إن ما شهدته المرحلة المكية من تحديات ومؤامرات دولة الكفر العميقة فى مكة لم يكن سهلا ولا هينا، لقد استهدفت حصار الدعوة واستئصال أتباعها حتى يتم القضاء عليها فى مهدها، ولا يتيح لها أية فرصة للتمدد أو الانتشار هنا أو هناك، ولم يدخروا وسعا فى استخدام كل وسائل التعذيب، والاضطهاد، ابتداءً من الدعايات السامة المضللة، ومرورا بالسجن والتنكيل، والحصار، وانتهاءً بالقتل. وللأسف الشديد كان موقف أهل الكتاب، خاصة اليهود، غريبا ومخزيا على الرغم من معرفتهم حقيقة أنه دين الحق، وأن محمدا هو رسول آخر الزمان الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إلا أنهم حقدا، وحسدا -لكونه ليس منهم- تنكروا وتمردوا وبدأت دولتهم الخبيثة العميقة تسهم فى الحرب المبكرة، وذلك بالتواصل مع قريش، ودعمها فى حرب الدين الجديد، كما أثبت ذلك القرآن فى مثل قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً {51} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا {52}" (النساء: 51، 52). لقد سافر وفد من قريش ليسألوا أهل الكتاب حسب بعض الروايات: "أديننا خير أم ما جاء به محمد"؟ فكان ردهم ما جاء بالآية، بل زادوا على ذلك أنهم تطوعوا أو زودوا كفار قريش بأدوات جديدة للحرب، تهدف إلى تحدى الرسول وإحراجه بأسئلة معجزة عن الروح ما هى، وعن فتية آمنوا بربهم وكان لهم شأن (أهل الكهف)، وعن رجل طواف (ذى القرنين)، ورغم أن القرآن قد كشف الكيد الأول، ورد فى إجابات قاطعة ومعجزة عن تلك الأسئلة، إلا أن أيا من الفريقين لم يهتد، فالمعركة لم تكن معركة حجة وبينة، ولكن كانت معركة حسد وحقد نفسى وكبر شديد، كأن ملك الدين والدنيا قد صار حكرا لهم، ويجب أن لا ينال منه غيرهم نقير ولا قطمير، كما يحلل القرآن نفسيتهم بعد الآيات السابقة مباشرة: "أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا {53} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا {54}" (النساء: 53، 54). يتخيل البعض حتى هذه اللحظة أن فئة المعاندين والمعوقين لطريق الدعوة والحق ينقصهم حجة أو بينة، ويتوهمون أنه يمكن إقناعهم بالحوار الهادئ والحجة البالغة، لكن فى الحقيقة هذا وهم كبير على مر الزمان والمكان، فالمعاند يكابر، وكلما جئته ببينة أو حجة زاد فى عناده، واقرأ إن شئت آيات القرآن المؤكدة لذلك، وموقف كل الرسل مع أنبيائهم بعد طلب المعجزات الواضحة، هل آمن أى منهم؟ ولعل خير ما يجسد ذلك سورة سميت البينة، التى جاء فيها "وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ (4)". منهج الرسول فى مواجهة تلك التحديات من منظور إستراتيجى: رغم ما حدث للرسول فى مكةوالطائف لدرجة أنه وقف يدعو "اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس..". ذلك الدعاء الذى صور ما يمكن بتسميته الآن بلغة العصر تحليل للوضع الداخلى الخارجى (swot)؛ حيث أوضح أنه فى وضع شديد الضعف قليل الحيلة، كما أنه فى حالة تهديد ممن حوله؛ لدرجة وصلة إلى شدة السخرية والاستهانة به، فهو فى مربع 4؛ حيث الضعف والتهديد، وهو وضع يتطلب إستراتيجية دفاعية تقوم على الحفاظ على مجرد البقاء، والبحث عن سبل للحماية، وعدم المواجهة لمجرمى دولة الكفر العميقة، والتفكير الجدى فى البحث عن جمهور مختلف و(سوق) مختلفة، وهو ما حدث بالفعل، فقبل عودته صلى الله عليه وسلم لمكة بعث بغلامه زيد بن حارثة للمطعم بن عدى؛ ليجيره من بطش المشركين، رغم كونه لا يزال على الشرك، لكنه كان