عندما يحذر مكرم محمد أحمد رئيس المجلس الأعلي للإعلام. بكل تاريخه الصحفي ومواقفه المؤيدة تماما للدولة والرئيس السيسي.. حين يحذر الحكومة من تأخرها في مواجهة كارثة الغلاء حتي وصلت نسبة التضخم رسميا إلي 2.34% لأول مرة في التاريخ المصري. فلابد أن تتوقف هذه الحكومة أمام رأي كل مخلص لبلده والذي يعيش في رعب. خوفا عليه وشفقة علي ملايين الكادحين الصابرين من المصريين. في "أهرام" الأحد الماضي قال الكاتب الكبير - وهو يتحدث عن شجاعة وحكمة المصريين الذين يتجرعون الآن مر الدواء أملا في أن يتعافي الاقتصاد الوطني وحرصا علي استقرار الوطن. وإنه يجب علي حكومة المهندس شريف إسماعيل أن تتذرع هي الأخري بالحصافة والحكمة وتدرك في الوقت المناسب ان هناك سقفا لقدرة الناس علي التحمل وأننا نقترب من هذا السقف. ان لم نكن قد جاوزناه بالفعل. روشتة "مكرم" للحكومة تتلخص في اختصار حلقات الوساطة التي تضاعف الأسعار. وعدم الخوف من تحديد هوامش ربح لكل نشاط اقتصادي حتي تردع جشع التجار دون حاجة إلي التسعير الجبري وبما يجعل الرقابة علي الأسواق. عملا مجديا. هذه الروشتة وغيرها طرحها عشرات الكتاب والخبراء قبل التعويم وبعده. حتي يئسوا و"زهقوا" بعد أن تحول ما يقولونه إلي صرخة في البرية لا يسمعها أحد. وإذا فتح الله علي الحكومة فإنها ترد بتصريحات تكررت عشرات المرات من ضبط الأسواق وتوفير السلع بأسعار مناسبة أو وعود بإقامة مناطق لوجستية للتعامل المباشر مع المنتجين والمزارعين وتدوين الأسعار علي المنتجات لمواجهة مأساة تعدد الأسعار ورفعها كل عدة أيام علي نفس المنتج. أو أن الحل هو في زيادة المعروض ومضاعفة منافذ الدولة التي تجبر بأسعارها كما نتوهم. التجار علي تخفيض أسعارها أو الاجتماع من حين لآخر مع قيادات التجار ومناشدتهم أن يكونوا رحماء بالمواطنين الغلابة! هذا ما يتم أمام كاميرات الفضائيات وفي التصريحات الصحفية. بينما واقع الأسواق يؤكد للجميع ان كل ذلك "دخان في الهواء" - ورحم الله أستاذنا جلال الدين الحمامصي الذي كان يكتب تحت هذا العنوان لسنوات طويلة. بدليل الأرقام المرعبة التي أعلنها مؤخرا الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء عن تزايد نسبة التضخم بنسبة 2.3% في يوليو الماضي عن الشهر السابق له والذي حقق 30% وهو ما جعل د.عالية المهدي عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تحذر من تجاوز معدل الفقر نسبة 35% مقابل 8.27% العام الماضي ومن أن جنون الأسعار يقلل من تأثير ما صدر من قرارات ايجابية بزيادة في مستويات الأجور والمعاشات. وإذا كنت ممن تفاءلوا ب د.المصيلحي لأنه يجمع بين الوزير السياسي والتكنوقراط وممن يقدرون جهده وما يواجهه من مهام صعبة. فإنني أتعشم في سرعة تنفيذ وعوده ومنها تثبيت أسعار السلع علي المنتجات وأن يعمل علي توظيف ما لديه من آلاف المنافذ بالمجمعات بجانب منافذ الدولة الأخري للجيش والشرطة وغيرها. ليكون لها تأثير في مواجهة الغلاء وكسر شوكة التجار الجشعين.. وذلك لأنه من البديهي - الذي لم يتحقق للأسف. أن تكون الدولة وهي تشتري ما تحتاجه هذه المنافذ في موقع أقوي من خلال التفاوض المباشر مع المنتجين والمزارعين للحصول علي أسعار أفضل من تجار الجملة