يقول أفلاطون: "إذا ذاق المرء قطعة من لحم الإنسان تحول إلى ذئب", ثم يقول: "ومن يقتل الناس ظلماً وعدواناً، ويذق بلسان وفم دنسين دماء أهله فيشردهم ويقتلهم.. فمن المحتم أن ينتهي به الأمر إلى أنْ يصبح طاغية ويتحول إلى ذئب..!!". كثير من الشعوب كان لها تجارب مريرة مع الطغاة الذين تحولوا إلى ذئاب كاسرة على أممهم ورعاياهم، ولم يرعوا فيها إلًّا ولا ذمة، وكان ذنب هؤلاء الشعوب والأمم، هو الثقة في هؤلاء وتوليتهم لأمرها حتى يدبروا شؤونهم ويرعوا مصالحهم، فكانوا دواهي وكوارث. وراعي الشاة يرد الذئب عنها فكيف إذا كان الرعاة لها ذئاباً فهم إذن خونة للأمانة قتلة للقانون، يقول جون لوك: "يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون"، أي عند انتهاك سلطة القانون، وعند ركله بالأقدام ثم يقول: "الشُّرطي الذي يجاوز حدود سلطاته يتحول إلى لص أو قاطع طريق.. كذلك كل من يتجاوز حدود السلطة المشروعة، سواء كان موظفاً رفيعاً أم وضيعاً، مَلكاً أم شرطياً، بل إن جُرمه يكون أعظم إذا صدر عمن عظمت الأمانة التي عُهِدَ بها إليه.." وتعرف الموسوعات العلمية الطاغية، فتقول: "طغى فلان أي أسرف في المعاصي والظلم، والطاغية: هو الجبار الأحمق، المتكبر، المدمر، والمراد هنا: من تولى حكماً فاستبد وطغى، وتجاوز حدود الاستقامة والعدل، تنفيذاً لمآربه فيمن تناوله حكمه أو بلغت سلطته إليه". هذا وكان وصف القرآن لمن كان على هذه الشاكلة مطابقاً لهذه الصفات الذميمة، قال تعالى لموسى عليه السلام: (اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى . فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى) (النازعات: 17، 18) وأشار أن لهؤلاء الطغاة مآلاً بئيساً وعاقبة وبيلة، وصدق الله تعالى: (هَذَا وإنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (ص: 55). إذاً فالطاغية رجل مغتصب للناس الذين يكرهونه ولا يستطيعون له دفعاً، ويتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، ولا يعترف بقانون أو دستور في البلاد، بل تصبح إرادته هي القانون، ويضع قدمه في أفواه الناس، وما عليهم سوى السمع والطاعة، يسخر كل موارد البلاد لإشباع رغباته وملذاته ومتعه وخيالاته وجنونه، لا يخضع للمحاسبة أو الرقابة أو المساءلة، وهكذا يقترب الطاغية من التأله. مثل هذه الشخصية البهيمية، أو ذلك الحيوان المفترس لن يستعين إلا برفقاء السوء وبطانة العفن النفسي من المنافقين الذين هم على استعداد لخدمته في كل ما يطلب ويرى، والمنتفعون إنما يدافعون عنه لإغداقه عليهم بسخاء كبير، ولما ينهبون من أموال الشعب التي ليس عليها رقيب ولا حسيب، ومع هذا فليس للطاغية من صديق، فهو لا يمانع من الغدر بالأصدقاء أو المعاونين إذا ما اشتبه في أحدهم، أو وشى إليه به، كما أن الملتفين حوله لا يمانعون من ركله بأقدامهم إذا وجدوا بديلاً أفضل بالنسبة لهم. ولهذا فالطاغية في الحقيقة يعيش هو وشعبه في محنة شديدة وظلام دامس يعود بالخراب على الأمة، ففي عهده يكثر المرجفون وتُحاك الدسائس والمؤامرات والأزمات ولا تنفض، وتقتل