ديمبيلي يفي بوعده ويحضر كأس دوري أبطال أوروبا إلى رولان جاروس    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفدًا تجاريًا بولنديًا لتعزيز التعاون بين البلدين (صور)    مي عبد الحميد: مد فترة الحجز ب"سكن لكل المصريين 7" استجابة لمطالب المواطنين    "الخارجية": مصر تخسر 8 مليار دولار سنويا بسبب تعطل الملاحة في البحر الأحمر    لن ندخل الحزام الزلزالي.. البحوث الفلكية توضح مدى تأثير العواصف الشمسية    نشاط مكثف للرئيس السيسي اليوم الإثنين.. فيديو وصور    مران الزمالك - انتظام نبيل عماد بعد تعافيه من الإصابة    رومانو: الفحوصات الطبية تفصل انضمام لويس هنريكي ل إنتر    عدلي القيعي يكشف مفاجأة بشأن رحيل معلول عن الأهلي    "السكة الحديد" توضح حقيقة تشغيل القطارات الإضافية خلال عطلة عيد الأضحى    النيابة الإدارية بالأقصر تجري معاينة لقصر ثقافة الطفل    الجوزاء.. تعرف على صفات برج الفرعون المصري محمد صلاح    القاهرة الإخبارية: ليالٍ دامية في غزة.. الاحتلال يرتكب مجازر جديدة بحق المدنيين    مدير تلال الفسطاط يستعرض ملامح مشروع الحدائق: يتواءم مع طبيعة القاهرة التاريخية    «ربنا مايكتب وجع لحد».. تامر حسني يكشف تفاصيل تعرضه ونجله لأزمة صحية ودخولهما المستشفى    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لطلاب الثانوية العامة وتيسير الأمور.. ردده الآن    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على قرارات ترامب بزيادة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم    الإصلاح والنهضة: 30 يونيو أسقط مشروع الإخوان لتفكيك الدولة ورسّخ الوعي الوطني في مواجهة قوى الظلام    أرامكو السعودية تنهي إصدار سندات دولية ب 5 مليارات دولار    طرح البرومو الرسمي لفيلم "في عز الضهر".. وهذا موعد عرضه في السينمات    إيساف: «أبويا علّمني الرجولة والكرامة لو ماعييش جنيه»    جوعى غزة في بئر ويتكوف    خالد الجندي: الحج المرفّه والاستمتاع بنعم الله ليس فيه عيب أو خطأ    ضربات الشمس في الحج.. الأسباب والأعراض والإسعاف السريع    أهم أخبار الإمارات اليوم.. محمد بن زايد يهنئ نافروتسكي بفوزه بالانتخابات الرئاسية البولندية    تعرف على محطات الأتوبيس الترددي وأسعار التذاكر وطريقة الحجز    رئيس جامعة المنوفية يرأس اللجنة العليا لتكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي    واشنطن بوست: فوز ناوروكي برئاسة بولندا تعزز مكاسب اليمين في أوروبا    الثلاثي الذهبي للكاراتيه ينتزع جائزة «جراند وينر» من الاتحاد الدولي    ديلي ميل: إلغاء مقابلة بين لينيكر ومحمد صلاح خوفا من الحديث عن غزة    رئيس الوزراء الفلسطيني يدعو لوكسمبورج للاعتراف بدولة فلسطين قبيل مؤتمر السلام في نيويورك    مياه الفيوم تطلق حملات توعية للجزارين والمواطنين بمناسبة عيد الأضحى المبارك    شرح توضيحي للتسجيل والتقديم في رياض الأطفال عبر تعليم القاهرة للعام الدراسي الجديد.. فيديو    هل يجوز للمرأة ذبح أضحيتها بنفسها؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    في رحاب الحرم.. أركان ومناسك الحج من الإحرام إلى الوداع    موعد أذان مغرب الاثنين 6 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب الواردة في عشر ذي الحجة    رئيس جهاز العاشر من رمضان يتدخل لنقل سائق مصاب في حريق بمحطة وقود