توجع قلب مصر واهتز وجدانها لحادث كنيستي مار جرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية.. فالدم كله حرام .. فما ذنب الأبرياء فيما اقترفته أيادي الإرهابيين الآثمين وإذا تجاوزنا آلام اللحظة ومواجع الفاجعة نجد أنفسنا في مواجهة أسئلة الوقت : مَنْ وراء تلك الحوادث .. لماذا يصر مرتكبوها علي صبغها بلون الطائفية وإذا كان تنظيم داعش قد تبني الحادثين ومن قبلهما حادث البطرسية الذي وقع في القاهرة قبل بضعة أشهر فإن السؤال : هل فعلها التنظيم الإرهابي بمفرده أم بمعاونة دول وأجهزة مخابرات أجنبية وبأيدي عناصر خائنة من الداخل والسؤال الأهم : كيف حال المناعة الوطنية .. هل نملك جبهة داخلية متماسكة ونسيجًا وطنيًا عصيًا علي محاولات الوقيعة المستمرة وإشعال الفتنة في ثوب الوطن وإثارة الاحتقان وتوسيع الفجوة بين عنصري الأمة وخلق حالة توتر وتربص داخل النسيج الواحد .. وإذا تجاوزنا هذه الأسئلة إلي ما هو أعمق وأخطر : فهل تكفي المعالجات التقليدية لتجاوز هذه المحنة. وخلق حالة وعي وتفهم وإيمان لدي المواطنين بضرورة الثبات والصبر في المواجهة وإذا تأكد لنا صدق الاعتقاد بأن ثمة بصمة مخابراتية أجنبية في الحوادث الإرهابية الأخيرة تخطيطًا تمويلاً وإمداد بالمعلومات فهل ثمة إجراءات سريعة قادرة علي سد الثغرات ومحاصرة عناصر الإرهاب وسد أبواب التطرف والتعصب الذي يزرعه غلاة المتطرفين والأهم كيف نجعل الحيوية المجتمعية والاصطفاف الوطني في أعلي درجاتهما.. كيف نعيد للدولة هيبتها ودورها الأهم بحسبانها ضامنة لحقوق بنيها جميعًا بلا تصنيفات. وملاذاً للأمن يحتمي به كل من سكن ديارها بلا استثناء.. كيف نعيد للقانون احترامه وللعدالة سيادتها علي الجميع .. القوي قبل الضعيف.. كيف نربي أجيالنا الجديدة علي روح المواطنة والتسامح والعيش المشترك وقيم الأديان السماوية السمحة التي تحرم سفك الدماء وتمقت العنف وتبرأ من إزهاق الأرواح البريئة دون ذنب أو جريرة .. وإذا كانت العناصر الإرهابية التي يجري استخدامها في التفجير والقتل لا أمل في إعادتها لطريق الحق بعد أن تشبعت بالمفاهيم المغلوطة فلا أقل من أن تدرك الأجيال الجديدة فنحصنها بالوعي وصحيح الدين حتي لا نجد من بينهم من يذهب للموت وسفك الدماء دون عقل ولا رشد ولا اعتقاد صحيح ولا ثمن» الأمر الذي يعني أننا في حاجة لتغيير البيئة الحاضنة للإرهاب الطاردة للفكر السليم وهو ما يقودنا بالضرورة إلي المعركة الأساسية معركة البقاء والتنمية بتجفيف منابع الإرهاب والفقر والعشوائية وإصلاح التعليم والخطاب الديني والمعاملات وخلق مجتمع القدوة الصالحة وأحسب أنها ضمن أولويات المجلس الأعلي لمكافحة الإرهاب والتطرف الذي أصدر الرئيس السيسي قراراً بتشكيله علي خلفية تفجيري طنطاوالإسكندرية اللذين إن كانا في ظاهرهما طائفيين فإنهما في جوهرهما سياسيان بامتياز . أريد بهما توصيل رسائل سياسية عديدة للداخل والخارج معًا » فهما من ناحية وقعا فور عودة الرئيس السيسي من زيارة عمل ناجحة لأمريكا وما كان فيها من حفاوة أمريكية بمصر ورئيسها وتعاون وثيق بين الدولتين في مواجهة الإرهاب الذي أراد إفساد الفرحة بنجاح تلك