لا يمكن التقليل من دور القادة والعظماء. في صنع التاريخ. الذي هو أيضا لم ينسهم. وخلد ذكراهم.. فكلنا نعرف كل تفاصيل حياة الاسكندر المقدوني. وبونابرت. وصلاح الدين الأيوبي. وجنكيز خان. وهانيبال. ويوليوس قيصر.. والقائمة تطول.. هؤلاء الزعماء قادوا شعوبهم للنصر. حتي ذاع صيتهم في الأفاق.. لكن هل يذكر أحد الرجال الذي ضحوا بحياتهم في المعارك. التي خرج فيها هؤلاء القادة منتصرين. مكللين بأكليل الغار. يملؤهم الزهو والغرور. بنشوة الانتصارات الضخمة. والفتوحات العظيمة؟ .. هؤلاء الرجال الذين يغفل عنهم الذكر. هم خبز الأرض وملحها.. هم الذين يخرجون من بيوتهم كل صباح "علي باب الله. في المسيرة الأزلية المقدسة. منذ فجر التاريخ. ومنذ أن عرف الانسان الإستقرار. بحثا عن لقمة خبز مغموسة في العرق. ليطعم الأفواه الجائعة. في عائلته الصغيرة. .. هم العمال الذين شيدوا الاهرامات. لتخليد ذكري الفراعنة. وضمان إقامة فخمة لهم في العالم الأخر - بحسب معتقداتهم -. لكن لو نطقت الأحجار الضخمة. لقصت حكايات لا نهائية. عن قصص الألم والعرق. لهؤلاء الفقراء المخلصين. الذين ساقهم الكهنة والأمراء. لبناء أعظم عجائب الدنيا السبعة.. والوحيدة الباقية منها. .. وهم المقاتلون الذين ضحوا بأرواحهم. لينقذوا الفرعون رمسيس الثاني. من الكمين الذي نصبه له الحيثيون في "قادش".. ليخرج الفرعون بعدها منتصرا. ويملأ جدران المعابد فخرا وتيها. بأمجاده وعبقريته العسكرية الفذة. وبطولته في المعركة. وأن الحيثيين سقطوا صرعي. بضربات سيفه وطعنات رمحه. .. وهم الأبطال الشجعان. الذين سحق بهم الفرعون العظيم تحتمس الثاني. جيوش قبائل الشام في معركة "مجدو". .. وهم الجنود الذين ساقهم الانجليز والملك فاروق. ليموتوا في معركة العلمين. في الحرب العالمية الثانية. ليفوز الحلفاء علي المحور. ويحصد القائد البريطاني مونتجمري الشهرة. والنجومية. وهتافات المعجبين في لندن. .. هؤلاء هم مادة التاريخ.. ومحركها.. لكنهم "المنسيون" في كتب المؤرخين.. ومع أنهم الأكثر عطاء. لا ينالون من كدهم. إلا - بالكاد - قوت يومهم. بجانب حظ وافر من الأمراض. وفتك الحروب. .. هم من يسرق "العظماء" و"المرابون" فائض جهدهم.. هم الذين يغامر بهم كل من هب ودب. ومن كل صنف ولون: رأسمالي. إشتراكي. ثائر. مناضل. .. هم الكتلة.. و"الشغيلة". وتروس الماكينات الصماء. التي تديرها الطليعة. وتقودهم كقطيع الأغنام. ليملأوا الشوارع والميادين صراخا. وهديرا. ووعيدا.. ليحصد "النخبة" المجد. والمكاسب السياسية. والمادية.. علي أكتاف الجموع. التي تمتليء حماسة. بشعارات يطلقها الزعماء. من قاعات الفنادق الفخمة. إنهم الآن - في بلادي - يصنعون تاريخ القادة والزعماء. الصالحين.. والطالحين. ولا يعودون لبيوتهم بأي مغنم. لأنهم - كما وصفهم الدكتور القرضاوي. غارقين في غىربة الروح والفكر. غىربة الغاية والوجهة. غىربة العقيدة والسلوك.