إلى مستشفي أهل مصر للحروق    مدينة الأبحاث العلمية تطلق سلسلة توعوية بعنوان العلم والمجتمع لتعزيز الوعي    بريطانيا: الوضع في غزة يزداد سوءًا.. ونعمل على ضمان وصول المساعدات    «أجد نفسي مضطرًا لاتخاذ قرار نهائى لا رجعة فيه».. نص استقالة محمد مصيلحى من رئاسة الاتحاد السكندري    رئيس جامعة بنها: تبادل التهاني في المناسبات الدينية يؤكد التماسك    عبد الرازق يهنىء القيادة السياسية والشعب المصري بعيد الأضحى    «صحة الاسكندرية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    يديعوت أحرونوت: وفد إسرائيل لن يذهب إلى الدوحة للتفاوض    تسرب 27 ألف متر غاز.. لجنة فنية: مقاول الواحات لم ينسق مع الجهات المختصة (خاص)    وزير الثقافة ينفي إغلاق قصور ثقافية: ما أُغلق شقق مستأجرة ولا ضرر على الموظفين    الهيئة العامة للأوقاف بالسعودية تطلق حملتها التوعوية لموسم حج 1446    السجن 3 سنوات لصيدلى بتهمة الاتجار فى الأقراص المخدرة بالإسكندرية.. فيديو    للمشاركة في المونديال.. الوداد المغربي يطلب التعاقد مع لاعب الزمالك رسميا    تخريج 100 شركة ناشئة من برنامج «أورانج كورنرز» في دلتا مصر    الرئيس السيسى يستقبل مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية    حزب السادات: فكر الإخوان ظلامي.. و30 يونيو ملحمة شعب وجيش أنقذت مصر    «تعليم الجيزة» : حرمان 4 طلاب من استكمال امتحانات الشهادة الاعدادية    توريد 169 ألفا و864 طنا من محصول القمح لصوامع وشون سوهاج    تحكي تاريخ المحافظة.. «القليوبية والجامعة» تبحثان إنشاء أول حديقة متحفية وجدارية على نهر النيل ببنها    «التضامن»: انطلاق معسكرات «أنا وبابا» للشيوخ والكهنة لتعزيز دور رجال الدين في بناء الأسرة المصرية    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر مايو الماضي    هيئة الشراء الموحد: إطلاق منظومة ذكية لتتبع الدواء من الإنتاج للاستهلاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر التي في خاطري .. طري طري !!
نشر في الجمهورية يوم 25 - 11 - 2012

* اليأس والأحزان من حقوق الإنسان.. لا يملك أحد كبر أو صغر أن يصادر حقوقنا في اليأس والحزن والتشاؤم.. الحزن واليأس والتشاؤم ليست تهمة ندفعها.. نحن نمارس حقنا المشروع الذي كفله الدين والقانون.. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا مصر لمحزونون.. ولكننا لا نقول إلا ما يرضي الله.. لا نلطم الخدود. ولا نشق الجيوب. ولا "نطلع من هدومنا". ولا نتخلق بأخلاق الجاهلية.. لكننا ينبغي أن نحزن ونتألم وندمع.. الله تعالي لا يحب الفرحين.. لكنه لا يكره لنا الحزن والألم والوجع والدموع.. لم يعد لجملة البابا الراحل شنودة الثالث محل من الإعراب.. فقد قال: إن مصر ليست وطناً نعيش فيه. ولكنها وطن يعيش فينا.. اليوم نقول غير ذلك: مصر وطن نعيش فيه. ولكنها وطن مات فينا.. كنا نتمني أن نموت في الوطن. ولم نكن نتمني أن يموت فينا.. الآن نحن نعيش في وطن مات فينا جميعاً.. لا أحد منا ينتمي إلي هذا الوطن.. هناك من ينتمون إلي الإخوان. ومن ينتمون إلي السلفيين. ومن ينتمون إلي العلمانيين.. لكن مصر ليس فيها مصريون.. هناك فرقاء يتصارعون علي دولة ساقطة. كل منهم يريد أن يخطفها ويغتصبها.. "وفي الآخر يطلع براءة".. لأن الواقعة ثبت بالأدلة الدامغة أنها ليست اغتصاباً. ولكنها مواقعة بالرضا والسماح.
