المشهد المأساوي الذي تعيشه مصر حالياً وحالة الانقسام والاستقطاب الرهيبة التي أصابت الأمة يجعلنا ننظر وندقق في تجارب الآخرين حتي نتعلم دورس الماضي لعلها تنير لنا الطريق وترسم لنا الخروج الآمن من النفق المظلم الذي دخلناه ولا نعرف كيف نخرج منه. وسأتوقف قليلاً أمام التجربة التركية باعتبار أنها المثل والنموذج الذي يتطلع الإخوان في مصر إلي تحقيقه.. هناك خليط معقد من التيارات والمذاهب السياسية والطائفية والعرقية.. شيوعيون وليبراليون وعلمانيون وإسلاميون ووسط وآخرون.. أفكار وتوجهات كل فصيل سياسي تتعارض وتتصادم تماماً مع الفصائل الأخري لدرجة تعتقد معها أن اجتماعهم مستحيل.. لكن المعجزة تحققت وانصهروا جميعاً في بوتقة واحدة فصنعوا المعجرة التركية.. والتيار الإسلامي بزعامة "جول - أردوغان" ضرب أروع الأمثلة في حب الوطن وإيثاره علي مصالحهم الخاصة الضيقة.. وقبل بل رحب وتحمس للتعاون والشراكة مع بقية الفرقاء ووضع يده في يد اليساريين والعلمانيين من أجل عيون تركيا الحديثة.. وعندما تجلس هذه الفصائل المتناحرة علي مائدة واحدة لتقرير مصير الوطن أو مناقشة قضاياه وهموم الشعب تجد كل تيار قد خلع رداءه السياسي ولونه الطائفي خارج قاعة الاجتماعات ولبس الجميع الزي الوطني مزينا بالنجمة التركية. صادفت زيارتي الأخيرة لاسطنبول احتفالات الدولة بذكري تأسيس جمهورية تركيا الحديثة ورأيت صور مصطفي كمال أتاتورك تملأ الشوارع والميادين والحارات في كرنفال وطني بديع يذكرنا بأمجاد ناصر وتيتو ونهرو وغاندي.. ورغم مشاعر الكراهية التي تملأ قلوب المسلمين الأتراك تجاه أتاتورك وينظر له البعض علي أنه عدو الله والإسلام فهو الذي مسح اللغة العربية بأستيكة في المدارس والجامعات ومنع شعائر الله من أن تقام وترفع بلغة القرآن.. إلا أنني لم أجد واحداً من هؤلاء يعترض أو يهاجم الزعيم أتاتورك أو يعمد إلي تقطيع صوره أو الخروج في مظاهرات حاشدة تطالب بمحوه من ذاكرة التاريخ.. فهم رغم اختلافهم العقائدي معه إلا أنهم يحترمون مشاعر الآخرين من أبناء وطنهم من الليبراليين والعلمانيين واليساريين.. بل إن الإسلاميين أنفسهم يذكرون أتاتورك بخير ولا ينكرون دوره في بناء تركيا الحديثة. ما أحوجنا هذه الأيام لأن نضع التجربة التركية أمام أعيننا.. نستخلص منها الدروس والعبر.. ما أحوجنا لأن نلتقي معاً علي قلب رجل واحد وأعني بذلك كل الفصائل السياسية.. إخوانا وسلفيين وليبراليين واشتراكيين.. لابد أن يغلبوا مصلحة الوطن ويدركوا خطورة الوضع الذي انزلقت إليه البلاد.. علي الأغلبية أن تحترم الأقلية وأن تتخلي عن نزعة الاستحواذ وحلم التكويش والسيطرة.. وفي المقابل ننتظر من الأقلية ممارسة ديمقراطية حضارية ولا ضير من لعب دور المعارضة ولكن بهدوء وسلمية ووطنية بعيداً عن التلويح بالعنف أو الاستقواء بالخارج.. وعاشت مصر حرة مستقلة.