كان الصبح مثقلا برذاذ الماء والضوضاء والكثير من بقايا أحاديث الليل المبتورة. وجاء صديقي بوجه مثقل بالهم وشيء من الاستياء الخاص الذي يشعر من يراه أن وراءه أنثى وقد صدق حدسي! أخبرني عن موقف عابر آلمه، يستفيض في الشرح: "لم يكن ما آلمني فقط هو تجاهلها الذي يعني عدم الرغبة في المشاركة، ولكن لأنني اكتشفتُ أنني كنت محتاجا لذلك". سألته مندهشة عما يؤلم في رغبته في مشاركتها فقال: "الحاجة.. ليس من المفترض أن تكون هناك حاجة أصلاً بيننا. كان هذا منطلق النقاش، هو يرى أن الحاجة تفسد العلاقة، بينما أرى أنا أنه بدون الحاجة لما وجدت أية علاقة على الأرض ولا مجتمعات ولا تجارة ولا أي نشاط إنساني، وأنه الله فقط الذي لا حاجة له فهو سبحانه "الغنّي". والاحتياج طبيعة إنسانية، تختلف أشكاله وطرق الإنسان في التعبير عنه باختلاف مراحله العمرية. يبدأ جسدياً وينتهي جسدياً أيضاً. يبدأ عندما نكون بذرة في كون التطور تعتمد على الأم في الغذاء ثم تخرج مع بقاء اعتمادها على الأم لفترة ومن ثمّ ينشأ الرباط الذي يظل يجمعهما حتى بعدما يستقل الإنسان جسديا عن الأم في طفولته ثم يستقل بحياته عنها في شبابه. وتظل هي المتكأ الذي عليه تقوم رؤيته للفتاة وشريكة حياته وهي الحضن والسند حينما يقسو العالم. يقاطعني: "ولكن الحاجة تجعل الإنسان رهينا لها فيظل ينتظر". أضيف إليه: "والانتظار مؤلم..".. يوافقني قائلاً: "وحينما لا نجد ما ننتظره نكتئب". فأقول: "كي نفرح عندما نجد ما انتظرناه وربما أجمل مما كنا نتوقع". فيقول: "إذن الحاجة تتسبب في الانتظار والتوقع ثم الألم". أوافقه "ولكن بدونها ما كانت هناك علاقات ولا ها.. وها؛ هاك وهات".. يعترض: "ليس من المفترض أن تكون هناك حاجة". أستشعر أنه يقيس الحاجة بمقياس القوة والضعف ويراها ضعفا.. يقول: "نعم". أعترض: "لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها؟ هل وجود البذرة في نصف الثمرة دليل على قوتها وصلاحها عن النصف الخالي منها؟ يصمت متفكر ويجيب ب"لا".. أعزز رده بأنه ربما عندما تنزع البذرة تجد نسيج الثمرة تحتها مهترئا وليس حلو المذاق فنأكل النصف الأول بعدها لنبقي في فمنا طعمه الحلو المعتدل النضج". كان التفكير قد أخذ صديقي وبدأت الحركة تنتعش في العمل ومرّ بنا المدير رامقا إيانا بنظرة استفهام. وكان الحوار قد بدأ يطيب ويتشعب وكلانا مصر على إبداء وجهة نظره تماما لعله يقنع الثاني. أنا أريد أن أقنعه حتى لا يحمّل نفسه ما لا طاقة لها به، وهو يريد أن يقنعني حتى لا أتألم مثلما تألم هو. فاتفقنا أن نكمله في وقت لاحق. ولكن الحوار استمر داخلي وتشعب أكثر مع معاني "الاستغناء" و"الاعتماد" و"القدرة على العطاء" وعلاقة كل ذلك بالشكر ومن ثم الإخلاص لله في العبادة..!! يتفق معي صديقي ولكنه يخرج بتشعب آخر للفكرة: "والاستغناء في الحب قصة كبيرة، فهو يعلمنا كيف يجب أن نحب، يعلمنا الاهتمام بالآخر بدلا من البحث فيه عما يلبي احتياجاتنا. يعلمنا ألا ننتظر شيئا أو نتوقع شيئا، كي لا نصطدم بعدم تلبية احتياجاتنا فيخيب ظننا وتخبو نار حبنا. أما الاحتياج في الحب يجعلنا نفكر طوال الوقت في كيفية قدرة الحبيب على تلبية احتياجاتنا، وإذا عجز عن التلبية آلمناه، وإن لبّاها احتجنا المزيد". أتفق معه في المضمون وأختلف في الجزئيات خصوصا أنني عندما أتحدث عن الحاجة أقصد الاعتدال، وهو يتحدث عن الإفراط. ويدفعني حديثه عن الحب للتفكير في لماذا نحب ومن نحب وعلاقة ذلك بالاحتياج، فأقول له: "عندما يُسئل أي إنسان عما يحبه في شريك حياته يكون مجمل رده لا يخرج عن فكرة أن يكون متوافقاً معه. ولكي يتحقق ذلك، ُيشترط التطابق في الرؤية للحياة، والتشابه في بعض التفاصيل، ثم الاختلاف الودود الذي من خلاله يكتمل الاثنان معا بعدما عاشا دهرا نصفي روح. وأستشهد بآية "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" وبمقولة الصوفي ابن عربي: (ما أحب محب إلا نفسه، وما عشق عاشق إلا معناه وحسه). فمن خلال التطابق والاختلاف تتحقق احتياجات كليهما، سواء ما يحتاجه كل واحد من الطرف الثاني، أو ما يحتاجه من الحياة ويعينه عليه الطرف الثاني". ثم أرد على نقطة أن الاستغناء يعني انتفاء التوقع والانتظار قائلة: "أيتمكن من اختاروا الاستغناء من الاستمرار في حياتهم بدون أن يكون هناك مردود لعطائهم؟ قبل أن يجيب صديقي، أبادره بسؤال آخر عن أكثر نموذج معطاء في الحياة ولديه استعداد لمنح حياته ذاتها، الأم، رغم ذلك تتعرض لأزمة وتكتئب لأن أحد أبنائها لم يقم بزيارتها على سبيل المثال". لا يجيب ويكمل: "ولكن الاحتياج في الحب يولد الغيرة، لأنه يحول الحب إلى امتلاك والحبيب إلى مملوك لا حق له في الاهتمام بشيء أو شخص آخر سوى محبوبه. ويؤدي إلى الخيانة، فالزوج المحتاج لجسد زوجته، في غيابها سيبحث عن غيرها، والزوجة المحتاجة لعاطفة زوجها، في غيابه ستبحث عن مشبع آخر. والإنسان المحتاج إنسان ضعيف. والاحتياج في الحب يؤدي إلى الخوف، والخوف يحرم الإنسان السكينة والاطمئنان، فالمحتاج لحبيبه، يخاف خسارته طوال الوقت، يخاف موته، يخاف فراقه، يخاف انشغاله. وهي كلها أمور حتمية، الخوف منها هو عدم تسليم لقضاء الله وقدره. أيضا، الاحتياج في الحب يحرم الإنسان متعة الاعتماد على الله وحده، فنبحث عن سعادتنا ونطلبها من مصدر آخر نعتمد عليه في إشباعها غير مصدرها الأساسي. أما الاستغناء فهو لا يعني التجاهل بل هو فقط عدم وضع شروط في العلاقة، وعدم انتظار أشياء معينة، وعدم البحث عما ينقصنا داخل الآخرين، بل العطاء المستمر بدون انتظار أو ترقب مقابل ما، مع الشكر والامتنان لله، الذي أهدانا من نحبهم ويحبوننا. الشكر على ما أعطوه وما لم يقدروا على عطائه ولكن تمنوا لو أعطوه". أضحك وكأنني وضعت يدي على سندات قدمها لي صديقي بيديه لأستخدمها حجة تؤيد وجهة نظري، يستفهم سبب ضحكي، فأقول له: "ولم لا تقول إن بسبب تلك الحاجة يُمتحن معنى الإنسانية والإخلاص والحب على كل الأصعدة؟؟!! حبك ووفاؤك لإنسان، وحبك وإخلاصك للخالق؟! لا تصله وجهة نظري، فأوضح: الحاجة لدى كل إنسان موجودة بدرجات، ستظل حاجتنا موجودة كفطرة لا نملك حيالها شيئاً، ولكن ما نملكه هو التحكم في درجاتها، فالرغبة في عيشة رغدة لا يتحول إلى جشع وطمع وبخل، والرغبة في الطعام لا تتحول إلى إفراط في تناوله، والحب لا يتحول إلى امتلاك وقهر وغيرة وشك، بل يساعد كلاهما الآخر في أن تظل علاقته بكل ما ومن حوله قائمة، والرغبات الجسدية لا تؤدي به إلى الخطيئة وخيانة الله وخيانة من يحب. إذن، بالتحكم في درجة احتياجاتنا نسمو بإنسانيتنا ونثبت إخلاص حبنا الذي لا يخضع لتلك الحاجة وإن كان يقوم على درجاتها المعتدلة. وبالنسبة للخوف الذي قد يجعلنا لا نسلم لقضاء الله إن فقدنا ما نحب، لم لا تقول يا صديقي إنه أحرى أن يحثنا لنؤدي حق تلك النعمة كما يجب حتى إن حان موعد رحيلها لا نندم أننا منعنا عطاءً كان سيجعل حياتنا أجمل ومنعنا شكراً تستحقه كان سيجعلنا إلى الله أقرب؟ أما الاعتماد على الآخرين كمصدر للسعادة في حين أن مصدرها هو الله، فلم لا نرى الآخرين على أنهم أسباب الله لسعادتنا؟؟ ثم إن العلاقة بيننا وبين الله في غاية التشعب وموجودة في كل شيء، في الطعام والشراب، وفي النوم، وفي الزوجة والزوج، وفي الأبناء، وفي العمل، وفي الأقارب والأصدقاء وغير ذلك. وكل ما سبق نِعمٌ تسد حاجتنا وتحتاج إلينا، وفي كل ما سبق حقٌ لله علينا، لن نتمكن من القيام به إلا إن أدينا حق تلك النعمة. وبذلك فهو سبحانه أوجد الاحتياج ليعطينا ويكرمنا ويمتحننا وفقا للضوابط والتشريعات التي وضعها ومن خلال ذلك يكافئنا في الدنيا والآخرة. وقفت أنا وصديقي مبتسمين من هذا التداخل الجميل للأفكار، وكل واحد يدير وجهة نظره ووجهة نظر الآخر في ذهنه ولكنني كنت متمسكة بما أقول وإن اتفقت معه جزئيا فيما قال. وبدا أن في الموضوع متسع لآراء أخرى فجعلتها دعوة للنقاش.. هل يمكن للإنسان الطبيعي -وليس الزهاد ولا النساك- أن يعيش بدون احتياجات؟ وهل وجود الاحتياجات في الحب والعلاقات الإنسانية تعني أن العلاقة مشروطة بتحققها؟؟