والسلاسل التجارية بما يخفف أعباء المواطنين ويجبر التجار علي تخفيض أسعارهم. وللأسف - يكشف واقع المجمعات وغيرها ان أغلب السلع المعروضة - ربما باستثناء اللحوم والدواجن. بنفس أسعار القطاع الخاص أو أقل لبعضها بهامش بسيط لا يذكر. نتيجة الفشل في توفير عروض جيدة من المنتجين بسبب دفع مستحقاتهم بالأجل مقارنة بأصحاب السوبرماركت الكبيرة مما يجعلهم يقدمون خصومات أفضل من منافذ الدولة ويجعل بضائعهم أقل سعرا وأكثر تنوعا. مع التأكيد علي ان المقارنة هنا نسبية لأن كل ما يعرض بالسوق المصرية أصابه جنون الأسعار التي يفرضها مافيا التجار والمحتكرين علي الجميع في ظل غياب أي آلية حقيقية بعيدا عن الوعود الحكومية لضبط السوق وتحديد هامش ربح للمنتج والتاجر. وربما يخفف من هذه السلبيات. ما قرره مؤخرا د.علاء فهمي رئيس الشركة القابضة للصناعات الغذائية لتعديل طرق شراء السلع لتكون مركزيا لمنع تعدد جهات التعاقد في الشركات التابعة والحصول علي أسعار تنافسية تفيد المستهلك. المؤكد.. انه لا يمكن لأي منصف أن ينكر ما تشهده مصر خلال السنوات الأخيرة من انجازات في المشروعات القومية والإسكان الاجتماعي والطرق والجهود الحالية لجذب المستثمرين بإنشاء المناطق الصناعية وتخفيض العجز التجاري وزيادة الصادرات واستغلال ثرواتنا من النفط والغاز والخامات المعدنية والتي يبدأ حصادها خلال الشهور القادمة ولكن المشكلة الأساسية ان الحكومة تفسد الفرحة بهذه الانجازات لأن من يعاني من مرارة الحاجة ونار الأسعار لن يشعر بمثل هذه الايجابيات. وإذا كان خطر الإرهاب يوحد قلوب المصريين ويجعلهم أكثر تحديا لمؤامرته فإنني اتصور ان الغلاء الذي يكوي الملايين واستغلال التجار لهم هو الأخطر لأنه يظلم كل هذه الجهود. ويفتح باب الاحباط والغضب والفرقة والتشتت بينما مصر اليوم في أشد الحاجة وهي تواجه أخطرالتحديات إلي التماسك والتوحد للحفاظ علي استقرار بلدهم. من هنا.. فإنني أتمني أن يكون الحوار المجتمعي الذي أعلن رئيس الوزراء ان الحكومة ستطلقه هذا الأسبوع. حول الإصلاح الاقتصادي والدعم والأحوال المعيشية للمواطنين بداية جديدة تؤكد من خلالها الحكومة نهاية عهد الصمت وتجاهل آراء الآخرين وانها حريصة علي التحاور مع كل أطياف المجتمع للتوافق علي سياسات وبرامج واقعية تؤكد ان حكومتنا تحنو بالفعل علي ملايين المصريين الصابرين وانها تواجه بحزم من يستغلونهم دون رحمة وأنها حريصة بالفعل علي أن يشارك الجميع في تسديد فاتورة المعاناة حسب قدرة- وليست سطوة. كل منهم.. وذلك حتي يمكن لملايين الفقراء ومحدودي وحتي متوسطي الدخل. أن يتحملوا ما تبقي من شهور عجاف حتي تهل بشائر الخير - كما وعدونا. في 2018 وكما أكدت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي قالت خلال وجودها بالقاهرة هذا الأسبوع: ان مستقبل الاقتصاد المصري يحمل الكثير من التفاؤل رغم الصعوبات التي يمر بها حاليا. إلا أننا نعتقد انه بعد سنة أو سنتين سيتغير الوضع إلي الأفضل لأن مصر تسير في الطريق الصحيح وبخطة مرسومة. إذن.. فلنتمسك بالتفاؤل ولكن بشرط أن تتحلي الحكومة أيضا كما قال مكرم محمد أحمد بالحكمة والحصافة والشجاعة في مواجهة جشع التجار وترويض الغلاء.. ونحن في الانتظار.