ليست هناك قضية فى الوجود أعدل من القضية التى يتولاها، فعنده من الأدلة الصادقة والقرائن الواضحة والبراهين الساطعة ما يضمن له إقناع الجميع وإفحام خصومه والخروج فائزا، وهو فوق ذلك عنده من الثقة بنفسه وبمعلوماته وبمواهبه البلاغية والخطابية والتعبيرية ما يمكنه -نظريًّا- من النجاح فى مهمته والقيام بها خير قيام، ولكنه مع امتلاك ذلك كله دائمًا ما يخرج خاسرًا مشيعًا بنظرات التشفى من خصومه، وعبارات الشماتة من أعدائه، وكلمات اللوم من موكليه ومناصريه، مع دهشته الشديدة وشعوره بالإحباط، وإعلانه التبرؤ من تحمل أية مسئولية عن تلك الخسارة، وإلقائه التبعة على هؤلاء الذين لم يستطيعوا فهمه أو تعمدوا -فى ظنه- عدم الاقتناع بمرافعته، وجعلوا أصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا!. لقد امتلك هذا المحامى "الفاشل" كل ما يمكِّنه من الفوز بقضيته، لكنه غفل عن شىء واحد، وهو أنه خاطب الناس بما يفهمه هو، وبما يقنعه هو، وبما يؤثر فيه هو، لا بما يفهمونه ويقنعهم ويؤثر فيهم، لذا فشل فى مهمته. إن هذا حال كثير منا، ممن يتصدون للدفاع عن قضاياهم العادلة، فيعتمدون لغة لا يفهمها الناس ومنطقًا لا يستوعبونه، فتكون النتيجة جلب الأحكام الظالمة عليهم وعلى قضيتهم، أو على الأقل مد أجل نظر القضية، وتأخير الإنجاز، وتضييع الكثير من الأوقات والجهود. وفى هذا يقول الإمام البنا -رحمه الله-: "قد تتحدث إلى كثير من الناس فى موضوعات مختلفة، فتعتقد أنك قد أوضحتَ كل الإيضاح وأبنتَ كل الإبانة، وأنك لم تدَع سبيلا للكشف عما فى نفسك إلا سلكتها، حتى تركتَ من تحدثهم على المحجة البيضاء، وجعلتَ لهم ما تريد بحديثك من الحقائق كفلق الصبح أو كالشمس فى رابعة النهار كما يقولون، وما أشد دهشتك بعد قليل حين ينكشف لك أن القوم لم يفهموا عنك ولم يدركوا قولك! رأيتُ ذلك مرات ولمسته من عدة مواقف، وأعتقد أن السر فيه لا يعدو أحد أمرين: إما أن الذى يقيس به كل منا وما يسمع به مختلف، فيختلف تبعا لذلك الفهم والإدراك, وإما أن يكون القول فى ذاته ملتبسا غامضا وإن اعتقد قائله أنه واضح مكشوف". ولذا حرص القرآن الكريم وكذلك السنة النبوية المطهرة على أن يحدثا الناس بما يعرفون ويفهمون، وأن يضربا لهم الأمثال من واقع حياتهم وبيئتهم، وأن ينتقوا من الكلام ما يعزف على أوتار مشاعرهم فيصل إلى قلوبهم، فما كانت البلاغة وحدها وقوة الحجة والبرهان كافيتين للإقناع وإحداث التغيير. نحتاج ممن ينصب نفسه محاميا عن قضايانا العادلة أن يخاطب القلوب مع العقول، وأن يلمس حاجات الناس الحقيقية التى يحددونها هم، لا ما يظنه هو، وأن يحرر المصطلحات التى يستخدمها لتتوافق مع فهمهم، وبذلك يصبح حواره معهم على "الموجة" نفسها، فيحسن استقبالهم لما يقول، ويصل إليهم نقيًّا واضحًا دون تشويش أو تشويه. أما ادعاء المظلومية والركون إلى شماعة المؤامرة فتلك حجج الفاشلين، كذلك التلميذ الراسب الذى يعتقد أنه كان بوسعه أن يكون الأول على صفه لولا وجود الآخرين! فقط لحظات من التفكير، وقليل من الجهد، يوفران علينا وعلى قضيتنا "العادلة" الكثير والكثير.