من "ليالي الحلمية" إلي "رأفت الهجان" و"بوابة الحلواني" وغيرها من الأعمال الخالدة التي مازالت باقية في وجدان الجمهور.. استطاع الإنتاج الدرامي الحكومي في مصر أن يصنع مجداً وثراء فكرياً علي مدي عقود. تألقت فيه شاشات التليفزيون المصري والعربي بأفضل المسلسلات التي مست القلوب والعقول. لكن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً لحضور الدولة في عملية الانتاج الدرامي من خلال قطاعات الانتاج الرئيسية الثلاثة "قطاع الانتاج وصوت القاهرة ومدينة الانتاج" والتي عجزت مع تطور صناععة الفضائيات عن منافسة شركات الانتاج الخاص المتحالفة مع القنوات المرتبطة بها بما أدي الي تراجع كبير في مضمون هذه الدراما وانهيار تأثيرها الكبير في المشهد الاجتماعي العربي من المحيط إلي الخليج.. بما يفجر قضية شديدة الحساسية وهي تخلي الدولة بصورة تبدو كاملة عن الانتاج الدرامي وترك الساحة خالية للقطاع الخاص ليفرض آلياته ومفرداته الخاصة علي ثقافة المجتمع في ظل عدم قدرة قطاعات الدولة علي توفير السيولة المالية لانتاج أعمالها المتوقفة منذ عدة سنوات. فما رأي النقاذ والكتاب والقائمين علي الانتاج الدرامي الحكومي في هذه القضية؟ يقول محمد العمري رئيس شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات إننا ننتج أعمالنا بالجهود الذاتية منذ حوالي 6 أو 7 سنوات بعد أن توقف القطاع الاقتصادي عن ضخ أموال لقطاعات الانتاج الرسمية. ورغم ذلك قدمنا ثلاثة أعمال في الموسم الرمضاني الماضي وهي "قضاة عظماء" و"عرايس خشب" وهو مسلسل اجتماعي إضافة الي مسلسل الجرافيك "المسلمون والإسلام ج4" ولدينا ثلاث مسلسلات جاهزة للانتاج هي "طلعت حرب" و"نجمة سيناء" و"الطريق إلي راس العش" وهي أعمال وطنية لن تجد لها مثيلاً بالقطاع الخاص لكننا في نفس الوقت لا نملك سيولة مالية لانتاجها ولذلك نمد أيدينا وعلي استعداد للتعامل مع أي جهة خاصة لتري هذه الأعمال النور ويستمتع بها المشاهد. يضيف العمري: إننا كقطاع انتاج رسمي نسعي للتعاون مع القطاع الخاص ونقدم كل التسهيلات من استوديوهات وخبرات وعلاقات تسويق وهي صيغة مناسبة لانقاذ الدراما الرسمية من عثراتها. ويعترف العمري أن غياب مؤسسات الدولة عن الانتاج وانفراد القطاع الخاص به أدي إلي تطور في الشكل لكن المحتوي ظل دون المستوي وهو أمر معروف للجميع. الوضع المقلوب من جانبه يؤكد د.إبراهيم أبو ذكري رئيس اتحاد المنتجين العرب أن الدراما المصرية وربما العربية فقدت النظام الأساسي والترتيب المنطقي في العملية الانتاجية والتي تبدأ بالورق الذي يبحث عنه المنتج الواعي وعندما يجده يختار المخرج المناسب الذي يتعاون مع المؤلف والمنتج في اختيار الممثلين المناسبين للأدوار المختلفة ثم جدول العمل والتصوير وباقي فصلول العملية الانتاجية والنتيجة أن كل خطوة تتم بتأن ودراسة وفهم وبالتالي غالباً ما تكون النتائج جيدة. يضيف: هذه هي المدرسة الانتاجية التي كرستها جهات الانتاج التابعة للدولة في بدايات العمل التليفزيوني في العالم العربي واستمرت عقوداً طويلة خلالها هذه الجهات أهم الأعمال في تاريخ الدراما العربية حافظات فيها علي قيم وافكار وتاريخ المجتمعات العربية من خلال شكل فني محترم لم يخل من الابهار حسب امكانيات كل فترة. ورغم ذلك يري أبو ذكري أن غياب هذه القطاعات والجهات الرسمية لم يؤثر كثيراً علي العملية الانتاجية من حيث الكم بل علي العكس من ذلك ربما زاد عدد المسلسلات وفي اطار شكل أكثر ابهاراً. لكن المشكلة تظل قائمة وواضحة في المضمون الأقل قيمة والذي لا يبتعد كثيراً عن التسلية والترفيه بعيداً عن أي عمق أو رسالة اجتماعية. ويضيف: الوضع الحالي "بالمقلوب" حيث الفضائيات هي صاحبة الكلمة الأولي في الاختيار تبعاً لنصائح شركات الإعلان والمنتج الخفي الذي يراعي قبل كل شيء جمهوره الذي هو جمهور المعلنين وبالتالي تحولت المسألة إلي ما يشبه مدرسة "شباك التذاكر" في السينما. ويعتبر أبو ذكري غياب الدولة جريمة مكتملة الأركان ويطالب بأن يكون هنالك تكامل وتعاون بين العام والخاص في اطار يتفق عليه بعيداً عن الصيغة التقليدية. بعيداً عن التقليدية فيما يفخر الناقد نادر عدلي مفاجأة من العيار الثقيل في الاجابة عن السؤال الجوهري في هذا الموضوع وهو "هل تخلت الدولة عن الدراما" حيث يجيب عدلي