الكتابة هذه الأيام "زي قلتها".. بل ان قلتها أحسن فالأحداث أسرع من أقلامنا بمراحل.. والكتاب عشرة أضعاف القراء.. وربما وصلوا اليوم إلي مائة ضعف.. وثقافة المصريين الآن سمعية نقلية وليست عقلية والسياسة لم تعد سلعة الخاصة والنخبة.. بل صارت طبق العامة والغوغاء والسوقة.. ولم تعد السياسة سلعة غالية الثمن تباع في المولات الكبري ولكنها صارت تباع علي قارعة الطريق وصار الساسة باعة جائلين.. وفي مصر أوضاع مقلوبة كثيرة.. فالكتاب أضعاف القراء.. والقوالون اضعاف السامعين.. والباعة أضعاف المشترين والدعاة أضعاف المدعوين.. والوعاظ اضعاف الموعوظين.. والحكام أضعاف المحكومين.. والمصريون يطبقون التعدد في حياتهم كلها. تعدد الزوجات وتعدد العشاق وتعدد الولاءات وتعدد الوجوه.. ويقال ان الشعب صار علي درجة عالية من الوعي والفهم ولا يمكن خداعه.. ويستدل علي ذلك بأن كل الناس يتحدثون في السياسة ويكتبون فيها.. وهذا ليس دليلاً علي ارتفاع درجة الوعي وإنما هو عندي دليل علي غياب الوعي.. السنتنا وأقلامنا حاضرة وعقولنا وقلوبنا غائبة.. المصريون لديهم ثقافة الببغاء الذي يردد الكلام ولايفهم معناه.. الببغاء لايفهم معني "أبوك".. ولا معني "السقا".. ولا معني "مات".. نحن ننقل من بعضنا وعن بعضنا.. ونادراً ما تسمع من المصريين رأياً.. وإنما دائما تسمع وتقرأ معلومات "شفت برنامج امبارح في التليفزيون".. "ده بيقولك إن كذا وكذا".. نحن كالغراب الذي ينعق بما لا يسمع أو كالحمار الذي يحمل أسفاراً.. والأكاذيب عندنا صارت حقائق بالتواتر والتنقل من لسان إلي لسان.. ولا يمكن في الحوار مع المصري ان تكمل جملة لانه سيقاطعك ويكمل لك حوارك.. ولا أحد يطيق ان يسمع ولا يطيق ان يقرأ.. والمستمع عندنا اضعف من القائل.. والقاريء في رأينا أضعف من الكاتب.. ونحن لانريد أن نكون الأضعف.. بل نريد أن نكون الأقوي.. لا أحد يريد أن يكون المشتري.. وكلنا يريد أن يكون البائع.. ونحن في حوارنا مثل الباعة الجائلين البلطجية.. نريد ان نفرض رأينا بالعافية كما يفرضون سلعهم علي الزبون بالبلطجة.. "يعني تشتري ورجلك فوق رقبتك" حتي إذا كانت السلعة مغشوشة ومضروبة وهي دائما كذلك في حوارنا وفي "فرشنا" علي قارعة الطريق. والمناخ في مصر الآن لا يسمح باعمال العقل ولا يسمح باعادة النظر والتأمل والمراجعات.. بل هو مناخ طارد للعقل والمنطق.. "الدنيا زحمة".. وفي الزحام تسود ثقافة القطيع واداء الأعلي صوتا والأكثر بلطجة وغوغائية.. في مصر غابت ثقافة التأمل والتروي ومقارعة الحجة بالحجة.. وسادت ثقافة المولوتوف والخرطوش والسطو المسلح علي الافكار والقوانين وعلي الحكم أيضا. ونحن طوال الوقت نفخر بأننا كسرنا حاجز الخوف بعد هوجة 25 يناير.. وهذا أمر ينبغي أن نخجل منه لا أن نفخر به.. فالشعب الذي لا يخاف يكتب نهايته بيده.. ولا حياة بلا خوف.. لابد أن نخاف لنبقي.. نخاف الله.. نخاف القانون.. نخاف العقاب.. نخاف اللوم.. نخاف كلام الناس.. نخاف الفضيحة.. نخاف