من المروءة والنجدة بما يجعله يقبل ذلك على الفور ويخرج بأبنائه وعائلته، شاهرين سيوفهم، معلنين ذلك لأهل مكة، فقبلوا، خاصة بعد أن اطمأنوا أنه لا يزال على الكفر. لقد تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بذكاء إستراتيجى شديد؛ حيث استفاد بفرصة فى البيئة العربية، وهى النجدة وقبول جوار المظلوم، وعرف بمن يستعين ليحقق هدفه، فى الحفاظ على بقاء واستمرار دعوته. ثم سرعان ما بدأ يلجأ إلى إستراتيجية التنويع، فبدأ يعرض نفسه على الوفود من القبائل العربى المختلفة، حتى نجح فى إقناع شباب من أهل يثرب فى بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، وأرسل معهم بالفعل من ينشر الدين الجديد فى هذا البلد البعيد عن مكة بنحو 500 ك.م وهو مصعب بن عمير، وبالفعل بدأت ثمار النجاح تتوالى وبدأ فى تنفيذ إستراتيجية مناسبة للحفاظ على بقاء أتباعه، وهى الانسحاب من مكة وأمرهم بالهجرة للمدينة. لكن لا بد من وقفة تحليلية لدعاء الطائف وتوابعه، فقد أعلن فيه صلى الله عليه وسلم شكواه من ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، وهذا قمة الأدب مع الله، وقمة النظرة الواقعية للأمور، فلم يشتك الله ولم يعلن يأسه، بل كان المهم عنده أن لا يكون ذلك بمنزلة غضب من الله أو عدم رضا عنه "إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى، لك العتبى حتى ترضى..."، إذن فالأمر مجرد لجوء كامل إلى الله فإن كان مجرد اختبار وابتلاء كما هى السنن فلا بأس، وما عليه إلا أن يجتهد فى إبداع وابتكار وسائل وإستراتيجيات جديدة للدعوة (وهو ما حدث منه بالفعل). فماذا كان الرد؟ لقد اتخذ الرد من الله سبحانه وتعالى ثلاثة أحداث؛ الأول: إرسال جبريل ومعه ملك الجبال، عارضا عليه إهلاكهم فى لحظة. الثانى: ايمان نفر من الجن صرفهم الله إليه، وهم جمهور جديد تماما لم يكن متوقعا ليسرى عليه ويدعمه فى طريق دعوته. الثالث: هو حادث الاسراء والمعراج؛ حيث رحلة فى ملكوت السماوات والأرض، تضع كل الأبعاد والمتغيرات فى نصابها وحجمها الطبيعى؛ وتمثل أيضا دعما ومساندة وإجابة عملية على تلك الحالة من الهوان على الناس كما وصفها، فهو ليس بهين عند الله ولا هؤلاء بشىء يذكر فى ملكوت وقوة وقدرة الله عز وجل. يحتاج الإنسان فى المواقف الصعبة إلى دعم وتأييد ومساندة وتثبيت ممن هم أعلى منه، فهل هناك دعم أعظم من ذلك؟ أما عن الموقف الأول "إن شئت أطبق عليهم الأخشبين"، أى جبلين يحيطان بمكةوالطائف، فقد كان ذلك ردا واضحا أنه ليس بالضعيف، ولا بالذى غضب الله عليه ولا تخلى عنه، ولكنها السنن الطبيعيه ولغة الأسباب، فإن كان يريد الخروج عليها ولو باستئصالهم فى لحظة فالأمر له. وهنا تجلى طبعه وفهمه لمهمته وأنه الرحمة المهداة "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" لقد كانت إجباته: "بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له"! يتجلى فى هذه الإجابة الخيار الإستراتيجى الواضح، الذى يعتمد تماما على الدعوة والأخذ بالأسباب الطبيعية لإقناعهم بالدين الجديد، دون اللجوء إلى أى خيار استئصالى كما حدث مثلا لقوم نوح أو عاد أو ثمود.. اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الموضوع مجرد اجتهاد فى ابتكار وسائل وإستراتيجيات جديدة للدعوة، وأنه لا بد بالغ هدفه، فإن لم يؤمن هؤلاء فعلى الأقل ذريتهم، فهم جمهور الدعوة المستهدف وعدتها فى نفس الوقت. فهل بعد ذلك من رحمة؟ وما الذى حدث بعد ذلك؟