مر النظام السياسي المصري بثلاثة أنماط من التغيير بعد ثورة 25 يناير، بدأت بنمط "الثورة الإصلاحية" التي فككت أجزاء من النظام ولكنها لم تكمل مهمتها في تغيير جوهره ومؤسساته، لأسباب يلزم قراءتها بموضوعية، تلاه نمط "الإصلاح من الداخل" خلال عام من حكم الرئيس المنتخب، والذي مهد للنمط الثالث بعد عام واحد تقريباً ويتمثل في " انهيار النظام" الانتقالي الجديد بأكمله بانقلاب عسكري. وأعقب ذلك الانقلاب حراك ثوري لم يتوقف حتى اللحظة، ولكن خطابه تراوح بين التأكيد على عودة الشرعية والرئيس المنتخب دون بلورة رؤية لليوم التالي لعودتهما، وهل سيستطيع نفس نمط الإصلاح تحقيق نتائج مختلفة في ظل العداء المتزايد للإسلاميين من مؤسسات الدولة والقوى الفلولية الاقتصادية والإعلامية؟ وبين الحديث عن "ثورة إسلامية" تعني استرداد السلطة بالقوة والانخراط بعدها في إجراء تغييرات جذرية في الدولة والمجتمع. إدراكات غير واقعية ومن المفارقة أن خطاب "الثورة الإسلامية" ظهر على منصة اعتصام رابعة العدوية قبل أن يتوارى بعد ارتكاب أسوأ مجزرة في تاريخ مصر الحديث بفض هذا الاعتصام، ولعل تريث الانقلابيين في فض الاعتصام لأيام طويلة كان يفسره مثل هذا الخطاب الذي تم توظيفه قبل الانقلاب وبعده، في تصوير الإسلاميين بالإرهابيين واستغلاله في الدعايات السوداء ضد الحراك الثوري في الشارع وكذلك للتغطية على الأهداف الحقيقية للعملية العسكرية في سيناء. بكلمات أخرى: الحديث عن "الثورة الإسلامية" لاسترداد الشرعية كان يعكس إدراكاً غير واقعياً لموازين القوة على الأرض، ووفر ذريعة تلو الأخرى للانقلابيين لشن إستراتيجية استئصالية تجاه "الإخوان المسلمين" تحت قصف إعلامي ودعايات سوداء استغلت خطابات المنصة عموماً والحديث عن الثورة الإسلامية خصوصاً للترويج بأن الإسلاميين إرهابيون ويرغبون في إقامة دولة دينية تحكم بالحديد والنار!. ومع مرور الأيام، اختفى المصطلح تقريباً تحت وطأة التكاليف البشرية الضخمة التي دفعها الإسلاميون، بل تشكلت قناعات جديدة مناقضة لدلالات ذلك المصطلح كما أراده الإسلاميون: مقاومة الظلم واستعادة الشرعية، وأسلمة الدولة والمجتمع بما يحقق العدل وكرامة الإنسان المصري. ومن أخطر هذه القناعات ما تم تداوله من آراء غريبة بأن ما واجهناه من قتل على أيدي البلطجية وتشويه وتشفٍّ من جانب المؤيدين للانقلاب، يجب أن يجعلنا في مراجعة لعملنا الاقتصادي والخيري والاجتماعي الذي نبذله لخدمة المجتمع وعلاج بعض همومه. تفكيك المصطلح لكن ذلك المصطلح "الثورة الإسلامية" لم يختفِ كلياً – أو بالأحرى واقعياً – فصمود الحراك الشعبي برغم كل حملات القتل والقمع والاعتقال والتشويه الدعائي والإعلامي، لا يعني سوى أن المخيلة تحمل معاني هامة من تجارب إنسانية أخرى، كالفلسطينية والإيرانية والجنوب أفريقية، حيث تحدى المجاهدون بصدورهم العارية المدافع والدبابات وتحملوا التضحيات الجسام من أجل قضية وطنهم وشعبهم العادلة. عموماً فإن الحديث أول مرة عن المصطلح في توقيت غير مناسب وبدلالة تتعلق بالتغيير الجذري وبالقوة من جهة، واستغلال الانقلابيين له في حملتهم الاستئصالية من خلال ربطه بطبقة رجال الدين والانقسام في التجربتين الإيرانية والفلسطينية لتبرير الاستبداد والفساد والتبعية باسم الوطنية والأمن القومي من جهة ثانية، وعدم قدرة الإسلاميين على صياغة خطاب إعلامي خاص برؤاهم حول المرحلتين الراهنة والقادمة، يكون قادراً على مواجهة كافة الدعايات السوداء من جهة ثالثة، كل ذلك ساهم في صورة غاية في السلبية للإسلاميين، فأصبح الذين نالوا ثقة الشعب بالأمس هم عدو الشعب المصري الأول، وليس المستبدون والفاسدون، بل وأضحوا عدو الدولة المصرية وليس إسرائيل!. فهل حان الوقت لتفكيك هذا المصطلح والإفصاح عن مدلولاته في وعينا؟ إن الإجابة تتوقف أولاً على مدى رؤيتنا له وهل هو يعني بصراحة التغيير الجذري، السياسي والاجتماعي، وبالقوة، وهو أمر يخالف مدرسة الصبر والتمكين للإسلاميين، أم أنه ينطبق بحذافيره على ثورة 25 يناير التي نريد استردادها؟ إن ثورة 25 يناير صنعها جيل حي ولد من ظهر جيل ميت! ومثلت انقلاباً أخلاقياً نحو الفضيلة، يمكن تكراراه، وهدفت إلى استعادة سلطان الأمة، وتولي الكفاءات بغض النظر عن الحزب والجنس، وهذه الكفاءات لابد أن تسعى إلى الحصول على الرضا الشعبي طوال فترات وجودها في المناصب وليس عند الانتخابات فقط، إقتداءً برسولنا الكريم الذي كان يجدد البيعة ولم يأخذها مرة واحدة. وثانياً: يتوقف على مدى قدرة الحراك الثوري الراهن على التغيير، وهل يسعى إلى تغيير ثوري حقيقي "أم ثورة إصلاحية جديدة"، يقربنا نحن وشعبنا، كله، من مقاصد الشريعة وأهداف ثورة 25 يناير؟. الثورة التي نريد إن التغيير الثوري له متطلبات على المستويين السياسي والاجتماعي: فعلى المستوى السياسي لابد من قيادة سياسية موحدة ومعروفة يكون موقفها واضحاً من التفاوض والحلول السياسية، وتوظف متخصصين لطرح اجتهادات حول قضايا شائكة لم تحسم كالعلاقة بين العسكري والمدني، هيكلة الشرطة، مواطنة الأقباط، والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. أما على المستوى الاجتماعي، فنحن بحاجة ماسة لاستئناف حركتنا الاجتماعية، باعتبارها قوة سياسية لا تأتي بالمواجهات السياسية أو الفعل السياسي وإنما بالممارسة الفعالة للحياة اليومية في الفضاء العام لخدمة المجتمع ومواجهة قوى الفساد والفلول. بكلمات ختامية: إن الثورة "الإسلامية" التي نريد، هي أن يشعر الناس أن الحراك الثوري في الشارع وكل هذه التضحيات من أجلهم هم، وليس من أجل سلطة دولة مهترئة ظالمة فاسدة. ويتزامن مع ذلك التطهر من الحزبية والطائفية والثقافة السطحية، وطرح اجتهادات حول دولة العدل والحريات وهموم شعب مصر. فدولة الإسلام، هي دولة الإنسان.