ومبعث الحزن والألم واليأس أننا نعرف التشخيص ولا نعرف العلاج.. نعرف أن المرض ميئوس من شفائه. وأن الترقيع لا ينفي أن الشرف ضاع. وأن الفضيحة صارت بجلاجل. وأن الوطن فقد عذريته. وأن الحمل إما كاذب أو سفاح.. وأن"الشنب والذقن" اللذين يقف عليهما الصقر قد تدلدلا وصارا في الوحل.. وأن الشعب لقيط علي باب جامع أو كنيسة أو ميدان. وكل فريق يدعيه لنفسه.. "كل مائة نفر" يتجمعون في شارع أو حارة أو ميدان يقولون: الشعب يريد.. وكل شعب من هؤلاء يريد عكس ما يريده الشعب الآخر.. "كل مائة نفر" شعب مختلف.. أي أن مصر فيها مليون شعب يريد.. مصر فيها مليون خيمة.. ومليون راية.. ليس من بينها خيمة الوطن أو رايته.
مليون شعب يريد.. مليون شعب يلقي زبالته السياسية والفكرية والمطلبية في مقلب قمامة يسمي وزارة الداخلية.. الشرطة هي متعهد زبالة مصر الآن.. هي الزبال الذي عليه وحده جمع القمامة ومحاولة التخلص منها في مدافن آمنة.. وإذا لم ينجح الزبال في مهمته فهو المقصر والملوم والمخطئ والمذنب.. ولا أحد يوجه اللوم إلي مليون شعب يريد ويزبل في الشوارع والميادين.. الشرطة لم تعد في خدمة شعب واحد.. ولكنها في خدمة مليون شعب تتعارض إراداتهم ومطالبهم. وتتنوع زبالتهم.. لكنهم جميعاً متفقون علي أن الزبال هو المقصر والمخطئ وهو وحده الذي ليست له حقوق. وليس من حقه أن يريد.. الشرطة وحدها هي التي عليها ضبط النفس "وأن تمسك نفسها".. لكن مليون شعب يريد ومن حقه أن "يعملها علي روحه" في الميادين والشوارع.. ملايين البلطجية يرفعون لافتات الثورة.. وملايين الثوار يرفعون راية البلطجة.. ورجال الشرطة غُلَّت أيديهم ولُعنوا من الجميع.. ومن يقتلونه فهو ثائر وشهيد. ولو كان بلطجياً.
لا نعرف العلاج. ولكننا نعرف التشخيص.. وعندما يكون المرض ميئوساً من شفائه فإننا نتمني لو أننا لم نعرف.. عندما لا يكون هناك علاج فإننا نقول: ليتنا لم نعرف المرض.. ليتنا بقينا جهلاء.. فمعرفة المشكلة مع العجز عن الحل شفاء.. ومعرفة المرض مع الجهل بالعلاج عذاب وتعاسة ونكد.
زمان عندما اندلعت ثورة يوليو عام 1952 شكلت ما عرف وقتها بمحكمة الثورة.. وجاء الدور في المحاكمة علي الإخواني الشهير المحامي عبدالقادر عودة. وقيل إن رئيس محكمة الثورة وقتها كان الصاغ جمال سالم أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار.. الذي قال لعبدالقادر عودة: أنت متهم بالتآمر علي الثورة. فقال عودة جملة خالدة وبليغة: إذا صح الاتهام فأنت المجني عليه وأنا الجاني.. فكيف يحاكم المجني عليه الجاني؟!.. فثار جمال سالم في وجه عودة وسبه وحكم بإعدامه.. أي والله.. كيف يحاكم المجني عليه الجاني؟!.. "طب ما أنت الثورة اللي أنا تآمرت عليها.. يعني أنت المجني عليه.. فكيف يحاكم المجني عليه الجاني؟!.. طيب ما هو بديهي جداً حيحكم بإدانته وإعدامه".. أنت المطعون بالخنجر وأنا طاعنك. "تحاكمني انت ازاي؟!!".. ومصر تعيد إنتاج خطاياها وسيئاتها منذ عام 1952 إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.. "نفس الموال" لكن المغني مختلف.. وأحفاد وتلاميذ عبدالقادر عودة رحمه الله يمارسون اليوم دور الصاغ جمال سالم.. هم المجني عليهم ويحاكمون الجاني.. هم السجين الذي يحاكم سجانه.. ومحكمة الثورة صارت قانون حماية الثورة.. وإعادة المحاكمات تعني عدم الرضا بالأحكام السابقة.. وتعني بالضرورة أن من حصل علي البراءة سيعاقب بالمؤبد. ومن عوقب بالمؤبد سيعاقب بالإعدام.. المجني عليه "زعلان" لأن الجاني لم ينل الحكم الذي يشفي غليل المجني عليه.. فلابد أن يحاكم المجني عليه الجاني بنفسه. وإذا مات الجاني أثناء المحاكمة فلابد أن يصدر حكم بالتمثيل بجثته.. وهكذا انقلب أحفاد وتلاميذ عبدالقادر عودة علي المبدأ الذي أرساه الأستاذ. وصموا آذانهم عن صرخته: "إذا صح الاتهام فأنت المجني عليه وأنا الجاني.. فكيف يحاكم المجني عليه الجاني؟!".
