جاء فى الأثر "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، ويقول الإمام البنا رحمه الله: "قلما تجد إنسانًا يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلا، ويضع كل واحد من المعنيين فى جانب، فهما عند بعض الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومن هنا سُميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية؛ وذلك اجتماع دينى لا سياسة فيه، ورأيت فى صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومناهجها (لا تتعرض الجمعية للشئون السياسية)". لكن نحب أن نُوضِّح للإخوة الأحباب من أين جاءت هذه الشبهة؟ وأين نبتت تلك الفرية؟ إن قصة العزلة بين الدين والدنيا أو بين الدين والسياسة لم تنبت أبدًا فى بلاد العالم الإسلامى، ولم يعرفها الإسلام وعبارات تخدير الدين للمشاعر، والدين أفيون الشعوب أكاذيب لم تكن يومًا من الأيام وليدة هذا الدين أبدًا، ولم تعرفها نظمه أو طبيعته، لكنها من الأمور المستوردة والمسلمون لا يحاولون التفتيش عن أصلها والبحث عن مصدرها ونشأتها. يقول الإمام البنا فى سبب العزلة بين الدين والسياسة: "إن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام، أو حينما أعياهم أمره وثباته فى نفوس أتباعه ورسوخه فى قلوب المؤمنين به، واستعداد كل مسلم لتفديته بالنفس والمال، ولم يحاولوا أن يجرحوا فى نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته لكنهم حاولوا أن يحصروا معناه فى دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواحٍ قويةٍ عملية، وإن تُركت للمسلمين بعد ذلك قشورًا من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغنى من جوع.. فأفهموا المسلمين أن الإسلام شىء والاجتماع شىء آخر، وأن الإسلام شىء والقانون شىء آخر، وأن الإسلام شىء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شىء والثقافة العامة سواه، وأن الإسلام شىء يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة. يقول الشاعر: فقل لمَن ظنَّ أن الدينَ منفصلٌ** عن السياسة خُذ يا غِرُّ برهانا هل كان أحمد يومًا حِلْسَ صومعة ** أو كان أصحابه فى الدين رهبانا يرضى النبى أبا بكر لدينهمو.. فيعلن الجمع نرضاه لدنيانا إن دين الإسلام العالمى الربانى لا يمكن أبدًا عزله عن الحياة، ووضعه فى المتحف أو على الأرفف أو مطاردته ليدخل المسجد فقط، فلا يخرج منه وأحكامه وشرائعه ونظمه مبعدة عن الحياة. يقول الإمام البنا: "وأعتقد أن أسلافنا رضوان الله عليهم ما فهموا للإسلام معنى غير هذا؛ فبه كانوا يحكمون، وله كانوا يجاهدون، وعلى قواعده كانوا يتعاملون، وفى حدوده كانوا يسيرون فى كل شأن من شئون الحياة الدنيا العملية قبل شئون الآخرة الروحية، ورحم الله الخليفة الأول إذْ يقول: لو ضاع منى عقال بعيرٍ لوجدته فى كتاب الله". ويقول رحمه الله أيضًا: "بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية أستطيع أن أجهر فى صراحةٍ بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا، بعيد النظر فى شئون أمته، مهتمًّا بها غيورًا عليها" (راجع نظرات فى رسالة التعاليم ص299). إن الإسلام الحنيف يعتبر العبادة هى الحياة كلها خاضعة لشريعة الله متوجهًا بكل نشاط فيها إلى الله، ومن ثم يعد كل خدمة اجتماعية، وكل عمل من أعمال الخير فيه عبادة، يقول صلى الله عليه وسلم: "الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" (رواه الشيخان). والإسلام لا وساطةَ فيه بين الخلق والخالق، فكل مسلم فى أطراف الأرض وفجاج البحر يستطيع بمفرده أن يتصل بربه، وأن يقف ببابه، وما عليه إلا أن يتوضأ ويتطهر ثم يقول: يا رب: يطلب ما يشاء بلا أى واسطة.. والإمام المسلم فى نظام الإسلام لا يستمد ولايته من "الحق الإلهى"، ولا يكون أبدًا واسطة بين الله والناس إنما يستمد ولايته ووجوده من الأمة. إذن ليس فى الإسلام رجل دين ورجل دنيا، ورجل الدين بهذا