قل السكة الحضيض ولا تقل السكة الحديد.. فقد ساءت أحوالها وانحدرت من القمة علي مستوي العالم إلي القاع والحضيض علي مستوي العالم أيضاً. يبدو أن من بين هواياتنا التفنن في إتلاف أي قيمة نملكها أو تميز ننفرد به. فالأوبرا التي كانت الأولي علي مستوي العالم والتي أنشئت قبل أوبرا باريس وبنفس التصميم قبل افتتاح قناة السويس لم نهدأ إلا بعد أن حرقناها. وشبكة السكة الحديد التي أقيمت في 12 يوليو 1851 وكانت أول خطوط سكك حديد يتم إنشاؤها في أفريقيا والشرق الأوسط والثانية علي مستوي العالم بعد بريطانيا لم نهدأ إلا بعد أن أتلفناها وشوهنا سمعتها وصار من يركبها مفقوداً ومن ينزل منها بسلامة الله مولوداً. تخيلوا ماذا كنا وماذا أصبحنا.. يوم 12 يوليو 1851 كانت أنظار العالم كله علي مصر بعد أن أعلنت أنها انتهت من إنشاء ثاني شبكة سكة حديد علي مستوي العالم بعد بريطانيا وأنها سوف تقوم بتشغيلها قبل افتتاح قناة السويس عام ..1854 كان ذلك في عهد الخديو إسماعيل وكان المشرف علي مشروع الشبكة هو المهندس الإنجليزي "روبرت ستيفنسون" ابن المخترع الشهير جورج ستيفنسون والذي نجح لأول مرة في تسيير قاطرة ذات عجلات ملساء علي قضبان ملساء. انتبهوا نحن نتحدث عن زمن كان العالم كله يجرب الآلة البخارية وكانت الخطوط الحديدية تقام علي استحياء لتغطي مساحات قليلة. لكن شبكة السكة الحديد في مصر كان طولها 9 آلاف كيلومتر. هذا ما كنا فيه. فماذا أصبحنا عليه.. العالم الذي كان ينظر إلي مصر من دهشة ما أنجزته من شبكة عملاقة وفريدة عام 1851 هو نفسه الذي وقف ينظر إليها في دهشة أيضاً هذا الأسبوع بعد كارثة قطار أسيوط التي راح ضحيتها حوالي 51 طفلا نتيجة اصطدام القطار بأتوبيس مدرسة بمنفلوط! دهشة العالم سببها أن رواد شبكات السكة الحديد علي مستوي الكون تخلفوا وتراجعوا حتي أصبحت سمعة شبكتهم في الحضيض. وبعد أن تحولت من شبكة تحافظ علي سلامة 3 ملايين راكب يومياً إلي شبكة تصطاد الأرواح وتحصد الضحايا لأسباب لا تليق مطلقاً بمكانة من كان الأول في هذا المجال! علي سبيل المثال لا يليق أن تكون المزلقانات عندنا معبراً للمرور من الحياة الدنيا إلي دار الآخرة لأننا مازلنا نتعامل مع المزلقان أبو منفلة أو مع العامل الذي إذا نام أو غفا دخلت الدنيا في بعضها وعامت القضبان في بحر الدماء.. تخيلوا أننا نسلم أرواح 3 ملايين راكب يومياً لخطوط الشبكة إلي عامل بسيط غلبان شقيان مرتبه 250 جنيهاً ونقول له يا عبدالودود رابض علي الحدود. لكن عبدالودود الشقيان الكحيان الذي يقلب عيشه طوال ساعات النهار لأن مرتب السكة الحديد لا يكفي شراء الخضار. تدور رأسه وينام بعد أن يشعل موقد النار من خشب فلنكات القطار لأنه خرمان شاي وحجر دخان. وملعون أبو الدنيا.. يفتح فمه بالشخير. ويفتح المزلقانات للأتوبيسات والعربيات وللجواميس والحمير. والحارس موجود. والنظرية دائماً يطبقها عبدالودود: القطار ماشي علي صمولة ومسمار وربك هو الستار. الطبيعي أن تحدث الكوارث عندنا طوال أيام السنة. وكلها لأسباب يضحك منها التخلف.. قطار يصطدم بجاموسة جن جنونها وعبرت المزلقان لتناطح الوابور. والحصاد أشلاء ودماء بحور! كما أننا البلد الوحيدة التي حفرت ونحتت مصطلح جزرة القطار.. تخيلوا القطار فيه جزرة. وأن طفلاً صغيراً بإمكانه إذا لعب في الجزرة أن يوقف القطار ويصطدم به ألف قطار وقطار! معقول يا جماعة.. هل نحن نتحدث عن أعرق وأقدم شبكة سكة حديد في العالم أم عن عربات الملاهي ومراجيح مولد النبي؟ ويبدو أننا مستمتعون بحالة التخلف التي نعيشها مع السكة الحديد. لأن الحل بسيط للغاية وهو تحويل المزلقانات من حالة "اللي يحب النبي يساعد ويقفل معانا إلي مزلقانات إليكترونية. يعني الدنيا تصبح ديجيتال. والمزلقان اللي يجيلك منه الريح سده واستريح.. سيقول المحفلطون: التكلفة من أين؟ الإجابة تعالوا نحسبها سويا.. نحسبها بأرواح الناس وماذا تعني.. والدماء التي تسيل كل يوم والدموع التي تنهمر آناء الليل وأطراف النهار من البكاء علي الأحباء الذين خرجوا ولم يرجعوا كم تساوي.. هناك أيضاً أبسط حسبة اقتصادية وهي البورصة التي خسرت يوم حادث أسيوط وحده أكثر من 6 مليارات جنيه. أزيدكم من الشعر بيتاً في الحسبة الاقتصادية.. حيث لا نريد أن نحسبها بالخسائر المترتبة علي الحوادث. وإنما بالمكاسب والأرباح التي يمكن أن يحصدها هذا المرفق إذا قمنا بتطويره.. فالهيئة يعمل بها نحو 86 ألف عامل من جميع التخصصات والمؤكد أن هذا سيعود عليهم مادياً ومعنوياً بالخير. هذا التطوير له مغزي آخر وهو أن مصر بحجمها ومكانتها عندها السكة الحديد التي تليق بها.. لن نقول إننا الآن نريد أن نكون مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا- مع أن هذه البلاد بدأت معنا- ولكن نود علي الأقل ألا نخجل من أوضاع وأحوال القطارات عندنا.. أضعف الإيمان ألا تحدث عندنا الحوادث التي تخجل بلاد "الواء الواء" من نفسها وتقلق علي مكانتها إذا وقعت فيها.. لو رصدنا الحوادث التي وقعت بسبب المزلقان البدائي والدنيا العتيقة التي نصر عليها سنكتشف أن الفقر في الدماغ التي لا تفكر. وليس في الجيب والميزانية وبالتالي سنستيقظ كل عدة أيام علي كارثة. وسنضحي كل عدة أشهر بوزير للنقل ورئيس لهيئة السكة الحديد لأننا نشد الأستيك فيلسعنا. ونصر علي أن نشد "الجزرة" ونلعب فيها لأننا لم نفكر في "خيار" مختلف وهو أن نخرج من القمقم وننسف الحمام القديم. السكة الحديد المصرية كانت من أقدم وأكفأ بيوت الخبرة الفنية.. الآن أصبحت أوهن من بيت العنكبوت. ليس لنقص الكفاءات فيها. فعندنا كفاءات نادرة لا تحصي ولا تعد. وإنما لأن تلك الطاقات مثل المراجل البخارية محبوسة ومضغوطة وتستشيط غضبا وكمدا كل يوم لأن هناك من يكبلها ولا يريد أن يعطيها الفرصة. وفي الوقت الذي نحن فيه نتقهقر ونرجع إلي الخلف نجد أن دولا حولنا كانت تركب الجمل. أصبح لديها القطار الفاخر والمترو فائق الرفاهية الذي يسير بدون سائق.. الشبكة هناك لا يمسسها إنسان ولا جان.. كل شيء ديجيتال* ديجيتال.. يقف القطار في المحطة كل عربة في مكانها ورقمها المحسوب بدقة علي الرصيف.. يصعد الراكب ويجلس في مقعد مريح وعربة فاخرة يقرأ كتابه ويفتح اللاب توب حيث شبكة الانترنت تغطي كل المكان.. يعيش ويستمتع. ونحن أيضاً نصعد ونقرأ الكتاب.. ولكن كتاب حياة حسن الأسمر "الفرح فيه سطرين والباقي هباب بعد محطتين".. كتاب نقرأه وبعدها لا ننزل في المحطة وإما تصعد أرواحنا إلي السماء.. والكل في الكارثة سواء من أخذ تذكرته بيمينه ومن أخذها بشماله.. الجميع يوقع مع الهيئة قبل أن يركب عقداً عرفياً يقول: أقر أنا الموقع أدناه أنني قد ودعت أهلي لأنني لا أعلم إذا كنت سأعود أم لا وقد ركبت القطار وأنا في كامل قواي العقلية ومؤمن بالقضاء والقدر حيث إن القطار مجرد وسيلة انتقال ليس بالضرورة من محطة مصر إلي الصعيد أو الإسكندرية وإنما من محطة مصر إلي محطة الآخرة!