* * * *
* إنها خمر السلطة التي تسكر من يرتشف منها رشفة واحدة. ويقول السكران: "بلا عبدالقادر عودة.. بلا جمال سالم.. أنا جدع".. مصر فيها قانون. ولكن ليس بها عدالة.. فيها تشريعات. ولكن ليس فيها عدل.. مصر يحكمها الهوي والمزاج والمخمورون بالسلطة التي جاءت بعد عطش وجوع.. لذلك يعب منها الجائعون والظمآنون عباً حتي يغيبوا عن الوعي.. المصري عموماً ولو كان شيخ المشايخ. وكبير الزهاد ليست لديه مناعة تقاوم فيروس السلطة.. لا يستطيع أن يصمد أو يقاوم الأضواء والسلطة والشهرة.. هو يريد أن يكون مشهوراً ولو كلص أو قاتل أو نصاب.
تعالوا نمارس معاً يأساً جماعياً. حزناً عاماً.. يا أصدقائي: المهندس إسماعيل العوضي وحمادة بدران أبودوح وأشرف الحسانين ومحمد جودت بعيص.. تعالوا "نحط همنا علي هم بعض" ونعترف بأن كل الفرقاء المتصارعين في مصر علي باطل. وعلي خطأ.. وما اجتمع اثنان في مصر إلا وكان الشيطان ثالثهما.. وما اجتمع أكثر من ذلك إلا وكان الشيطان قائدهم. والمحمول علي أعناقهم وهو يهتف: الشعب يريد.
الصراع في مصر ليس بين إسلاميين وقوي مدنية أو علمانية.. لكنه بين منافقين وكفرة.. علي فريق القوي المدنية أن يعترف بأنه فريق الكفرة.. وعلي فريق القوي الإسلامية أن يعترف بأنه فريق المنافقين.. وإذا لم يعترف الفريقان فإنني سوف ألف وأدور في مصر كلها لأقول للشعب الافتراضي: أنت مخدوع كعادتك دائماً.. أنت وقود معركة لا ناقة لك فيها ولا جمل.. المعركة يا شعبنا الذي لا يعرف ولن يعرف ماذا يريد بين كفرة ومنافقين. وإذا كان الكفرة يريدون دولة مدنية. فإن المنافقين يرفعون راية الشريعة.. ليس الاختيار بين شرع الله.. وحزب الشيطان كما يقول لك المنافقون.. لكن الاختيار الذي أقسم لك عليه غير حانث.. بين عبدالله بن أُبَيّ بن سلول.. وأبي لهب ومعه أبوجهل.. لو كان الأمر هو الاختيار بين ملاك وشيطان ما كانت هناك مشكلة ولا مرض ولا أزمة.. لكن المأساة أن الاختيار بين رأس النفاق ورأس الكفر.. بين مراد بك وإبراهيم بك.. الأميرين المملوكين.. مراد بك الباطش الأحمق.. وإبراهيم بك الباطش الثعلب المراوغ.. والمصريون عبر تاريخهم لا يختارون بين حلو ومُر. ولكن بين مُرَّين.. لا يختارون بين حسن وسييء.. ولكن بين سيئين.. بين من يقتلهم بعنف وهم أيقاظ.. ومن يقتلهم بعد أن يخدرهم ويفقدهم الوعي.. بين من يقتلهم فوراً.. ومن يحييهم "النهارده. ويموتهم بكره"..