بالنفي التام.. فالدولة من وجهة نظره لم تتخل عن الانتاج الدرامي لحظة واحدة لكنها تفعل ذلك بصيغ أخري بعيداً عن الطرق التقليدية المباشرة من خلال القطاعات الرسمية الثلاثة لأن الدولة وجدت أن مصادر الأموال التي تدير الانتاج الدرامي هي الإعلانات وذلك بحثت عن هذه الصيغة الجديدة للتمويل ونتج عن هذه العملية أن ما يقرب من نصف الانتاج الدرامي تم عن طريق رجال الأعمال مدعومين من الدولة بشكل أو بآخر هذا من ناحية ومن ناحية أخري يقول عدلي تدخلت الدولة في ملكية بعض القنوات الفضائية كبدائل مختلفة عن قنوات الدولة الرسمية والتي تعاملت مع الدراما علي أنها مختلفة عن قنوات ليس لها دور سوي أن تكون جزءاً من البرنامج اليومي للقناة للحفاظ علي شعبيتها ونسبة مشاهدتها. ويؤكد عدلي أن هذه الآلية رغم سلبيتها حافظت علي وجود الانتاج الدرامي بصورة جيدة تعتمد علي رغبة الدولة في استمراره وان اختلفت الصيغة حيث النوع الواحد من الدراما الترفيهية بكافة صورها من بوليسية إلي اجتماعية إلي اثارة وتشويق دون الدخول في قضايا مجتمعية مهمة ولأن الدولة لا تريد أن تخسر اعتمادها علي الإعلانات التي باتت تشكل خطراً أكبر علي لب العملية الدرامية وجودتها وحتي وقتها التي تحول من 40 دقيقة إلي نصف هذا الوقت تقريباً لتوفير مساحة لعرض الإعلانات. مسألة تجارية أما الناقدة ماجدة خير الله فتعتبر الوضع الحالي أسوأ حدث في تاريخ الدراما المصرية لأن كل الشركات تبحث عن موضوعات تجارية دون ابتكار ولا فتح فرص ولا تجديد للدماء وقد يصل الانتاج في موسم واحد إلي ثلاثين أو أربعين مسلسلاً ولا تجد منها سوي مسلسلين أو ثلاثة يمكن أن تصفها بأنها مسلسلات جيدة. فالدراما تدور في حلقة مفرغة بنفس الأفكار والممثلين والمؤلفين والمخرجين وأصبحت شركات الإعلان تتحكم في نوعية الدراما التي تقدم علي الشاشة ولا يمكن مثلاً أن يقدم القطاع الخاص علي انتاج أعمال درامية أو سيرة ذاتية أو دينية أو غيرها من الموضوعات الهادفة. تري ماجدة أن استمرار هذا الوضع طويلاً صعب جداً ولا ينحصر الحل في أن تضخ الدولة أموالاً لقطاعات الانتاج لكن الأهم هو العقول التي تدير هذه الأموال وتدفعها في اتجاه معين حتي لا يخسر المجتمع وثقافته الكثير. ماسبيرو هو الحل يعتبر السيناريست طارق بركات قطاعات الانتاج التابعة للدولة بمثابة ميزان من كل الزوايا الانتاجية والفنية حيث تخضع الأعمال التي تقدمها هذه القطاعات الي معايير حقيقية وتدقيق شديد في الاختيار لا يقبل فيه أن يقدم عملاً خاوياً من القيمة والمضمون بل يقدم درما تحرص علي الأهمية وتؤكد أخلاقيات وقيم المجتمع أو دراما السيرة الذاتية أو الأعمال الدينية أو باللغة العربية وهي انتاجات لا يفكر القطاع الخاص بجدية تقديمها. اكتفاء بالناحية التجارية دون غيرها.. ومن جهة أخري يحرص القطاع العام علي توسيع رقعة المشاركين في العملية الانتاجيية من كل الفئات المهنية تمثيلاً واخراجاً وتأليفاً وكل كوادر العمل الفني بما يصل إلي أكثر من 75% من العاملين في الانتاج الدرامي في الوقت الذي يركز فيه القطاع الخاص علي فكرة "الشللية" ومحدودية المجموعة.. وهو العامل الذي يؤثر بالسلب. وينتقل بركات إلي زاوية أخري أكثر أهمية وهي أن وجود القطاع العام يكبح جماح الارتفاع الجنوني في أجور النجوم الذي وصل إلي أرقام غير منطقية تسحب من جودة الانفاق علي باقي العملية الانتاجية لتصل في وقت ما إلي ما يمكن أن نسميه "تكلساً" في الانتاح الدرامي بسبب تكرار ظهور نجوم بعينهم مع مؤلفين ومخرجين ومجموعة عمل تكاد تكون ثابتة. يشير إلي أن وجود القطاع العام حتي لو قدم أعمالاً بنجوم الصف الثاني فهو يقلل فرص استيلاء القطاع الخاص علي سوق الإعلانات. وبامكانية الحصول علي جزء من "الكعكة" الإعلانية. ويعتبر بركات أن هبوط مستوي قنوات ماسبيرو يعد واحداً من أهم أسباب هذا التراجع في انتاج الدولة ولكنه يعتقد أنه مازالت الفرصة موجودة لو صدقت النوايا في صنع تكتل مواز قوامه قنوات ماسبيرو الفضائية والمتخصصة والأرضية إلي جانب قطاعات الإنتاج التابعة للدولة وخبرات التسويق الموجودة فيها في مواجهة بيزنس القنوات الفضائية وشركات الانتاج الخاص التي تفتقد رغم كل شيء هذا التاريخ الطويل من الخبرة والاسم التجاري والعلاقات التسويقية مع القنوات الرسمية في العالم العربي.