الكبير.. الأب.. الأم.. الأخ.. المعلم.. نخاف علي الوطن.. الإنسان بطبعه يحب ان يخالف.. يحب أن يرتكب المعاصي.. يحب ان يشبع غرائزه وشهواته ولا يجدي معه الوعظ بل يجدي معه الخوف.. ومن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.. رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني اخاف الله.. هو يشتهيها "وميت فيها وعليها".. ولايمنعه سوي الخوف من الله.. ولو أنه زاهد فيها أو ليست لديه رغبة فإنه لا فضل له ولا أجر.. ولكن أجره علي ترك شهوته المشتعلة خوفا من الله. والمصريون لايخافون شيئا الآن.. وتلك مصيبة وكارثة.. وكل الدول المتحضرة والمتقدمة والعظيمة قام تقدمها وحضارتها علي الخوف.. حتي المجتمعات اللا دينية تخاف من القانون والشرطة والحاكم.. ومصر صارت مثل امرأة "دايرة علي حل شعرها" ليس لها كبير أو عائلة أو أحد يشكمها.. لذلك سقطت في الرذيلة وغرقت في الاثم والفجور. زمان بعد هوجة يناير قلت ان حسني مبارك آخر رئيس لمصر فهاج وماج البعض ضدي وقالوا بغبائنا المعهود انني امدح حسني مبارك واتمني عودته رئيسا.. وأنا اعني ما قلت ومازلت مصمما عليه.. هذا البلد لم يعد له كبير.. ولا يمكن في المستقبل المنظور ان يكون له كبير.. لن يستطيع أحد أن يحكم شعباً لا يخاف.. كسر حاجز الخوف وكسر حاجز الحياء أيضا.. كانت هناك صخرة ضخمة تحتها العقارب والأفاعي والعناكب.. وسقطت الصخرة أو أزيلت فخرجت من تحتها العقارب والعناكب والافاعي وانتشرت في كل مكان.. وعلي فرض أننا أعدنا الصخرة إلي مكانها فمن ذا الذي بإمكانه ان يجمع الأفاعي والعقارب والعناكب من كل مكان ليعيدها تحت الصخرة.. ولو افترضنا جدلا أن مبارك عاد الي الحكم بكل نظامه فإنه سيعجز عن حكم هذا البلد.. وانه سيرحل بعد يوم واحد من عودته. انظر إلي أي مؤسسة في هذا البلد لتحكم من خلالها علي مصر كلها.. لا يوجد في أي مؤسسة صاحب قرار.. لا يوجد كبير.. ورئيس أو مدير أي مؤسسة مجرد "شرابة خرج".. يسعي إلي المستحيل وهو إرضاء جميع الأطراف.. وهو دائما أكثر ميلا للطرف الأقل أدبا وحياء والأكثر سفالة وغوغائية.. ودائما لا يعنيه الا أن يبقي في منصبه.. لذلك "يطبطب ويدلع" ويكذب.. وهو أضعف شخص في المؤسسة كلها ويمكن أن "يمسح به البلاط".. ولاشيء يتحرك إلي الأمام في البلد كله أو في أي مؤسسة منه.. ولا يوجد أي مسئول قادر علي اتخاذ أو تنفيذ القرار. *** وأسوأ ما وصلنا إليه ان ينافق الحاكم المحكومين وان يداهن الرئيس المرءوسين.. كان نفاق المرءوس للرئيس امرا واردا وربما طبيعيا.. أما ان ينافق الرئيس المرءوسين فإن هذه هي الطامة الكبري.. مصر لا يستطيع الآن وبعد الان ان يحكمها أحد.. لأن حكامها أضعاف محكوميها.. ولأن رؤساءها اضعاف مرءوسيها.. "وأنا أمير وأنت أمير ولا يوجد من يسوق الحمير".. لا يوجد من يربط الحمير. لا تظن أن ما يحدث في مصر الآن افاقة أو حراك.. انها غيبوبة تامة وطير يرقص مذبوحا من الألم.. فنحن سكاري وما نحن بسكاري ولكن عذاب الله شديد.. نحن