ويصف المؤرخ الكبير الراحل عبدالرحمن الجبرتي حال المصريين بين الأمراء المماليك عندما كانوا يتبادلون النصر والهزيمة.. ويحل أحدهم محل الآخر فيقول: كان الأمير الذي ينتصر ويدخل القاهرة يفحش في المظالم والمصادرات حتي يتمني الناس زواله. وقدوم الآخر.. فإذا قدم الآخر أفحش في المظالم حتي يتمني الناس زواله.. إلي أن جاء بونابرته علي رأس حملة الفرنسيين ولقي الترحيب من المصريين كُرهاً في المماليك وفرحاً بزوالهم.. وبعد قليل تمني المصريون زوال بونابرتة.. فلما رحل عاد الأتراك بعساكرهم. ففرح بهم الناس لأنهم جنود الإسلام الذين خلصوهم من الكفرة.. ولما كثرت مظالم الترك ومصادراتهم ونهبهم للدكاكين والحواصل والبيوت تحسر الناس علي أيام بونابرته. وتمنوا زوال الترك.
ويقول: كان الأمراء يتحاربون معاً فيجمعون المراكب من أصحابها ويعطلون الأسباب ويستولون علي الحمير والبغال والجمال.. فكان الناس يتحملون أعباء حروبهم وصراعاتهم.. وعندما وقع الصراع بين مراد بك وإبراهيم بك. عاني الناس الأمرين واشتد بهم الكرب والضنك. وانقطعت الطرق القبلية والبحرية براً وبحراً. وكثر تعدي المفسدين.. وانتشرت الفتن والمصادرات والمظالم والإتاوات والجبايات. وأدي شيوع الفقر إلي فساد النيات وتغير القلوب ونفور الطباع. وكثر الحسد والحقد. فيتتبع الشخص عورة أخيه. ويشي به إلي الظالم. وعربدت في البلاد أولاد الحرام. وضاع الأمان ومنعت السبل. ومن أراد المرور فإن عليه أن يدفع. وإذا لم يكن يملك ما يدفع. أخذ قطاع الطرق دابته وجردوه من ملابسه.. وطفش الفلاحون من أراضيهم. وانتشروا في شوارع القاهرة بأولادهم يصيحون من الجوع. ويأكلون ما يتساقط من الزبالة. حتي لم يجد الزبالون ما يجمعون.. وأكلوا الميتة والرمم.. هذا والغلاء مستمر والأسعار في الشدة. وقل الدرهم والدينار.. وصار سمر الناس وحديثهم الأثير عما يفقدون.. وصارت نوادرهم عن العيش والسمن والقمح.
* * * *
* ويقول الجبرتي عن صراع الأمراء المماليك ما أقوله اليوم عن صراع الكفرة والمنافقين: الناس ضحايا صلحهم وخصامهم.. الناس ضحايا خلافهم ووفاقهم.. إذا اتفقوا دفعنا الثمن وإذا اختلفوا دفعنا الثمن.. لا خير لنا في اجتماعهم ولا في افتراقهم.. لكن الخير لهم وحدهم. فإذا اختلفوا استفادوا وإذا اتفقوا استفادوا.. اختلافهم عذاب لنا. واتفاقهم علينا وضدنا.. يتقاسمون الغنائم ويتركون لنا الغم.. يتقاسمون المغانم ويغرقوننا في المغارم.. لا خير في نجواهم ولا في سرهم ولا في علنهم.. نحن هالكون بين فرق هالكة.. يتعارك الظالمون ويموت ويهلك المظلومون.. وهكذا سيظل المصريون مثل أسلافهم يهتفون لما يفقدون.. فهم اليوم يهتفون للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.. وكما يقول الجبرتي: ضاع الناس بين صلح الأمراء وغبنهم.. وخروج طائفة ودخول أخري.. كان الأمير الغالب يتتبع الناس ويفتش في نواياهم فيعاقب من يشاء لأنه من أتباع ومريدي الأمير المخلوع والمغلوب.. "معني ذلك أن الناس كانوا في عهد المماليك فلولاً وثواراً". فأتباع الأمير الغالب ثوار. وأتباع المغلوب فلول.. ثم يغلب المغلوب وينهزم الغالب. فيصبح الفلول ثواراً والثوار فلولاً.. وتعبير الفلول استخدم لأول مرة في الديوان الذي أنشأه نابليون بونابرت وضم الأعيان والعلماء والتجار. وكان في كل يوم يكتب ورقة يعلقها علي الجدران يقول فيها: وقد أمر ساري عسكر بونابرته حامي الشريعة المحمدية بمطاردة فلول المماليك الهاربين لإنقاذ البلاد والعباد من فسادهم وعادتهم المرذولة في النهب والسلب والمصادرات.
