القضية الفلسطينية. وفي قلبها قضية القدس. قضية حقوق شعب. وقضية تاريخ وحضارة. وقضية نضال طويل خاصة الفلسطينيين والعرب علي مدي قرن من الزمان. مند وعد بلفور عام 1917. وسقط فيه مئات الآلاف من الشهداء والمصابين. ولا يجوز التعامل مع هذه القضية. من أي طرف دولي مهما كان. بمنطق سماسرة الأراضي وتجار العقارات. ولا بشعار "أمريكا أولاً". فهي ليست اتفاقية مناخ. أو تجارة حرة. يصلح معها الضغط والابتزاز السياسي للآخرين للحصول منهم علي أكبر قدر من التنازلات. وقرار الرئيس الأمريكي ترامب بنقل السفارة الأمريكية للقدس لن يخيف الفلسطينيين أو يثنيهم عن الاستمرار في نضالهم من أجل أرضهم المحتلة. وحقوقهم المشروعة المسلوبة. ودولتهم الحلم وعاصمتها القدس. الفلسطينيون هم "شعب الجبارين".. ولو كانوا يخافون. لما استمروا حتي اليوم. يقدمون التضحيات كل يوم وتمتلئ سجون إسرائيل بأسراهم من كل الفئات والأعمار. وفي نفس الوقت يقدمون نموذجاً. وهم تحت الاحتلال. لواحد من أنشط شعوب الأرض وأكثرها حيوية واقبالا علي الحياة. وقرار الرئيس ترامب لن يغير التاريخ. ولن يضفي شرعية علي ما لا شرعية له. حتي لو قرر ترامب نقل البيت الأبيض نفسه إلي القدس. فأمريكا ليست مصدر الشرعية الدولية. وهي لا تخيف إلا من لديهم قابلية للخوف. أما من يملكون شجاعة المواجهة وإرادة التمسك بالحقوق والدفاع عنها. فإنها تخافهم. وتحسب لهم حسابهم. وتجربتها مع كوريا الشمالية علي سبيل المثال قائمة أمامنا دليلا واضحا علي ذلك. إن اسرائيل. منذ قيامها قبل سبعين عاما. وهي تعلن أن القدس عاصمتها الأبدية. ولم تستطع أن تحصل علي ذرة من الشرعية لهذا الاعلان بل وقف العالم كله ضده. حتي بعد أن احتلت كامل المدينة في عدوانها عام 1967. والكونجرس الأمريكي أصدر عام 1995 قرارا منفردا بالاعتراف بهذا الاعلان. ونقل السفارة الأمريكية إلي المدينة. ولم ينجح أو تنجح أمريكا بكل نفوذها العالمي في أن تكسب صوتاً واحداً من المجتمع الدولي إلي جانب هذا القرار. ولو علي سبيل المجاملة أو النفاق السياسي. لا أحد في العالم كله شاركها في الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ولم يقم أي رئيس أمريكي بتنقيذ قرار الكونجرس علي مدي 22 سنة ماضية. رغم أن نفوذ اللوبي الصهيوني داخل أمريكا قائم لم يتأثر. وسيطرته علي الكونجرس وعلي مفاصل كل مؤسسات صنع القرار السياسي لم تتراجع. لقد حسب رؤساء أمريكا السابقون. خلال هذه السنوات حساب ما يمكن أن يثيره تنفيذ قرار الكونجرس من ردود فعل تضر بمصالح بلادهم في الشرق الأوسط والعالم. بل وتضر بإسرائيل نفسها. واحترموا ولو علي مضض مكانة المدينة التي اعترفت بها قرارات الشرعية الدولية. واعتبار قضية القدس احدي قضايا الوضع النهائي التي يتم حسمها في المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل. *** قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية للقدس جاء في الاتجاه المعاكس. وهو قرار جعل من الصعب علي أقرب حلفاء أمريكا تأييده أو الدفاع عنه. حتي والعرب اليوم في أضعف حالاتهم. ورغم العلاقات القوية لهؤلاء الحلفاء بإسرائيل. ولا أدل علي ذلك من موقف الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة في عضويته. رفضت جميعها تأييد القرار أو اتباع ترامب في مسلكه.. أعلنت ذلك مسئولة السياسة الخارجية في الاتحاد. كما لم يتردد الرئيس الفرنسي في أن يعلن نفس الموقف الرافض. ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واقف إلي جواره في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقد في الإليزيه في أعقاب زيارة الأخير لباريس أمس الأول. ذلك أن قرار ترامب يضر بالجميع. ولا يصب في مصلحة أحد. بما في ذلك أمريكا وإسرائيل.. بل ان نتائجه يمكن أن تكون عكسية علي جميع الجبهات وكل المستويات. انه قرار يحبط المعتدلين. ويوحد المنقسمين. ويجعل إسرائيل هدفاً للمتشددين. ويشعل فتيل مواجهات جديدة في المنطقة بلا أي مبرر منطقي. سوي أن يسدد ترامب فاتورة انتخابه للوبي الصهيوني. ويراهن علي هذا اللوبي لانقاذه من التحقيقات الداخلية التي قد تطوله. حول علاقته وعلاقة حملته الانتخابية بروسيا ودورها في فوزه بالرئاسة. لقد عاشت إسرائيل أزهي سنوات عمرها. منذ 2011. في مأمن كامل. بينما ثورات ما سمي بالربيع العربي تضرب وتدمر وتخرب في العالم العربي.. وهاهو قرار ترامب ينهي بقراره هذه الفترة. ويعرضها لانتفاضة فلسطينيين وغضب عربي وإسلامي ربما يستمر حتي اسقاط هذا القرار. بل ان مصالح أمريكا أصبحت في مرمي