المفهوم الخاطئ يراد به ألا يعرف شيئًا عن الدنيا أو أحوالها ولا يبدى رأيًّا فيها، وليس فى الإسلام أيضًا رجل دنيا معفر بترابها غارق فى شهواتها، لكن الإسلام يريده أن يعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة.. قال تعالى: ﴿فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)﴾ (النور). لكن على وجه اليقين نقول: إن فى الإسلام علماء بالدين يفسرونه ويبينونه للناس، وليس للعالم بهذا الدين حق خاص فى رقاب المسلمين أو غيرهم، وليس للحاكم أو الأمير فى رقابهم إلا تطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله وقيادتهم إلى مرضاة الله والسير بهم على الصراط المستقيم وحراستهم، ولله در القائل: "لو عثرت بغلة بشط العراق لسئلت عنها بين يدى الله لِمَ لم أسوّ لها الطريق". أرسلت امرأة من الجيزة بمصر تسمى (فرتونة السوداء) رسالة إلى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه تقول له: إن حوائط بيتى قصيرة وإن دجاجى يقفز من فوقها، وأنا امرأة عجوز، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه الرسالة، وأرسل من فوره إلى واليه بمصر يقول له: إذا أتتك رسالتى فقم من فورك، واذهب إلى الجيزة وابحث عن (فرتونة السوداء)، فتعلى لها حوائطها وتخبرنى بما فعلت: ووصلت الرسالة إلى واليه بمصر، فقام من فوره وذهب إلى الجيزة، وسأل عن المرأة حتى وجدها؛ امرأة عجوز سوداء مسنة فأعلى لها حوائطها فى الحال وحفظ لها دجاجها الذى يتفلت منها. هذه صورة الحاكم فى الإسلام فهو ولى الضعيف أولاً ونصير العاجز أولاً لا يرضى له إلا بالراحة والاطمئنان، وكان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه يخرج متخفيًا، ويقابل الذين قدموا من الريف فيسألهم وهم لا يعرفونه، يقول لهم: كيف حال البلاد والعباد؟ فيقولون تركناهم الظالم بها مقهور والمظلوم منصور والغنى موفور والفقير مجبور. فيلتفت عمر إلى مزاحم، ويقول له: هذه كلمات ما يسرنى أن لى بها الدنيا"، وكان عمر يقف ومعه مزاحم -هذا التابعى- وقريب منهما البرذون- الفرس- الذى يركبه عمر فقال عمر لمزاحم: كيف حال الناس؟ قال: يا أمير المؤمنين كل الناس فى راحة واستقرار وطمأنينة إلا أنا وأنت وهذا البرذون، نتحمل المشقات والسهر.. فضحك عمر رضى الله عنه، وجاءته هدية يومًا من الأردن فسأل: على أى شىء حملتموها؟ قالوا: حملناها على دواب البريد. فقال: ليست هذه مهمتها لقد شققتم عليها، بيعوا هذه الهدية واشتروا بثمنها علفًا وأطعموا هذه الدواب التى حملتموها. أرأيت إلى هذه العظمة؟! هل سمعت عن هذا العدل؟! هل اشتقت إليه؟ إنه الإسلام الذى شرفنا الله به وكرّمنا به ورفع شأننا به. الإمام البنا وموقفه من قضية الدين والسياسة. يقول الإمام البنا: يجب أن نعلم أن السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا الحكم الدستورى الشورى فهى واضعة أصله ومرشدة الناس إليه فى قوله تعالى فى أوصاف المؤمنين ﴿وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم﴾ (الشورى: من الآية 38)، وقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرهُم فى الأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 159). وقد كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه وينزل على رأى الفرد منهم متى وضح له صوابه، كما فعل ذلك مع الخباب بن المنذر فى غزوة بدر، ويقول لأبى بكر وعمر "لو اجتمعتما ما خالفتكما"، وكذلك ترك عمر الأمر شورى بين المسلمين، وما زال المسلمون بخير ما كان أمرهم شورى بينهم. فلنحرص عليه جميعًا، ولنتفانَ فى تطبيقه وتنفيذه، ولنقف بباب الله نطرقه ونديم الطرق والرجاء والدعاء؛ لعل الحق تبارك وتعالى يرضى عنا وعنكم وعن جميع المسلمين على ظهر الأرض.. اللهم آمين. -------------------------------------------------------------------- من علماء الأزهر الشريف وعضو مكتب الإرشاد السابق لجماعة الإخوان المسلمين