أن تسترد مصر كرامتها. فقد توفي رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء في 28 أكتوبر 1973 بعد أن ترك لنا تراثاً فكرياً ضخماً وفريداً يتألف من 1500 مقالة و54 كتاباً في النقد والأدب والفكر والإسلاميات. فضلاً عن أنه كان مترجماً عظيماً وناطقاً بالفرنسية مثل أبنائها وربما أفضل منهم. كان طه حسين لافتاً للأنظار. مثيراً للجدل في كل مراحل حياته. فقد حفظ القرآن وهو في سن صغيرة. وفقد بصره والتحق بالأزهر. وكان متمرداً علي الدراسة بالأزهر. فحرمه شيوخه من نيل درجة العالمية. فكان خيراً لنا ولمصر وللمصريين الذين تعلموا أو مازالوا يتعلمون من فكره وعلمه. وقيل: لو ظل في الأزهر لأصبح أعظم مفكراً ومفسراً للقرآن في التاريخ. كان طه حسين عبقرياً حتي في حياته الشخصية. فقد تزوج عام 1917 من سوزان برسو المسيحية المتشددة أثناء دراسته في جامعة السوربون. وكان عمها قسيساً جلس مع طه حسين قبل الزواج. وحينما لاحظ عبقريته ونبوغه وافق علي الزواج.. وحينما كانت تتركه وتسافر إلي فرنسا لزيارة أهلها كان يكتب إليها رسائل باكية. ويحن إليها حنين الطفل إلي ثدي أمه. في عام 1925 نشر طه حسين كتابه "قادة الفكر" الذي عبَّر فيه عن الإعجاب الشديد بكل ما هو غربي. وعبَّر فيه عن انبهاره بالفلسفة اليونانية. كما أسهم في العام نفسه في تأليف كتاب "الإسلام وأصول الحكم". وبعد رحلة طويلة وشاقة ومتعرجة وعميقة أعلن طه حسين إيابه الروحي إلي الإسلام. وساحته الإلهية العظيمة. إثر زيارته للحرم المكي عام 1955. فوصف وهو في الحرم هذه الزيارة بأنها "تلبية لدعوة آمرة من خارج النفس. عادت فيها النفس الغريبة إلي وطنها بعد غُربة طويلة".. وبعد أربع سنوات من هذه العودة الروحية نشر طه حسين كتاب مراجعاته الفكرية "مرآة الإسلام" الذي راجع فيه كل كتاباته التي أثارت الجدل وفجرت المعارك الفكرية الكبري في النصف الأول من القرن العشرين. فقد كشف في هذا الكتاب عن ألوان من إعجاز النظم القرآني ورفض رفضاً قاطعاً الغرور العقلي الذي طَغَي علي فكره في مرحلة الانبهار بالغرب ومناهج الشك الغربية. كما رفض التأويل الباطني وتأويلات التصوف الإشراقي لآيات القرآن. ونقد الفلسفة وإقحامها في الدين. وفيه أيضاً نقد ذاتي لما أورده طه حسين في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر". أمران آخران مهمان في هذا الكتاب هما: أن طه حسين تراجع عن مقولة أن الحكم إنما يقوم علي المنافع. لا علي الدين ولا علي اللغة مثلما يفعل الغربيون. ودعا إلي إقامة الحكم علي ما جاء به الدين.. الأمر الثاني أنه بعد أن كان مع الوطنية المصرية المجردة من العروبة والإسلام. ثم مع الفرعونية. رأيناه يتحدث عن الوحدة العربية والوحدة الإسلامية.. وأخيراً توفي طه حسين وهو غير راضي عن الأوضاع في أمتنا العربية.. وقال قبل وفاته للدكتور غالي شكري: "إن بلادنا لا تزال متخلفة ومريضة وجاهلة.. يُخَيَّل إليَّ أن ما كافحنا من أجله هو نفسه مازال يحتاج إلي كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم.. أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل".. ولو قُدِّرَ لطه حسين أن يقوم من مرقده اليوم لكرر نفس العبارة.