پ عندما شرعت في طباعة كتابي "حصاد الغربة" نصحني صديق بأن أطبع 500 نسخة فقط وهو نصف العدد الذي أعتزم طباعته . وأري أن رؤية الصديق في هذا المجال تعد معتبرة لأنه صاحب تجربة في التأليف والنشر فقد أصدر من قبل 11 كتابا علي مدي سنوات ويستند فيها الي عزوف الناس عن القراءة الجادة پالتي تغذي العقل والروح . والواقع يؤكد وقوع غالبية البشر كبارا وصغارا . رجالا ونساء في أسر مشاهدة الفضائيات ووسائل الاعلام الجديد "الانترنت واليوتيوب والفيس وتويتر والواتس وانستجرام .. الخ" التي تبث ليلا ونهارا ما يشبع الغرائز. والاحصائيات تؤكد ذلك. فمجلة "بلاي بوي" الإباحية الصادرة من عام 1953 بدون توقف تطبع مليون نسخة شهريا ويزور موقعها 16 مليون شخص شهريا. ويحقق أحد المواقع الإباحية أكثر من 4 مليارات مشاهدة شهريا بينما تشكو عالمة طحالب مصرية عالمية من قلة اقبال القراء علي مقالاتها الهادفة اقل من 100 قارئ علي مدي أيام. وقد شخص الفيلسوف والمفكر المغربي الدكتور طه عبد الرحمن خطورة فتنة الإعلام في كتابه القيم "التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال" بقوله: الشاشة تسيطر علي الإنسان وقتا وفكرا ووجدانا. ومع هذا الطغيان تأسست علوم وطقوس تقدس الصورة وتضع لها قواعدها. فزاد طغيانها وتأثيرها. فالمشاهد يجلس أمام الشاشة مستسلما خاشعا ملتزما بآدابها وتوقيتاتها. كأنه يقف بين يدي الرب في المحراب. فصرنا أمام "دين الصورة" وصارت الصورة نهاية وغاية وليست وسيلة ووسيطا. فتحولت إلي حجاب كثيف يُخفي ما وراءه. فزاغ البصر وطغي. وبحسبة بسيطة يمكننا التأكد بأن الانسان يمكن أن يضيع كل وقته أمام التلفاز فثمن أجهزة الاستقبال الفضائي الحديثة تتراوح بين 200 و300 جنيه أي في متناول الجميع وتبث حولي 1000 قناة فلو شاهد كل قناة لمدة دقيقة واحدة يوميا يعني أنه سيفقد 19 ساعة من ساعات اليوم ال 24 . فأين وقت النوم والعمل والرياضة والواجبات الاجتماعية؟! وهناك وجه خطير لفتنة الصورة يتمثل في طغيان المظهرية علي حياة البشر واشار اليه المفكر طه في كتابه قائلا: مع طغيان الصورة أصبحت قيمة التعامل ب"صوريته وليس بحقيقة ذاته حيث تتحدد كل قيمة بما تتلبسه من صورة. واستولي حب المظاهر والجاه علي قلب الإنسان بطريقة مخيفة حتي في لحظات الموت يريد ذلك الإنسان أن يستحضر بهرجة الصورة وليس هيبة المشهد وخشوعه لذلك يتنافس الغالبية في إقامة سرادقات العزاء الفخمة ودفع عشرات الالاف من الجنيهات لأشهر المقرئين وتوثيق كل ذلك صوتا وصورة بالفيديو رغم تأكدهمپ أن كل هذه النفقات لا تفيد المتوفي بشئ والغريب أنه يرفضون اذا طلب منهم التبرع بصدقة جارية باسم المتوفي بمئات الجنيهات. واتفق معپالحل الأخلاقي الذي طرحه الفيلسوف المغربي في كتابه وهو العمل علي اخراج الإنسان المعاصر من أسر الصورة واشتراطاتها الأرضية والمادية إلي إبداع المصور-سبحانه وتعالي- خلقا وتصويرا وأمرا ونهيا فمع الصورة يسترجع الإنسان عالم الأسماء الحسني: الباريء والمصور والخبير والعليم والرقيب والشهيد. فخائنة الأعين التي تبثها مادية الصورة لا تعالج إلا بروحانيات الإيمان بالمصور سبحانه ويتم باستخدام الفقة الإئتماني وليس الفقه الائتماري.