الله عز وجل هو المحبوب الأعظم الذى ينبغى أن يحبَّه المسلم، وأن يهيمن هذا الحب على قلبه ومشاعره، بل إن المنطلقَ الأساسى لحبِّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو حب الله؛ فحب الرسول- صلى الله عليه وسلم- واتِّباعه هو الترجمة العملية لحبه سبحانه ﴿قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 31)، وعلى المحبِّ الصادقِ فى حبِّه لله- عزَّ وجل- أن يحبَّ ما يحبه ربُّه ويبغضَ ما يبغضُه، قال- صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عُرى الإيمان الموالاة فى الله والمعاداة فى الله، والحب فى الله والبغض فى الله" (رواه الطبرانى فى المعجم الكبير)، فيُحب أى إنسان بقدرِ ما يوجد به من صفات يحبها الله، ومِن ثمَّ فهو يحب المسلم الملتزم بأوامر ربه أكثر من المقصِّر فى جنبه، ويحب أهل الجهاد السائرين فى الطريق الصحيح لتبليغ دعوة ربهم وإعلاء كلمته والتمكين لدينه أكثر من غيرهم من القاعدين... لماذا حسن البنا؟! قفزت إلى الذهن هذه المعانى عندما تساءلت بينى وبين نفسى عن السبب الذى دفعنا ودفع الكثيرين لحب الإمام الشهيد حسن البنا! إنه رجل قد قضى نحبه منذ عشرات السنين، ولم تكتحل أعينُنا برؤيته، ولم نتعامل معه عن قربٍ، فلماذا -إذن- يحبه ويسير على نهجه ويتبنَّى أفكارَه هذا الكمُّ الهائلُ من الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم؟! لماذا تتمسك بمنهجه رغم مرور قرابة الستين عامًا على وفاته هذه الأصناف المختلفة، من علماء دين أفذاذ، ومن حَمَلة الدكتوراه والماجستير فى شتى التخصصات، ومِن عامة الشعب.. رجالًا ونساءً.. شبابًا وشيوخًا.. عربًا وعجمًا؟ وكيف استطاعت دعوتُه أن تصل لأكثر من سبعين دولةً على مستوى العالم، رغم التضييقات والملاحقات التى يتعرَّض لها أبناء تلك الدعوة؟! أمر محيِّر! لو كانت هناك مغانمُ ماديةٌ يتحصَّل عليها الفردُ نظيرَ التحاقِه بركْبِ جماعة حسن البنا -الإخوان المسلمين- لقلنا إن السبب وراء ذلك هو المصالح الشخصية، والمنفعة الذاتية، ولكن الواقع يخبرنا بأن العكس هو الصحيح، فكل مَن يسير فى ركب هذه الجماعة فإنه مطالَبٌ بالتضحية من وقته وماله وراحته دون مقابل دنيوى. إنه أمرٌ محيِّر بالفعل لو نظرنا إليه بحسابات البشر!! رجل فقير يموت وهو فى الثالثة والأربعين من عمره، فى وقتٍ كانت وسائل الإعلام محدودة التأثير، ومع ذلك تستمر دعوته إلى الآن، بل هى فى صعودٍ دائمٍ، وتنامٍ مستمرٍّ، على الرغم من محاربة الحكومات لها، ومحاولة طمس وتشويه صورتها وصورته واسمها واسمه فى شتى المناسبات والمحافل. نعم.. إن حسابات البشر المادية تقف عاجزةً عن تفسير ظاهرة حسن البنا، أما المؤمنون فيرون فيها مظهرًا من مظاهر رضا الله وحبه لهذا الرجل، ولا نزكى على الله أحدًا.. ألم يقل- صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادى جبريل فى أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول فى الأرض" (رواه البخارى). هذا من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى فإن حبَّنا وحب الكثير من المسلمين لحسن البنا- حبًّا فى الله عز وجل- له العديدُ من الأسباب، لعلَّ مِن أبرزِها تجديده وإبرازه للفهم الصحيح للدين، وقيامه- بعون الله- بتنشئة جيل جديد يتمثل فيه هذا الفهم الصحيح للدين، وجهاده العظيم من أجل الإسلام والذى تُوِّج باستشهاده- رحمه الله- وإليك أخى القارئ بعض التفصيل حول هذه الأسباب الثلاثة. الفهم الصحيح عاش المسلمون فى القرون الأخيرة وهم يتخبَّطون فى الجهل والظلام، وانزوى مفهوم الإسلام فى أذهانهم ليصبح- فى الغالب- قاصرًا على الشعائر التعبدية، وانحصر مكانه الفعلى ليصبح فى المسجد فقط، ومِن ثمَّ فلم يعُد له مكانٌ فى توجيه الحياة، واستقت الأمة من الحضارات المختلفة- وخاصةً الغربية- النظم التى تُسيِّر بها حياتها، من سياسة واقتصاد وثقافة وقانون.. ولقد أدى انزواءُ الإسلام فى هذا المفهوم الضيِّق إلى ضياعِ هوية الأمة، وفقدانِها لمصدر عزتها، وافتقادِها لمعالم المشروع الحضارى لنهضتها وقيامها بدورها الرائد فى الشهادة على الناس. ووسط هذا الظلام ألهم