فى موسم الحج فى السنة الثالثة عشرة من النبوة -يونيو سنة 622م- حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين من أهل يثرب، جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين الخمسمائة، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد فى جبال مكة ويخاف؟ لقد دل ذلك على سير خطة الرسول فى المسار الإستراتيجى الذى رسمه لها بأعلى درجات النجاح والفعالية، لدرجة أنهم هم من جاءوا يعرضون أن يذهب معهم الرسول صلى الله عليه وسلم. لم يضع الرسول صلى الله عليه وسلم وقتا، لقد وضع العواطف جانبا، وأدار الأمر من منطلق العقلانية والموضوعية لتحقيق المصلحة الإستراتيجية للدعوة، فكانت البيعة. لدرجة أنه جاء بزعيم بنى هاشم عمه العباس بن عبد المطلب الذى يتولى مسئولية حمايته من أذى المشركين فى مكة -رغم عدم إسلامه- يشهد ذلك الاتفاق الإستراتيجى المهم. فكان أول من تكلم، ليشرح لهم -بكل صراحة- خطورة المسئولية التى ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عز من قومه ومنعة فى بلده. وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه. فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخلاص كامل فى تحمل هذه المسئولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة. وروى الإمام أحمد عن جابر مفصلا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة فى النشاط والكسل. وعلى النفقة فى العسر واليسر. وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وعلى أن تقوموا فى الله، لا تأخذكم فى الله لومة لائم. وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة". وحينما ننظر ونتدبر فى بنود هذه البيعة وما أحاط بها، وما ترتب مباشرة عليها من قرارات سنخرج بكثير من الدروس والعبر. أولها أن هذه المرة لم تكتف بما كانت عليها البيعة السابقة والتى عرفت ببيعة النساء، والفارق كان زيادة بنود الجهاد ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحمايته مما يحمون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم وديارهم. فطرح الرسول صلى الله عليه وسلم بنود البيعة ليفهموها ويتدبروها، ويناقشوها ويستفسروا عن أى شىء يغمض عليهم، ولذلك وقبل أن يبسطوا أيديهم للمبايعة، اعترض أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها -يعنى اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. فخطوط الاتصال والتواصل بين الطرفين كانت تسير بشكل متوازٍ وواضح، تمام الوضوح، وبذلك تم إزالة أى غموض ولو محتمل فى بنود البيعة أو حتى ما يمكن أن يترتب عليها من مغارم ولمسئولية كل طرف تجاه الآخر، ليصبح كل طرف على بينة من أمره. وبذلك تتوافر كافة متطلبات نجاح اتخاذ أخطر قرار إستراتيجى فى تاريخ الدعوة، وهو الهجرة من مكة إلى المدينة. وفى حضور العباس عمه دلالة كبيرة على أهمية هذه البيعة، وعلى ما سوف يترتب عليها، وعلى أن الأمر جد خطير، لا مكان فيه للعواطف والتخمينات، ولكن تسير الأمور فى ضوء بنود اتفاق واضح ومحدد، يشهده طرف ثالث، يتوافق حضوره مع طبيعة المهمة الجديدة التى سيقوم بها عنه هؤلاء المبايعون، وكأنه يقوم بعملية تسليم وتسلم. وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الشروع فى عقدها قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا فى مواسم سنتى 11 و12 من النبوة، قام أحدهما تلو الآخر؛ ليؤكدا للقوم خطورة المسئولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية، ويتأكدا من ذلك. حيث قال أحدهما وهو العباس بن عبادة بن نَضْلَة: هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهَكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وقال أسعد بن زرارة مثل مقالته تقريبا. وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة، قال جابر -بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة-: فقالوا: يا أسعد، أمِطْ عنا يدك. فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها. وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية فى هذا السبيل وتأكد منه -وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير- فكان هو السابق إلى هذه البيعة. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده. وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر: فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة. وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولًا. ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط. وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختاروا اثنى عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسئولية عنهم فى تنفيذ بنود هذه البيعة، فقال للقوم: أخرجوا إلىّ منكم اثنى عشر نقيبا. ليكون أول قرار إدارى تنظيمى مهم يدل على عبقرية إدارية تنظيمية فطرية عظيمة، ألا وهى إيجاد صف قيادى وسيط ليمثل هذا العدد الضخم، مع من يمكن أن ينضم إليهم من باقى مسلمى يثرب. وفى ذلك دلالات كثيرة أهمها ضرورة مراعاة ما يمكن تسميته بنطاق الإشراف الفعال (1 : 5) وهو عدد معقول ومقبول جدا فى ضوء الفكر الإدارى الحديث. لقد تم ذلك بالانتخاب وليس بالتعيين، فالقوم هم الأكثر دراية ومعرفة بمن هم أهل لتمثيلهم، وفى ذلك مرونة عالية للاختيار وإقرار لمبدأ الانتخاب فى الإسلام من حيث المبدأ. إن الدروس الإدارية التى يمكن استخلاصها من تلك البيعة التى تمت بهذا الشكل المتقن بتلك البنود الدقيقة المؤسسة لأخطر قرار إستراتيجى تحويلى فى تاريخ الدعوة، تحتاج إلى مزيد من الوقفات، لكن يكفينا القول إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا للصدف والاحتمالات والتخمين، لكنه استوفى كل ما يجب عليه كقائد إدارى إستراتيجى عظيم.