)إنَّ الله لَيَزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، قاعدة ذهبية نطق بها الخليقة الراشد عثمان بن عفان -رضى الله عنه- وهى تشير بجلاء إلى قوة السلطان وفاعلية السلطات، ووجود السلطان مانع لكثير من المفاسد التى تلحق الضرر بأفراد المجتمع وجماعاتهم، وغيابه أو ضعفه يفسح الطريق لكل من تسوِّل له نفسه الشر أن يفعل ما يشاء، والسلطان هنا يحمل معنى السلطة التنفيذية بكل صورها وتخصصاتها وأدواتها ورجالاتها، ورحم الله الشيخ الجليل "أبو الأعلى المودودى" وهو يتأمل وظيفة الدولة فى الإسلام فيقول: "إنّ الدولة التى يريدها القرآن ليست غايتها سلبية فحسب -أى منع عدوان الناس بعضهم على بعض وحفظ حرية الناس والدفاع عن الدولة، بل الحق أن غايتها إيجابية هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الصالح الذى جاء به كتاب الله، وغايتها النهى عن جميع أنواع المنكرات التى ندد بها الله فى آياته، ففى تحقيق هذا الغرض تستعمل القوة السياسية تارة ويستفاد من منابر الدعوة والتبليغ العام تارة أخرى، وتُستخدم لذلك وسائل التربية والتعليم طورا، ويُستعمل لذلك الرأى العام والنفوذ الاجتماعى طوراً أخراً، كما تقتضيه الظروف والأحوال" (رسالة نظرية الإسلام السياسية للمودودي). وهو يتفق فى ذلك مع تعبير بديع للإمام أبى حامد الغزالى حين أشار إلى قوة السلطان الذى يمنع بعض الناس من بعض، وقريباً من هذا ما أوضحه الإمام الشهيد حسن البنا حين قال: "إذا قيل لكم إلام تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذى أتى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزءٌ منه، والحريةُ فريضةٌ من فرائضه، فإن قيل لكم: هذه سياسةٌ، فقولوا: هذا هو الإسلام ، ونحن لا نعرف هذه الأقسام" (من رسالة "بين الأمس واليوم"). وفى موضع آخر يوضح مكانة سلطان الدولة ومنزلة الحكومة فى الإسلام فيقول رحمة الله عليه: "يفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدة من قواعد النظام الاجتماعى الذى جاء به للناس، فهو لا يقر الفوضى، ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه)، كما قال فى حديث آخر لبعض أصحابه كذلك: (إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم رجلا).. فمن ظن أن الإسلام لا يعرض للسياسة، أو أن السياسة ليست من مباحثه، فقد ظلم نفسه، وظلم علمه بالإسلام ولا أقول ظلم الإسلام فإن الإسلام شريعة الله لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه.. وجميل قول الإمام الغزالى: (اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع) فلا تقوم الدولة الإسلامية إلا على أساس الدعوة، حتى تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة، ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها، كما لا تقوم الدعوة إلا فى حماية تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها" (رسالة مشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامى). لقد عانى الشعب المصرى أشد المعاناة وجود حكومات جائرة وسلطات ظالمة، ولم تتغير معاناته بعد زوال النظام الفاسد الذى أطاحت به ثورة الشعب الغاضب، إذ إننا ما زلنا حتى الآن نتلمس الطريق نحو الاستقرار وبناء المؤسسات الدستورية بعد نجاح الشعب المصرى فى انجاز الدستور. وبقينا فى ظل حكومات تسيير أعمال مرتعشة لا تتقدم ولا تضبط أحوال البلاد الأمنية والاقتصادية وتترك الفوضى فى الشارع فترة طويلة عقب الإطاحة بالرئيس المخلوع، وكثيرا ما يسألنى من حولى: متى تنتهى معاناة الناس وكيف يعود الاستقرار للشارع المصرى وتتوقف الفوضى وتنتهى العشوائية؟ وجوابي: لستُ قلقا لما يحدث، فهذه الفوضى جانب منها مصطنع وتدبره وتديره مجموعات تستهدف التخريب وإعاقة الوصول بالبلاد إلى شط الأمان والاستقرار لتدور عجلات الإنتاج وهذه الفوضى يمكن السيطرة عليها، وجانب آخر يتلاشى بمجرد أن تكون فى البلاد سلطات وطنية ذات كفاءة وحسن إدارة وطيب نوايا، وأكرر على مسامعهم قولة الخليفة الراشد: "انَّ الله لَيَزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". ومن ظواهر الفوضى التى نعانى منها - الانفلات الأمنى وبروز البلطجة وجرأتهم على العباد حتى طالوا رجال السياسة والحكم - التعدى على المرافق العامة للدولة وتعطيلها ومنع المواطنين من الانتفاع بها - البناء المخالف، وهو ما أفصل فيه الحديث بغية إثارة الموضوع فى دوائر الحريصين على مقدرات البلاد ومصالح العباد فشت ظاهرة البناء المخالف وخاصة فى فترة ما بعد الثورة، ويرجع هذا إلى حالة السيولة التى تمر بها البلاد، وضعف الأجهزة المسئولة عن الرقابة وضبط المخالفين، وضعف المحاسبة لحد التلاشى، والقاعدة الشرعية هنا تبين ذلك "من أمن العقوبة أساء الأدب"، شعور بعض المواطنين بضعف أجهزة الدولة المخولة بالرقابة والمحاسبة، أغراهم بالاندفاع نحو تحقيق الربح السريع عن طريق البناء المخالف قبل أن تفيق الحكومة وتستعيد عافيتها وتبسط رقابتها وتمارس دورها بقوة وفاعلية. الصور الأكثر شيوعا فى مجال البناء المخالف 1 - البناء من غير ترخيص بعيدا عن الطريق الرسمى ودون الالتزام بقيود الارتفاع واشتراطات البناء. 