في أمر مريج. وما يشبه البروفة ليوم الحشر.. فالمرء منا يفر من اخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ولكل منا شأن يغنيه.. لا وطن ولا قيم ولا نيل ولا انتخابات ولا مجالس نيابية ولا مؤسسات ولا قوانين.. لكل امريء منا همه الخاص وشأنه الشخصي وليلاه التي يغني عليها أو يبكي عليها.. حالنا كحال الذين يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر.. تري الناس من كل "حدب ينسلون.. وبعضهم يموج في بعض ولا احد يعرف كم لبث ومن أين جاء أو إلي أين يذهب أو لماذا خرج ولماذا احتشد ولمن يهتف وضد من يثور.. غيبوبة تامة.. كأن الشعب كله أصيب بمرض المشي أثناء النوم.. يهرول الي الشاطئ ليلقي بنفسه في البحر وهو يظن أنه ذاهب إلي الحمام "علشان ياخد دش".. ولايوجد بيننا يقظ يهز النيام ليفيقوا قبل ان يغرقوا.. جميعنا مصابون بداء المشي أثناء النوم. فقد المصريون الارادة والفعل الجمعي معا.. فهم يتحركون ويحتشدون بالسمع والطاعة بلا رأي ولا إرادة ولا فهم أو يحتشدون "وكل واحد ماشي بدماغه".. تحركه حاجته الخاصة.. وفي الحالتين هناك غيبوبة تامة.. نحن كالثيران المعصوبة العيون التي تدور في الساقية ولا تدري من أين أو إلي أين. لابد ان يندهش العاقل.. وليس بيننا الان عاقل ولا بيننا أو منا رجل رشيد.. وعندما نكف عن الدهشة والذهول وانكار المنكر فقد وقعت الواقعة.. لم تعد الجرائم والمصائب والكوارث تدهشنا وتصيبنا بالذهول.. وغياب الدهشة يعني انهيار المجتمع كله.. وأنت في ظل هذه البلادة "والأنتخه" لا تدري من المسئول ومن الشعب ومن المعارضة والحكومة لابد ان تتوقع وتنتظر الأسوأ والمزيد من الخراب والدمار والانهيار.. فلا لوم ولا تثريب.. وعندما يصبح غير العادي عاديا جدا فلا أمل في الاصلاح.. كلنا ضحايا وكلنا مجرمون.. هل رأيت توصيفا وتشخيصا أسوأ من هذا؟ وعندما أكون أنا الجاني وأنا المجني عليه فإن هذا يعني أنني انتحر.. فالمنتحر وحده هو القاتل والقتيل معا.. وهناك حالة انتحار جماعي شعبي في مصر ولا أحد يقول: عيب وحرام.. لا يمكن ان تعرف في مصر الان من الجاني ومن المجني عليه.. من الذي تحكم له؟ ومن الذي تحكم عليه؟.. والمؤكد الذي لاشك فيه أن الوطن وحده هو المجني عليه وهو القتيل.. وهو الذي يمثل الجميع بجثته الان ولايكف الناس في مصر عن سؤالهم الممل: "هي البلد دي رايحة علي فين؟".. ولا أكف أنا عن جوابي الممل أيضا: "هي لسة رايحة.. ما راحت خلاص.. راحت في داهية". مصر بأيدي أبنائها من القمة إلي القاع اصابها الفشل العقلي الذي هو أخطر مليون مرة من الفشل الكلوي والفشل الكبدي.. هناك حل للفشل الكلوي والفشل الكبدي بالزرع.. هناك احتمال للشفاء.. ولكن لا امكانية لزرع عقل لمن أصابه الفشل العقلي.. المصريون لديهم الان استسقاء عقلي.. وضمور عقلي.. خطير.. كل المشروعات والائتلافات والحركات والأحزاب تبدأ نبيلة ومثالية وبعد قليل يدركها الفشل العقلي وتتعرض للانفجار بسبب سيطرة الذات علي الموضوع.. يحدث