الحريات، وتسود الأجواء البوليسية والمخابراتية وتكثر العيون، ومع هذا يعيش في شك وريبة رغم الحراسات وكثرة الجنود، كما أن من المعروف أن الطاغية لا قيم عنده ولا خُلق له ولا وفاء بوعد أو حفاظ لعهد، يكره المصلحين والشرفاء والناصحين، ويقضي عليهم، ويقتل المفكرين والشجعان والمخلصين، أو يتخلص منهم بالتشريد أو السجن، أو الاتهام والمقاضاة، أو باستعمال العصى والجزرة. هؤلاء الطغاة ألا يستحقون أن يُطاردوا كما تُطارد الذئاب الكاسرة، والكلاب المسعورة والزواحف السامة؟! ألا يحق للإنسانية المعذبة المستباحة أن تستريح من سطوة هذه الوحوش الضالة؟! إن السجون المفعمة بالمظلومين تنادي كل صاحب ضمير، ودماء الضحايا تهيب بكل دعاة الخير، وبقايا التطهير العِرقي تناشد إصرار الشعوب، ورفات المقابر الجماعية تتشبث بأعناق الشعوب الساهية تطالبهم بالثأر ودق أعناق الظالمين ومطاردة المتوحشين، الذين فعلوا بها الأفاعيل، والتخلف الذي ساد ساحات الطغاة مخلفاً بطوناً خاوية، وأجساداً هزيلة، وعيوناً زائغة وخراباً ويباباً هنا وهناك ليتطلع إلى الخلاص والفكاك من براثن الوحوش المفترسة، وأظافر وأنياب الذئاب المسعورة، التي حلت في ديارها وامتصت دماءها، وأكلت لحومها. أَلا فقد آن للبشرية أن تصحو، وآن للذئاب أن تُسحق وتموت، وقد بدت تباشير هذا الزوال وهذه المطاردة من فترة، فاستلمت الشعوب الثائرة الطاغية "شاوشسكو" ومزقته إرباً، وسُلِّم "ميلوسوفيتش" إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، وأقيمت دعوى ضد "شارون" صاحب صبرا وشاتيلا، ومازال الكثير ينتظر دوره خصوصاً في العالم الثالث، فأين بن علي والقذافي ومبارك ومن ورائهم الأسد وغيره ينتظرون الدور الحتمي المرصود. ولئن كان بعض هؤلاء محميًّا بقوى أجنبية فإنَّ الأيام قلب، وصداقة المنفعة والعمالة والظلم لن تدوم، ولئن كان تسليم حاكم يوغسلافيا السابق الذي فعل الأفاعيل في البوسنة والهرسك وفي كوسوفا مطلباً غريباً، فهو بلا شك رغبة من أحرار بلده، وحكومة شعبه، حتى مات في محبسه وهذه لها دلالتها، ولاشك أنه مازال في الشعوب من يدافع عن الظلم لأسباب كثيرة اليوم ترجع كلها إلى مرض المزاج العنصري، وعادة الكرامة الكاذبة والدعايات المضللة، وهي بلا ريب إلى تناقص ثم إلى زوال، وكل ذلك له مؤشراته التي لابد أن تنبه الذئاب والمتوحشين في بلادهم إلى مصيرهم المحتوم. ولن ينفعهم شغل الناس بمشاكل وهمية وقوانين استثنائية ووأد الحرية، ولن يجديهم أبداً أو يفلتهم من براثن الشعوب وأنياب المظلومين حماية أو عمالة، بل لابد أن يتنفس الناس الصُّعداء، وأن يتغلبوا على تلك الوصمة وأعني بها: التخلف وغياب الوعي. وقد يكون من سوء الطالع لهؤلاء اليوم: تعدد الجهات الطالبة، أولها الشعوب، وثانيها حلفاء الأمس، وثالثها: محاكم تقام لذلك، ورابعها: فضائح هذه الأنظمة وكشف عوراتها، وخامسها: إيمان الناس بالشورى والديمقراطية، فهل يفهم هذا الطغاة الأغبياء؟ هذا وقد جاء الطوفان الغامر الذي لا دافع له إن شاء الله ولا راد له بعون الله وتوفيقه ... نسأل الله ذلك، آمين.