الخطر والتهديد. فهذه فرصة لاعادة إنعاش الإرهاب بعد هزيمة داعش في العراق وسوريا. لقد أهداه ترامب ساحة نضال جديدة تحت مظلة الدفاع عن القدس ولو بالخديعة. *** ان ترامب نفسه فشل في أن يقدم مبرراً واحداً مقنعا لاصدار قراره في هذا التوقيت. قال إن إحجام من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية اليها كان بهدف المساعدة في احراز تقدم في عملية السلام.. ولم يتم أي تقدم. وبالتالي فقد هذا الاحجام في رأيه مبررة. لكن ترامب لم يقل لماذا لم يتم أي تقدم في عملية السلام.. ولا من الطرف المتسبب في ذلك. كما أنه لم يقل هل قراره هو الذي سيؤدي إلي هذا التقدم.. وكيف؟! وقال ترامب ان قراره لا يمس كون القدس احدي قضايا الوضع النهائي. وأن تحديد مصيرها متروك للمفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل. ولو كان هذا صحيحا.. إذن لماذا التدخل بقرار أحادي يعلي كفة طرف علي آخر قبل بدء التفاوض. وكأنه يحسم المفاوضات قبل ان تبدأ. ويصادر علي أي نتيجة مخالفة للأمر الواقع الذي فرضه هو وإسرائيل؟! ثم كيف يصدر ذلك من دولة مفروض أنها ترعي عملية السلام. ومهمتها تسهيل بدء واستمرار هذه العملية بحيادية وتجرد؟! بل ان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لم يجد هو الآخر ما يدافع به عن القرار سوي قوله. إن مناطق أي دولة ذات سيادة أن تختار عاصمتها. وهو ما ينطبق علي إسرائيل. وتجاهل نتنياهو أن هذه أول مرة في التاريخ تختاردولة احتلال. مدينة تحتلها. عاصمة لها رغم أن لها عاصمة أخري أصلا. وإلا لكانت بريطانيا اختارت القاهرة مثلا عاصمة لها بجانب لندن. عندما كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني. أو اختارت فرنسا مدينة الجزائر عاصمة لها بجانب باريس. ثم لو كان هذا مقبولا. هل تقبل إسرائيل. ولو علي سبيل الافتراض. أن يطالب الفلسطينيون بأن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية القادمة هي تل أبيب؟! إن ترامب يواجه تحقيقات بتخابر أعضاء حملته الانتخابية مع دولة أجنبية يعتبرونها "معادية" هي روسيا. ونتنياهو يواجه تحقيقات في اتهامات بالفساد تطوله وتطول أسرته والاثنان مهددان إذا ما استمرت التحقيقات علي جديتها بالسقوط.. وربما يتصور تحالف الاثنين ان هذا القرار يمكن ان يحميهما من هذا المصير. *** لكن .. بعيداً عن كل ذلك. دعونا نواجه الحقيقة ولو مرة واحدة. مهما تكن صادمة. إسرائيل لا تريد السلام. بل وتنفر منه. وتسعي لتعطيله بكل الطرق. وهي لن توقع اتفاقا يحصرها كأي دولة في العالم داخل حدود نهائية. سواء كانت حدود 1967 أو غيرها. حتي لو تنازلنا لها عن القدس. بل وكل فلسطين. وتعتبر أي اتفاق مجرد مرحلة. وقابل للنقض في أي وقت. إسرائيل تريد دولتها الكبري المزعومة من الفرات إلي النيل. ولذلك تريد أن تعيش في دولة مفتوحة الحدود وقابلة للتوسع.. أي أن السلام ليس بين خياراتها بدليل أن "مبادرة السلام العربية" التي أعطتها كل ما كانت تطلبه.. مطروحة علي المائدة منذ عام 2000 حتي الآن دون أن توافق عليها. وخيار الحرب ليس مطروحا أيضا.. ان نموذج حرب أكتوبر 1973. الحرب المصرية العربية المنتصرة لم يعد قابلا للتكرار. ولا الحلول العسكرية باتت نهاية سعيدة لأي صراع دولي. خيار المقاومة هو الخيار الوحيد المتاح. وهو اذا ما أحسن استخدامه. قادر علي أن يحقق ما تعجز الحلول العسكرية عن تحقيقه. وقرار ترامب. يحول القدس إلي معركة نموذجية.. فالمدينة المقدسة لا يختلف عليها سني وشيعي. ولا مسلم ومسيحي. هي مدينة السلام لكل محبي السلام في جميع أنحاء العالم. والدفاع عنها والحفاظ علي هويتها هو عمل من أجل السلام. والفلسطينيون داخل القدس. وفي كل الأراضي المحتلة هم رأس الحربة في هذه المعركة ويجب دعمهم بكل ما يعينهم علي الاستمرار فيها. واستثمار التوافق العالمي الداعم للحفاظ علي هوية القدس. ان مبادرة فضيلة شيخ الأزهر. ومن بعده قداسة البابا تواضروس إلي رفض طلب نائب الرئيس الأمريكي الاجتماع بكل منهما خلال زيارته القريبة لمصر. كانت ومازالت حتي الآن أكثر الخطوات تأثيرا في هذه المعركة.. كانت أقوي من طلقات الرصاص. وأثبتت أن القيادة الدينية يمكن ان تقوم بمبادرات تبعد عن القيادة السياسية أي حرج. معركة القدس ليست معركة جيوش عسكرية.. هي معركة جيوش شعبية.. معركة كسب العقول والقلوب. وهي تحتاج إلي وسائل وآليات مبتكرة. مهما تكن رمزية. لكنها ستؤثر. خاصة إذا ما توجهت إلي الرأي العام العالمي بلغته ومن خلال أدواته. قرار ترامب يمكن أن نحوله من تحد .. إلي فرصة.