الانفجار عندما يختلف المنتمون إلي الحركة أو الحزب أو التيار علي المناصب والمواقع ومن الرئيس ومن النائب ومن أمين الصندوق.. وتبدأ لعبة "فيها أو اخفيها".. ويتبدد الأمل والحلم ويتوه الموضوع وينسحق تحت قدمي الذات والشخصنة.. وتبدأ كارثة "أنا أمير وانت أمير فمن يسوق أو يربط الحمير؟". **** هناك ملايين منا اصحاب مصلحة في استمرار الوضع السييء.. لذلك كلما خبت النار زادوها سعيرا.. الحكم والمعارضة والبلطجية والغوغاء والمجرمون.. كل هؤلاء يمارسون التصعيد.. كلما هدأت الأمور يخرج علينا قرار أو إجراء أو "افتكاسة" "تولع الدنيا".. هناك من يظن انه يكحلها فيعميها.. هناك عناد حتي الغباء من كل الاطراف.. هناك وطن تحول إلي رهينة ويتبادل الفرقاء خطفه.. ومصائبنا لا تأتي فرادي.. وأزماتنا بالجملة وليست بالتقسيط. مصر اصابها شلل رعاش افقدها السيطرة علي اطرافها وحدودها ونيلها وقرارها ومركزها.. كل شيء في هذا البلد المصاب بالشلل صار بلا إرادة.. كل أمورنا لا إرادية.. تبول لا إرادي.. مليونيات لا إرادية.. انفلات لا إرادي.. اقتطاع أجزاء من الوطن تضيع منا بشكل لا إرادي.. قتل لا إرادي.. إجرام لا إرادي.. حكومة لا إرادية.. معارضة لا إرادية.. تصويت في الانتخابات لا إرادي.. كل شيء في هذا البلد لا إرادي.. حتي القرارات لا إرادية.. حتي تصرفات الوزراء مثل وزير الثقافة سلوكيات لا إرادية.. والتصعيد أيضا لا إرادي.. اختلافنا ليس أبدا رحمة.. ولكنه اختلاف "حرامية".. والمسروق وطن.. كل شيء عندنا مسروق.. الثقافة مسروقة والابداع مسروق والثورة مسروقة والأفكار مسروقة والفن مسروق.. حتي طرقنا في التدين مسروقة "ما فيش حاجة مصرية دلوقت".. نحن الآن نلعب بالوطن.. واللعب بالوطن أخطر من اللعب بالنار.. واذا سقط الوطن وهو علي حافة السقوط فإنه "حيتطربق علي دماغ الفقراء".. لأن الأغنياء والنخبة سيشترون أوطانا بديلة بفلوسهم.. فمن لنا بطبيب يعالج فشلنا العقلي؟ من يعيد إلينا مصر المسروقة..؟ متي يخرج الأخ من الفخ؟ متي يفيق الرفيق؟ نظرة "كل اللي جه هنا مكسور رجع مجبور.. كل اللي جه هنا نايم رجع صاحي.. اطمنوا.. مولانا عنده الشفا".. لا تحاول اقناع الناس بأنه دجال.. بأن مولانا نصاب وان كل "تحويجاته" مضروبة.. فالناس نائمون في العسل وسوف يفتكون بك إذا حاولت اقناعهم بأن مولانا دجال.. مولانا الدجال في حراسة الناس الذين اصابهم الفشل العقلي.. مولانا النصاب في حماية المغيبين والمسطولين والباحثين عن مخرج ولو وهمي لأنهم "ما بيعرفوش".. مصر بلد المضحكات المبكيات.. بلد الصناديق المسروقة.. صندوق الانتخابات وصندوق النقد الدولي وصندوق الدنيا والصندوق الأسود والصناديق الخاصة.. وعديلة صندوق وبخيت حنيدق المهيطل.. والناس تائهون في الصناديق ومحبوسون في الصناديق.. والصناديق مثل الصديق في الضيق.. والصناديق المصرية كلها مسروقة "لكن مفاتيحها معايا".. وأنا لست حزينا لأن الصندوق مسروق ولكني فرحان لأن مفتاحه معايا "علشان أنا قفل"!!