جاءت هجرة الرسول الكريم إلي المدينةالمنورة لتشكل علامة فارقة في تاريخ الدعوة الي الإسلام, حيث مثلت الهجرة إعلان تأسيس دولة الإسلام, في المدينة الفاضلة يثرب, وإقامة مجتمع جديد غير مسبوق في تاريخ الإنسانية, قائم علي مبادئ وأخلاقيات ومثل الإسلام. تلك الأخلاقيات التي تجسدت في محمد صلي الله عليه وسلم, وفي صحابته, مهاجرين وأنصارا, الذين تربوا علي يديه. ماقبل الهجرة لم تكن الهجرة حدثا مفاجئا, بل كانت نتيجة طبيعية لمقدمات سبقتها بسنوات ثلاث, بدأت في العام العاشر من البعثة, عام الحزن, حيث توفي عم الرسول أبو طالب, وقد كان حصنا منيعا حمي الرسول والدعوة من هجمات كبراء قريش ومتجبريها, ثم بعده بأيام ثلاثة توفيت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد, أول المؤمنين, زوج الرسول ورفيقته وحبيبته وأم أولاده, وقد كانت من نعم الله عل الرسول تؤازره وتسانده وتواسيه بنفسها ومالها. توفي أبو طالب فاشتد إيذاء المشركين للرسول وصحبه, وجاهروه بالعداوة, وأغروا به سفهاءهم يحثون علي رأسه الشريف التراب, ويلقون عليه أحشاء البعير وهو ساجد, فما يزيده إلا إيمانا ويقينا بربه, واشتد الأذي بالمسلمين ولكنهم صبروا, إيمانا بالله, واقتداء برسوله, وإحساسا بعظم المسئولية تجاه الإسلام. بدأ الرسول يدعو العرب خارج مكة, فاتجه إلي الطائف, فصدوه وطردوه, وانتهز الرسول فرصة موسم الحج ليدعو القبائل والأفراد الحجيج إلي دين الله القويم, فلم يقبل منه إلا أفراد قلائل أراد الله بهم الخير. أهل يثرب في العام التالي, الحادي عشر من البعثة, التقي الرسول وفدا من أهل يثرب جاءوا إلي مكة حجيجا, كانوا ستة من الخزرج, فعرض عليهم الإسلام, فآمنوا, وعادوا إلي قومهم دعاة إلي الإسلام. وفي الموسم التالي(12 من البعثة جاء خمسة من هؤلاء الستة مع سبعة من أهليهم, إلي مكة والتقوا الرسول الكريم, في مني, عند العقبة, فبايعوه في بيعة العقبة الأولي وعادوا إلي أهليهم ومعهم أول سفير للإسلام, صعب بن عمير, ليعلم المسلمين منهم شرائع الإسلام, ويدعو غير المسلمين, وقد كانت رحلة مصعب موفقة ناجحة, وأسلم علي يديه أعداد غفيرة من أهل يثرب. بيعة العقبة الكبري إنها اللبنة الأولي في مسيرة الهجرة المباركة, جاءت نصرا وفتحا عظيما للإسلام, ففيها بايع الأنصار الرسول الكريم علي أن ينصروه إذا قدم إليهم, ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم. في العام ال13 من البعثة, وفي موسم الحج, جاء وفد الأنصار معبرا من حيث العدد عن حجم الإسلام ومكانته التي يتبوؤها في يثرب, جاء73 رجلا وامرأتان, ليبايعوا الرسول, ويدعوه إلي التحول إلي ديارهم, التقوا الرسول في ثاني أيام التشريق عند العقبة بمني, في سرية خوفا من أعين المشركين, وبايعوا علي حمايته ونصره, وهم يدركون أن ذلك يعني حرب العرب جميعا, وما يتبعه ذلك من خسارة في الأنفس والأموال. ويمكرون ويمكر الله كان الحجيج, ومنهم الأنصار, قد عادوا إلي ديارهم, عندما علم كفار قريش بما دار في البيعة, وباستعداد الرسول للخروج إلي يثرب, وهو أمر لايستطيعون غض الطرف عنه, فهذا الخروج يهدد اقتصادهم القائم علي التجارة في الشام واليمن,( رحلتا الشتاء والصيف), ويثرب علي طريق قوافلهم إلي الشام, فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون. اجتمع كفار قريش وكبراؤها, يبحثون أمر محمد واحتمال هجرته إلي المدينة, فمن قائل بطرده من مكة, ليذهب حيث يشاء, ومن مقترح بحبسه في الحديد حتي يدركه الموت, ولكن هذا وذلك ليسا بالرأي, فهم يخشون هجرته وتكوين دولة خارج مكة تنازعهم نفوذهم الديني الاقتصادي, وحبسه أمر غير مأمون, فماذا يمنع عشيرته والمؤمنين به من أن يحرروه ويطلقوه, واستقر رأيهم علي اقتراح أبي جهل عليه لعنه الله , إذ قال: أري أن نأخذ من كل قبيلة فتي شابا, ثم نعطيه سيفا صارما, فيضربوا محمدا ضربة رجل واحد, فيقتلوه, ويتفرق دمه في القبائل. اتفقوا علي قتل الرسول الكريم, وتعاهدوا علي السرية والكتمان, وانصرفوا يجهزون شبابهم وسيوفهم, ولكن الله من فوق سبع سماوات مطلع عليهم, يمكر بهم وهو خير الماكرين.