الزيارة كما أراد ضرب السياحة الآخذة في الانتعاش بعد إعلان أمريكا بأن مصر آمنة وتوافد الوفود السياحية من أوربا وغيرها كما تزامن الحادث مع احتفالات مصر بأعياد أقباطها فأريد إفساد فرحتهم وتفجير أحزانهم من جديد وخلق فجوة بينهم وبين الدولة وإشاعة التوتر مع إخوانهم المسلمين وتعريض الجبهة الداخلية للخطر. فضلاً علي تخويف بابا الفاتيكان من إتمام زيارته المرتقبة لمصر والتي أصر الرجل علي إكمالها رغم الظروف الحالية .. والسؤال هل نجح الإرهاب في تحقيق غاياته الدنيئة.. أم أنه لا يزال هناك إمكانية لاحتواء التداعيات وإحداث صحوة تجعل المحنة منحة وبداية لتغيير حقيقي جامع . يعيد الاصطفاف الوطني خلف راية الدولة ويجعل المجتمع خلية عمل متكاملة وبوتقة تنصهر فيها الجهود والآمال والتطلعات لتحقيق غد أفضل .. وفرصة لإنعاش الحالة السياسية وجمع الأحزاب وأطياف المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات الدينية علي قلب رجل واحد» للعبور بالوطن إلي بر الأمان وسط تحولات عاصفة تنتظر المنطقة وتنذر بتحويلها إلي ساحة لصراع أشد خطرًا وأكثر تمزيقًا وتقسيمًا لدولها. صحيح أن الحوادث الإرهابية جمعت المصريين كالعادة علي قلب رجل واحد» لكننا ينبغي ألا ننتظر مثل تلك الحوادث حتي نتحرك في طريق تمتين وحدة نسيج الأمة فلا بد أن نفتح الملفات كلها. ونعيد النظر في المعالجات الحالية علي مستويات الأمن والفكر والثقافة . حتي ندفع بالأمور في مسارها صحيح أن المجلس الأعلي لمكافحة الإرهاب خطوة مهمة سوف تتلوها خطوات أبعد علي طريق التشريع والردع لكن لا بد من تغيير البيئة الحاضنة وكسب الأجيال الجديدة في صف الدولة » فليس الإرهاب وحده هو عدونا اللدود بل ثمة أعداء آخرون لا يرضيهم لمصر أن تقوم ولا أن تنهض .. وعلينا أن نجيب عن سؤال مهم : من المستفيد مما نحن فيه .. حتي نعلم من هو العدو الذي لا يقل خطورة عن الإرهاب في الداخل والخارج. ونحمد الله أن شعب مصر لا يزال علي قلب رجل واحد في مواجهة التحديات والمخاطر . فهو يدرك أن هدم الدولة هو الهدف بتصدير صورة قاتمة للخارج ولي ذراع السلطة وممارسة الضغوط عليها لابتزازها وهو هدف اجتمعت له قوي وأطراف عديدة هنا وخارج هنا بالتمويل والتخطيط والمعلومات» وهو الأمر الذي لا يبرئ بحال تقصير المقصرين ولا تقاعس المتقاعسين أيًا ما كانوا . لكن هل نجح الإرهاب في ذلك .. والجواب يتوقف علي مدي استعدادنا نحن للقبول بهذا الوضع والخضوع له أو رفضه وتحديه ومقاومة أغراضه الخبيثة .. وهنا علينا أن نترجم هذا الرفض إلي صمود وإصرار علي المواجهة بالتماسك الداخلي والاحتشاد خلف الدولة التي لا يتواني أعداؤها عن استهدافها وتفكيكها ليسهل التهامها والزج بها في أتون الفوضي التي لن تحدث أبدًا بإذن الله . علينا أن نقف طويلاً عند التفجيرات الأخيرة بالفحص والمراجعة حتي نخرج بدروس مستفادة أقلها مضاعفة درجات الحيطة والحذر فالإرهاب أعمي وأضل سبيلاً لا وطن له ولا دين .. وسيظل السؤال : كيف تمكن الإرهابي من دخول كنيسة مار جرجس بطنطا بينما عجز الآخر عن اختراق كنيسة الإسكندرية .. كيف حدث هذا التطور النوعي في العمليات من وضع