مع وصول الدعوة فى مكة إلى السنة العاشرة، كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بذل مجهودا جبارا مع قريش وما حولها، ومن يأتى إلى مكة يدعوهم إلى الدين الجديد. ولقد استجاب له بالفعل نفر غير قليل من الشباب الذين ينتمون تقريبا لكل بطون قريش، سواء أكثرها شرفا ومكانة أو أقلها، حتى العبيد. لكن أدرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- برؤيته الإستراتيجية أن احتمالات الاستجابة للدخول فى الدين الجديد قد بدأت تقل جدا، خاصة بعد تزايد لجوء قريش لكافة وسائل الاضطهاد والتعذيب، والتضييق على أتباعه، الذى ازدادت حدته تصاعدا بعد وفاة عمه أبى طالب وزوجه خديجة رضى الله عنها، لدرجة أنه طاله -صلى الله عليه وسلم- شخصيا أنواع من الأذى الجسدى المباشر لم يكن يتعرض لها من قبل. بل إن وطأة التعذيب قد جعلت البعض يتعرض لفتنة شديدة ليتراجع عن دينه، والبعض الآخر قد قتل، والغالبية لم يجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم مفرا إلا الهجرة إلى الحبشة حفاظا على دينهم وأنفسهم وعرضهم. حينئذ بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن بدائل إستراتيجية جديدة غير مكة، فذهب إلى الطائف لدعوة أهلها ولكنهم كانوا أشد وطأة وتنكرا من قريش، وكان ذلك فى أعقاب وفاة عمه وزوجه مباشرة السنة العاشرة. إن التحليل الإستراتيجى لكل من الوضع الخارجى المحيط بالمسلمين والداخلى قد أسفر عن نتيجة واحدة مؤداها أن البديل الإستراتيجى الأوحد فى ظل هذا التهديد الشديد، والضعف الكبير، هو الهجرة لمكان جديد لكن بتوجه مختلف عن هجرة الحبشة، فالهجرة هذه المرة هى وسيلة لنشر الدعوة والانطلاق بها لآفاق جديدة. ولعلنا نتعلم الكثير من هذا الدرس، ومما وجه به القرآن كل صاحب حق مستضعف كما جاء فى قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا)) (النساء: 9). فالمسلم عليه أن يكون دائم البحث عن أفضل الوسائل التى تحقق هدفه ولا يحصر نفسه فى صندوق مغلق، ولا يستسلم لأى تهديد مهما كان. لقد بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركز على الوفود القادمة إلى مكة، خاصة فى موسم الحج حتى استجاب له فى السنة العاشرة بضعة شباب من يثرب، وعادوا إلى قومهم يخبرونهم بخبره، ومن حسن الحظ أن الوضع فى يثرب كان أكثر تهيئا، خاصة أن اليهود قد ساعدوا بطريق غير مباشر فى ذلك من خلال ما كانوا يرددونه من حين لآخر على مسامع أهل يثرب من أن زمان بنى آخر الزمان قد أوشك على الظهور، وأنهم سوف يسبقونهم إليه ويقتلونهم به قتل عاد وإرم، فجعلهم يستحيطون تلك التحديات ويقولون لأنفسهم لماذا؟ ألا نكون نحن أول من يتبعه وزاد فى تهيئة المناخ لقبول دعوته واستقباله ما دار بين الأوس والخزرج أكبر قبائل يثرب من حروب أخيرة طاحنة كان اليهود يؤجلونها، وكان القوم فى حاجة نفسية ماسة إلى من يعيد توحيد صفوفهم ويحقن دماءهم ويؤلف بين قلوبهم على قيم جديدة مختلفة عن قيم الجاهلية وحميتها البغيضة. ولاقت الدعوة فى يثرب قبولا واضحا لدرجة أنهم عادوا فى السنة التالية أكثر عددا واقتناعا بالدعوة وحرصا على اتباعها وإصرارا على نصرة رسولها. لم يكن هدف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه المرة مجرد دعوة بضعة نفر إلى اعتناق الإسلام، وإنما كان بالأحرى الإعداد لإستراتيجية جديدة تماما يتوافر لها كافة متطلبات إدارة الإستراتيجية بأفضل ما يكون. ولذلك سوف نلاحظ أنه وللمرة الأولى بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتعمد مقابلة أول وفد يمثل مسلمى يثرب فى موسم حج السنة 12ه، وكانوا اثنى عشر رجلا فى سرية تامة، بعيدا عن أعين كل من قريش وقيادات يثرب؛ حيث بدأ يظهر شىء جديد لم يكن معهودا من قبل وهو ما عرف بالبيعة. حيث كانت بيعة العقبة الأولى، التى عرفت ببيعة النساء؛ حيث لم يتم النص فيها على الجهاد، وإنما ركزت حسب بنود البيعة على ترسيخ معانى الإسلام والإيمان وقيمه فى قلوبهم وسلوكهم. وتم إرسال مصعب بن عمير معهم هذه المرة ليكون بمنزلة معلم وداعية يمثل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وينشر قيم الدين الجديد فى كافة ربوع يثرب بما لديه من سابق صحبة لرسول الله وخبرة وفهم عميق بالإسلام ومن الدعوة إليه بل كان من أوائل من هاجروا إلى الحبشة، وكان شابا يافعا قوى المنطق والحجة ومن أشرف بطون قريش وأكثرها تنعما ورفاهية، ثم تحول إلى شدة الزهد وجعل نفسه فى خدمة الرسول والدعوة، يضع نفسه حيثما يوجهه القائد -صلى الله عليه وسلم. لقد ساعد إرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمصعب والوفد الذى رجع ليكون كل فرد فيه بمنزلة داعية للإسلام، على تهيئة بيئة المدينة لتكون بمنزلة محضن مناسب وداعم لحمل دعوة الإسلام، وليس مجرد مستقبل للدين الجديد، ولذلك رجع مصعب فى العام التالى بعد أن حقق نجاحات باهرة، فلم يترك الإسلام بيتا إلا دخله تقريبا، لقد عاد مصعب رضى الله عنه بعدد يبلغ ما يزيد على ستة أضعاف من بايعوا فى البيعة الأولى؛ حيث بلغوا 72 رجلا وامرأتين، وهم ليسوا كل من أسلم، ولكن هم من تصادف مجيئهم للحج فى هذا الموسم من أهل يثرب، وكممثلين لهم. لقد كانوا من الحماس والاقتناع لدرجة جعلتهم على استعداد كامل لدعم الرسول كقائد لهم بكل ما يأمر به حتى لو أمرهم أن يميلوا على كل من فى منى بسيوفهم، لكن كان هدف الرسول -صلى الله عليه وسلم- واضحا ومحددا بشكل قاطع وواضح، وهو إنما يمهد لنقل مركز انطلاق الدعوة إلى المكان الجديد الأكثر مناسبة وهو يثرب، وأن يضمن لذلك كافة متطلبات النجاح، قبل أن ينتقل إليه هو أو أحد من أصحابه.