ما أشبه الليلة بالبارحة "يخرب بيت الليلة والبارحة والكل كليلة".. يخرب بيتك يا مصر.. ما هذه القدرة العجيبة علي الحفظ والصم؟!.. المنهج لم يتغير منذ فرعون إلي الأبد.. نُقل بالحرف.. بالمسطرة.. إنها عبقرية مصر.. عبقرية تكرار الخطايا وإعادة إنتاج واستنساخ المصائب بحذافيرها.. نفس صراع المماليك.. نفس تبادل المواقع بسرعة البرق بين الفلول والثوار.. نفس شقي الرحي التي تطحننا "واحنا نقول كمان".. نفس الصراعات التي علمتنا التلون والنفاق والتشكل وخراب الذمم.. حامي الشريعة المحمدية لقب يطلق علي فرنسي.. علي تركي.. علي مملوكي.. علي مغولي.. علي من يركب ويغلب "ويدلدل رجليه المعفنة".. كل من يركب ويدلدل رجليه يتحول إلي فرعون يستخفنا فنطيعه.. يستخفنا بالسحر.. يستخفنا بالعجل الجسد الذي له خوار.. يستخفنا بالجدال العقيم حول البقرة ولونها وما هي.. يستخفنا بالدين وتطبيق الشريعة وأحكامها ومبادئها.. يستخفنا بالتأسيسية.. بالبقاء فيها أو الانسحاب منها.. يستخفنا بالإعلان الدستوري.. الذي هو عند فريق فتح مبين "ولا فتح مكة".. وعند آخرين كارثة "ولا محرقة النازي".. عند فريق انتصار للثورة.. وعند فريق قتل للثورة.. إنها مطر المنذرين والحجارة المسومة. التي جعلت عالي قريتنا سافلها.. وسافلها عاليها.. قالوا إنها جعلت مصر حديث العالم إعجاباً. فإذا بها جعلت مصر حديث العالم تهكماً وسخرية.. لا تحاولوا البحث عن مصر. فقد ماتت فينا.. مصر لم تعد في خاطر أحد. لكنها في جيبه. وفي "جعورته".. مصر التي في خاطري.. طري طري!!!
نظرة
* معانا الليبرالية الطازة.. معانا الدين الصابح.. معانا الديمقراطية السخنة.. معانا الإعلام الموهوج.. معانا البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين.. معانا الوطنية المستوردة.. والسوق مكتظة بكل أنواع البضائع.. لكن الباعة جائلون.. والسلع مكشوفة ومغشوشة.. ونحن نلف وندور في سوق عشوائية بلا معالم.. ولا نثق بأي بضاعة ولا بأي بائع.. نتفرج ولا نشتري.. الأمر بالنسبة لنا مجرد فرجة.. لا نحن باعة ولا نحن مشترون.. والباعة يتزاحمون حولنا ويلاحقوننا في محاولة لإقناعنا بشراء بضاعتهم المغشوشة.. "قرب يا بيه.. قربي يا هانم.. قربوا وجربوا".. ولكننا نتوجس وفلوسنا علي قدنا. ولسنا علي استعداد للمغامرة بها في سلع مضروبة.. لذلك هرولنا "ونفدنا بجلدنا".. وخرجنا من السوق خوفاً علي حياتنا وفلوسنا.. ورحنا نبحث عن بضاعة جيدة.. "وحفيت" أقدامنا ونحن نبحث عن محال وأسواق محترمة.. ولما وجدنا ضالتنا وتأهبنا للشراء.. وضعنا أيدينا علي قلوبنا وفي جيوبنا. فاكتشفنا أننا "اتنشلنا في السوق العشوائية"!!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.