متفجرات في محيط المكان إلي اختراق الأماكن بهذه السهولة وتفجيرها من الداخل .. وهو تطور ينبغي أن يزعجنا وأن يحفزنا طول الوقت لإبقاء أجهزة الاستشعار بكامل طاقتها بعد أن أصبحت دور العبادة أحد الأهداف الرئيسية للإرهاب لإحراج الدولة وإظهارها بمظهر غير القادر علي حمايتها. وهو أمر تكرر للأسف بعد حادث كنيسة البطرسية بالعباسة .. وهنا يثور سؤال آخر: إلي متي تستغرق الدولة وأجهزتها في الجهود الأمنية لمحاربة الإرهابيين .. وإذا كان هذا الأمر من الأهمية بمكان لردع من تسول له نفسه إزهاق أرواح الأبرياء أو استهداف رجال الجيش والشرطة .. فمتي نجد جهوداً ملموسة لتغيير البيئة الفكرية والثقافية الحاضنة للإرهاب بذات الدرجة من الحيوية والكفاءة .. أين اللجنة التي أمر الرئيس بتشكيلها من كبار علماء الدين والاجتماع والنفس لبحث نقاط الضعف والقوة في المجتمع المصري وتنقية النصوص وصياغة خارطة طريق لتصحيح الأفكار المغلوطة وترسيخ الفهم الديني الصحيح .. أين جهود الأزهر والأوقاف والمثقفين وأطياف المجتمع المدني والجامعات ومؤسسات البحث العلمي والأحزاب السياسية والإعلام والمعارضة .. متي تصطف هذه القوي خلف استراتيجية موحدة لإنقاذ مصر من أزماتها في الاقتصاد والعنف السياسي والفقر والعشوائيات والمرض والفساد والجشع .. متي ندرك أن الخطر يحيق بالجميع وأن السفينة إذا نجت فإنها تنجو بنا جميعًا وإذا تعثرت- لا قدر الله- غرقنا جميعًا .. متي ندرك أن الروح المعنوية للمصريين باتت مستهدفة وأن الهدف هو إضعافها وخلق فجوة بين الشعب وحكومته وبين عنصري الوطن. آن الأوان لتبني هدف استراتيجي نحو مجتمع خالي من العنف والإرهاب والفساد والمرض.. مجتمع متماسك بفضائله وقيمه الحضارية الموروثة وتعليمه الجيد.. مجتمع الترابط الذي إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي حتي نظل مجتمعاً في رباط إلي يوم القيامة.. آن الأوان لتغيير مفاهيم مغلوطة كثيرة ترسخت لأنها لم تجد من يفندها أو يتصدي لها ولو بعمل درامي جيد يعيد صياغة الوجدان المصري علي أسس سليمة . يعيد زرع قيم الولاء والانتماء والتعايش والترابط والاجتهاد وإتقان العمل. مجتمعاً خالياً من مفاهيم مغلوطة تكرس العنف والكراهية وتغرس بذور الفتنة علي أساس الطائفة أو المذهب أو الفئة أو الدين .. حتي لا نصل إلي مرحلة يخلع هؤلاء وأولئك رداء الوطن ويتمترسون خلف أسوار الطائفة أو النقابة أو الجماعة أو العشيرة . نحن في حاجة لاصطفاف وطني حقيقي يبادر إليه جميع أفراد المجتمع حتي نحاصر دعوات التعصب والتطرف التي لا تمت للأديان بأي صلة وإذا كان رهان الإرهابيين ومن يدعمهم علي تفكيك وحدة الشعب المصري.والإيقاع بين عنصريه بحوادث طائفية فقد أثبتت الأيام أن هذا الشعب يملك وعيًا فطرياً. ولن تفلح محاولات الفتنة التي يرفضها المصريون بكافة فئاتهم منذ حاول داهية السياسة البريطاني اللورد كرومر تكريس مبدأ ¢ فرق تسد ¢ والذي اعتراف بفشله الذريع في الوقيعة بين أبناء الشعب المصري وتكريس الفرقة بين مسلميه وأقباطه .. فإذا كانت بريطانيا العظمي في أوج ازدهارها قد فشلت في النيل من وحدة آبائنا فهل ينجح الخسيس في ذلك؟!