2 - التعليات فوق المسموح به قانونا والوارد فى الرخصة، فتجد بناء يرتفع لأكثر من 11 طابقا فى حين أن عرض الشارع لا يتجاوز ستة أمتار والرخصة لا تسمح بأكثر من أربعة طوابق. 3 - التعديات على أملاك الدولة والأوقاف أو الخاضعة لقانون حماية الآثار، ويستفزك ما قام به البعض من الاستيلاء على الشارع وتحويله لملكية خاصة والبناء عليه. 4 - التعديات على خطوط التنظيم ومناطق الردود المقررة بالاشتراطات. 5 - المبانى والمنشآت والأعمال التى تقام خارج الحيز العمرانى المعتمد للمدينة أو القرية. هذه المخالفات القانونية قرر القانون رقم 119 لسنة 2008 الخاص بقانون البناء إزالتها بالطريق الإدارى على نفقة المالك، ويصدر بذلك قرار من المحافظ المختص ولا يجوز التجاوز عن إزالة هذه المخالفات وفقا للمادة رقم 60 من القانون المشار إليه. المشاركون فى المخالفات المعاقب عليها قانونا هذه المخالفات الخطيرة يشارك فيها عدة أطراف؛ المالك يتحمل المسئولية كاملة، ويشاركه المهندس أو الشخص المسئول فى المكتب الهندسى القائم بأعمال الاعتماد وذلك وفقا لأحكام المادة 103 من قانون البناء، وفضلا عن معاقبته بالحبس أو الغرامة المشددة يحكم بالإزالة وتصحيح الإعمال المخالفة على نفقة المخالف، وفى حالة التكرار والعودة تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات ومثلى الغرامة المشار إليها فى الفقرة الأولى، كما تقضى المحكمة بشطب المهندس المخالف أو المكتب الهندسى الذى ارتكبت المخالفة لصالحه أو من احد العاملين لديه من سجلات نقابة المهندسين. ويشاركهم فى ارتكاب هذه المخالفات كل من تقاعس عن أداء مهام وظيفته من موظفى الوحدات المحلية المنوط بهم مراقبة تطبيق قواعد القانون والاشتراطات الواردة بالقانون وتوقع عليهم الجزاءات الجنائية بما فيها الحكم بالعزل من الوظيفة، فضلا عن الجزاءات الإدارية. الأضرار التى تلحق بالمجتمع هذه مخالفات خطيرة تشكل أعمالا يعاقب عليها القانون ويتضرر منها المجتمع، ولا تقتصر أثارها على أطرافها أو المجاورين لها، ومن ذلك: * المخالفات متعلقة بالنظام العام ومن شأنها الإضرار الشديد بالمرافق العامة للدولة حيث إنها صُممت وفقا لاحتياجات مخطط لها سلفاً ولا شك أن هذه المخالفات تخرج عن منظومة التوافق مع المرافق العامة كشبكات المياه والصرف الصحى والكهرباء والطرق والنقل والتعليم والصحة وغيرها، التى صممت لتقديم الخدمات لعدد معين من المواطنين وهذا احد أسباب انفجار شبكات المرافق العامة وعدم قدرتها على استيعاب زيادة الاستهلاك. * المخالفات تسمح لمرتكبيها بالتهرب من سداد استحقاقات مالية لخزانة الدولة كرسوم الترخيص وضرائب مستحقة عن هذه الأنشطة وهذا يُضعف الحصيلة المالية للدولة. * تلحق الضرر البالغ بالمواطنين الذين ترتبت لهم أوضاع ومراكز قانونية قبل إنشاء هذه المخالفات مما ألحق بهم الضرر وقد تتصدع البنايات المجاورة وقد تتهدم أو تنهار من جراء هذه المخالفات. * تنتابنى وتنتاب الكثيرين مشاعر الخوف والقلق من جراء هذا التسارع فى البناء المخالف عقب الثورة حتى إن البناء يرتفع 14 طابقا فى أقل من شهرين بواقع ثلاثة أيام لكل طابق، وهذا يجعلنا ننظر بعين الخوف والارتياب لكل المبانى التى شيدت خلال هذه الفترة بعيدا عن أى رقابة، ولا بد من إعمال صحيح القانون حماية لأرواح المواطنين وسلامتهم، وإلا تفاجئنا كل فترة بخبر انهيار عقار على قاطنيه. كم نحن فى حاجة ماسة إلى ثورة أخلاق وضمائر، ثورة تعيد الاعتبار للمال العام وتأكيد حرمته ووجوب احترامه والحفاظ عليه وصيانته، ثورة توقف الانهيار الأخلاقى وخراب الذمم حتى لا تتعرض البلاد لانهيار المبانى وخراب الديار، واتعاس العباد وإفساد البلاد. ثورة تحافظ على الأرواح وسلامة المواطنين وأمنهم وسلمهم فلا يبيتون على خوف من انهيار عقار يُقيمون فيه أو يعيشون بجواره أو يمرون تحته أو يعملون فيه. نحن فى حاجة حقيقية لحراك اجتماعى بغرض توعية المواطنين جميعا أن يحترسوا ويأخذوا حذرهم ولا يُشاركوا فى هذه المخالفات وأن يتعاونوا من أجل إزالتها ومنعها أصلا من الوجود. وأحد مفاتيح الحل الجذرى لهذه الظاهرة هو وجود السلطات الوطنية القادرة والحارسة والحامية والأمينة، ونأمل أن تكون قريبا.