الله عز وجل الشابَّ حسن البنا بعد دراساتٍ طويلةٍ قام بها، واحتكاكٍ بالعلماء المُصلِحين، وحرصٍ وحرقةٍ على الدين، وحزنٍ شديدٍ على ما آلت إليه أوضاع المسلمين.. ألهمه ووفقه لنفض الغبار عما علق بمفهوم الإسلام فى الأذهان، وإبراز صورته الناصعة الشاملة المتكاملة والتى تفى بكل حاجات الفرد والمجتمع، وتتعامل مع الحياة بكل صورها على أنها الموجهة والقائدة لها. فلا يمكن أن ينصلح حال الأمة إلا إذا صلح تَصوُّرُها عن دينها أولًا، وأنه منهجٌ متكاملٌ للحياة، لذلك نجد حسن البنا- رحمه الله- يركِّز فى كتاباته وخطبه ودروسه على معنى شمول الإسلام.. تأمل معى ما قاله فى إحدى مؤتمرات الدعوة (المؤتمر الخامس): "نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملةٌ، تنتظم شئون الناس فى الدنيا وفى الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحى مخطئون فى هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعقل، ومصحف وسيف". الدين والسياسة وفى مؤتمرٍ آخر (مؤتمر طلاب الإخوان) نراه يُزيل الغبارَ عن مفهوم علاقة الدين بالسياسة، والتى لا يزال البعض إلى الآن يرى أن الدين ينبغى أن يبتعد عن السياسة، فيقول- رحمه الله-: "قلما تجد إنسانًا يتحدث عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلًا، ويضع كلَّ واحدٍ من المعنيَيْن فى جانب، فهُما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومِن هنا سميت هذه جمعيةً إسلاميةً لا سياسيةً، وذلك اجتماع دينى لا سياسةَ فيه، ورأيت فى صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومنهاجها (لا تتعرض للشئون السياسية).. فحدثونى بربكم أيها الإخوان: إذا كان الإسلام شيئًا غير السياسة وغير الاجتماع وغير الاقتصاد وغير الثقافة.. فما هو إذن؟! أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر؟! ألهذا أيها الإخوان نزل القرآن نظامًا كاملًا محكمًا مفصلًا ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: من الآية 89)" (انتهى كلامه رحمه الله). انتصار الفكرة لقد كانت فكرة "الإسلام دين ودولة" غير مقبولة عند عموم الناس بصفة عامة، وعند الطبقة المثقفة بصفة خاصة، ولكن بعد جهادِ هذا الرجل المبارك وأتباعه مِن بعده انتصَرَت الفكرة إلى حدٍّ كبيرٍ، وأصبحت أطروحة (الإسلام هو الحل) لها أرضيةٌ واسعةٌ فى الواقع، ولم تعُد مقولةُ "الإسلام دين ودولة" مستغربةً حتى عند الحكام، وتبنَّى الكثيرُ من الدعاةِ من خارج الإخوان مفهومَ شمول الإسلام بمعناه الحقيقى. التربية على شمول الإسلام تأمل معى ما قاله لإخوانه فى رسالة (بين الأمس واليوم): "إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء.. كل ذلك لا يُجدى نفعًا ولا يحقق غايةً، ولا يصل بالداعين إلى هدفٍ من الأهداف، ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها، والوسائل العامة للدعوات لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، ولا تعدو هذه الأمور الثلاث: 1- الإيمان العميق. 2- التكوين الدقيق. 3- العمل المتواصل". استشهاد حسن البنا تحرَّك حسن البنا- رحمه الله- بالدعوة فى كل مكان، وجابَ مدنَ مصر وقراها، لدرجة أنه قد زارَ قرابة ثلاثة آلاف قرية، وامتدَّت الدعوة خارج القطر المصرى، ولم ينسَ فى خِضَمّ نشرِه لهذه الدعوة المباركة هدفَه الأساسى فى تربية جيل جديد، واستمر على ذلك منذ عام 1928 وحتى آخر لحظة فى حياته، والتى انتهت بشكلٍ عجيبٍ يخدم الدعوة ويثبِّت أركانَها بفضل الله، فبعد أن ظهرت ثمارُ دعوته- متمثلةً فى جيلٍ من الشباب الواعى الذى يؤْثِر الناحيةَ العمليةَ على الناحية النظرية، والذى يسعى إلى التضحية فى سبيل الله بكل ما يملك، وظهر ذلك جليًّا فى أحداث حرب فلسطين عام 1948م وما كشفت عنه مِن بطولاتٍ عظيمة لشباب الإخوان- التقَت كلمةُ الغرب مع كلمة القصر على ضرورة التخلُّص من حسن البنا، الذى أصبح وجودُه خطرًا يهدِّد عروشَهم، ونجَحَت المؤامرة، وكان لحسن البنا ما تمنى مِن أن يلقَى الله شهيدًا فى سبيل نصرة دينه؛ ليروى بدمائه شجرة الدعوة، وتكون وفاته سببًا جديدًا فى حبِّنا له فى الله عز وجل.