من أمريكا إلى فرنسا وبينهما بريطانيا وفي السر إسرائيل، زيارات مكوكية تبحث عن الشرعية التي يلهث خلفها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، بعدما قام بانقلاب داخل الأسرة الحاكمة أطاح خلاله بأمراء من ذوي الأرحام، وسجن والدته وشقيقته، واعتقل وعذب عشرات الأمراء في فندق ريتز كارلتون بالرياض، وقتل بعض المسئولين وتخلص من عبئهم واعتقالهم وتعذيبهم، واغتال أمراء وهم في طائراتهم يحلقون بالجو، ودمر شعبا بأكمله في اليمن، وخان ثورة في سوريا، وأتم صفقة شراء الشرعية ببيع القدس وفلسطين للصهاينة مقلدا وعد بلفور!. وعندما زار محمد بن سلمان بريطانيا في بداية شهر مارس الماضي، كانت في استقباله مظاهرات شعبية غير مسبوقة تُطالبه بوقف الحرب على اليمن واعتبرته مجرم حرب، ورغم ذلك أبرمت رئيسة الوزراء تيريزا ماي معه اتفاقيات ناهزت المائة مليار دولار. مُجمل التحليلات السياسية اعتبرت أن زيارة "بن سلمان" أنتجت صفقات لمصلحة بريطانيا ليس فقط مادية، بل سياسية أيضا لإعطاء بريطانيا دفعة معنوية في مفاوضات الخروج من الاتحاد، وأن "بن سلمان" بدوره اشترى بموجب هذه الصفقات رضا التاج البريطاني عليه في طريقه إلى التاج السعودي. وزيارة "بن سلمان" إلى الولاياتالمتحدة، أواخر مارس الماضي، جاءت لاستكمال عقد الصفقات، وجاء التصريح الصادم من الرئيس ترامب بعد أيام من انتهاء زيارة بن سلمان: "أنه حان الوقت لانسحاب القوات الأمريكية من سوريا"، تراجع بعدها ترامب وأعلن بقاء قواته في سوريا لفترة أطول، لكن المُلفت في تصريحه قوله: "المملكة العربية السعودية مهتمة جداً بقرارنا، وقلت لهم حسناً، إذا أردتم أن نبقى فيتعين عليكم أن تدفعوا"! بقرة حلوب هكذا وبكل بساطة يتعاطى ترامب مع السعودية، منذ أعلن خلال حملته الانتخابية أنها البقرة الحلوب التي تدرّ ذهبا، ويجب حلبها حتى يجفّ ضرعها، وعملية الابتزاز مستمرة، وإذا كان محمد بن سلمان قد "جنى" 107 مليارات دولار كشرطٍ لتحرير الأمراء الذين اعتقلهم، فإن شراء العرش عبر استرضاء بريطانياوأمريكا وحتى فرنسا يُكلِّفه وسوف يُكلِّفه مئات المليارات من الصفقات والرشاوى. السيسي على الطريق وعلى شاكلة "بن سلمان" ولكن بشكل مختلف، يحاول السفيه السيسي، الذي جاء إلى الحكم عبر برك من الدماء في انقلاب 30 يونيو، ومن مجزرة رابعة إلى مجازر سيناء وما حولها، الحصول على الشرعية الخارجية الدولية والإقليمية، وسواء كان السفيه السيسي أو محمد بن سلمان، فكلاهما ليس بحاجة إلى الداخل كي يضفي شرعية على استيلائه على السلطة، فهو يستند على شرعية واشنطن وتل أبيب للتحكم في الداخل وبسط نفوذه على الشعب. يعلم "بن سلمان" كما غيره من حكام المنطقة، أن الذي يملك شرعية الخارج وشرعية الرز والسلاح، لا يمكن أن تقف نخب متناثرة هنا أو هناك أمام رغبته في الملك، والشرعية التقليدية للدولة السعودية هي الشرعية الدينية، فمنذ أن تأسست الدولة الأولى في عام 1744 إثر اتفاق الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والدولة السعودية تسوّغ وجودها واستمرارها بالشرعية الدينية. يحارب الوهابية! لم يعد ممكنًا للأمير محمد بن سلمان أن يستند إلى الشرعية الدينية؛ لأنه في حالة صدام صريح ومباشر معها، ويسعى بكل قوة للتخلص من استحقاقاتها، كما أنه لا يمكن التعويل على الشرعية الثورية؛ لأنَّ ولي العهد السعودي لم يأتِ عبر ثورة، وكذلك لا يمكن التعويل على الشرعية الدستورية؛ لأنه لا دستور أصلاً في المملكة، وكذلك لا يمكن التعويل على الشرعية التاريخية لأن غيره من الأمراء يستطيع أن يشاركه في هذه الشرعية، إذن ما الذي بقي من الشرعيات للأمير المدلل؟". بعد اليخت ولوحة المسيح وال450 مليار دولار التي منحها لترامب وابنته ايفانكا، حاول محمد بن سلمان أن يقتني الشرعية عبر شراء أغلى قصر في العالم قصر الملك لويس الرابع عشر، الواقع في لوفسيان قرب باريس والذي بيع بثلاثمائة مليون دولار، فهل فشل بن سلمان في تسويق فناكيش جبارة برع فيها السفيه السيسي لنيل الشرعية بالداخل؟. في حقيقة الأمر لم يبق من الشرعيات إلا شرعية الفناكيش أو المشاريع الوهمية الجبارة، فهي الشرعية الوحيدة التي يمكن أن يعوّل عليها الأمير محمد بن سلمان في عملية التغيير الراديكالية التي يقوم بها، تمامًا كما حصل مع محمد علي باشا الذي صادم المؤسسة الدينية بكل قوة، مستندًا بذلك إلى شرعية بناء القناطر وتطوير الجيش وغزو الحجاز وطعن الخلافة العثمانية في خاصرتها. وأكبر من ذلك ما فعله أتاتورك في تركيا حينما مزّق الدين الإسلامي نفسه وغيَّر العربية لغة تراث شعبٍ بأكمله، دون أن يحتاج في ذلك كله إلى شرعية دينية أو ثورية أو تاريخية؛ لأنه لا يملك كل ذلك، وإنما كان يستند إلى شرعية منحتها له أوروبا، فهو في عين كثير من الأتراك آنذاك بطلٌ قومي نظرًا لتحريره تركيا من الغزاة اليونانيين!. كانت السعودية عبر تاريخها، دولة زاخرة بقدر مثير للتعجب من التناقضات، ففي وقت قام فيه السعوديون بإعدام "جيهمان العتيبي" مباشرة، فإنهم حولوا منهجه إلى دستور حاكم للبلاد لعدة عقود، وفي حين تزعم المملكة اليوم تحولا ليبراليا يمكن في ظله للمرأة السعودية أن تنعم أخيرا بحق تتمتع به نساء الأرض منذ أزمنة طويلة، فإن ليبراليتها تبقى فريدة من نوعها، وللغرابة فإنها تأتي في سياق عملية تحول صُمّمت لاقتناص أكبر قدر من السلطة وتكديسها في مجموعة يتزعّمها ولي عهد طامح لقلب كل شيء رأسا على عقب، ولإنتاج نظام جديد يبدو برّاقا، لكنه أقل فاعلية وأكثر استبدادا على الأرجح. َ