تكلمنا عن هدي النبوة في تناول الطعام لسد الجوع والعطش. كما تناولنا هذا الهدي في حال الشره. ونريد التعرف علي هدي النبوة في تناول الطعام والشراب في أحوال المجاملات الإنسانية. لأننا نجد كثيرا من الناس يتناولون الطعام أو الشراب لمجاملة المضيف أو صاحب الدعوة. وقد يكون السبب في إحراج الضيف لتناول الطعام لمجرد المجاملة هو صاحب الدعوة من شدة كرمه نجده يحلف علي ضيفه بأوكد الايمان أن يأكل من طعامه ولو كان شبعاناً. أو كان نوع الأكل مما يضره صحيا. والضيافة - وإن كانت بالإجماع في حكم الأصل صفة كريمة محمودة - إلا أنها مقيدة بآداب لحماية الضيف وراحته. وليس لإزعاجه أو إنزال الضرر به. كما أنها مقيدة بمدة حتي لا يكون الضيف سبباً لإزعاج من نزل به . فقد أخرج الشيخان عن أبي شريح العدوي. أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته. قال: وما جائزته يارسول الله؟ قال: يوم وليلة. والضيافة ثلاثه أيام. فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه". وقد عالج النبي. صلي الله عليه وسلم. قضية الأكل والشرب في أحوال المجاملات بأمرين: الأمر الأول: توجيه المضيف بتقديم الطعام دون إلزام أو إكراه الضيف أن يتناوله. فقد أخرج ابن حبان والترمذي وصححه عن عبد الله بن عمر. أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "أعبدوا الرحمن. وأطعموا الطعام. وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام". ومعني "أطعموا الطعام" أي قدموه. مثل قوله تعالي . "ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيراً" "الإنسان : 8". فالمقصود هنا هو تقديم الطعام مع العزم علي تناوله» حتي لا يمتنع حرجاً وخجلاً. بشرط ألا تبلغ درجة العزم حد الإكراه أو الجبر. فقد يكون لدي الضيف مانع صحي أو نفسي من تناول الطعام. فإذا ما أكره علي التناول أصيب بداء أو شدة تعكر صفو الضيافة. وأخرج الترمذي وحسنه. والحاكم وصححه. عن عقبة بن عامر الجهني. أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا تكرهوا مرضاكم علي الطعام والشراب فإن الله عز وجل طعمهم ويسقيهم". وهذا الحديث. وإن ورد في شأن المرضي لكنه عام في الأصحاء أيضا. فلا يجوز إجبار أحد علي الطعام أو الشراب في الظروف المعتادة» احتراما لإرادة الإنسان وحريته. أما في الظروف الاستثنائية التي يمتنع فيها الإنسان عن الطعام والشراب بما يضره. كالمصاب بفقد عزيز أو المريض نفسيا فهنا يجوز إجباره علي تناول الطعام أو الشراب» إنقاذاً لحياته المعصومه. قال تعالي: ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة ""البقرة:195". وقال تعالي: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما" "النساء: 29". وقال تعالي: "أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً " المائدة 32". يقول ابن القيم واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلي إجبار المريض علي الطعام والشراب. وذلك في الامراض التي يكون معها اختلاط العقل. وعلي هذا فيكون الحديث "لا تكرهوا مرضاكم علي الطعام والشراب" من العام المخصوص". الامر الثاني: الذي وضعه النبي. صلي الله عليه وسلم. لمعالجة قضية الأكل والشرب في أحوال المجاملات: هو توجيه الضيف بأن يكون قوي الإرادة في مواجهة الضغوط المتعلقة بالأكل أو الشرب» لأنه المضرور وحده في النهاية. عن تناول ما لا يتفق مع نظام حياته. فيجب أن يكون قرار التناول للطعام والشراب راجعاً للضيف بكل حريه. إن وجد مصلحة جسده ودينه في الطعام أكل. وإلا امتنع عن الأكل بكل عزم. مع إبداء عذره للمضيف. الدعاء له بالبركة ومزيد النعمة» حتي لا يغضب عليه. فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة. أن النبي. صلي الله عليه وسلم . قال : إذا دعي أحدكم فليجب. فإن كان صائما فليصل. وإن كان مفطراً فليطعم". قال أهل العلم: معني فليصل. أي فليدع ربه بالخير لصاحب الطعام» لأن الصلاة دعاء. وهذا لعدم كسر قلب الداعي. وقد يخطئ بعض الناس عندما يختار العزلة عن الضيافة إذا كان لا يرغب في تناول الطعام» لما في هذه العزلة من البعد والجفاء. والأولي به أن يقبل الدعوة من غيره. ولا يكسر قلبه بالرفض إن كان عنده سعة من الوقت. لأن المقصود من اللقاء هو التراحم والتواصل. أما الطعام والشراب فمسألة ثانوية لا تحول دون حرارة الضيافة. ولذلك ورد في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله . أن النبي. صلي الله عليه وسلم. قال: "إذا دعي أحدكم إلي طعام فليجب إن شاء طعم وإن شاء ترك". هكذا تكون حرارة الضيافة. وهكذا تكون حرية الضيف في تناول الطعام والشراب بما لا ضرر فيه ولا ضرار.