شبعنا من الكلام المحفوظ (إننا جميعا فى سفينة واحدة)، بيد أن هذه السفينة الواحدة لا يصعدها إلا من أراد بنفسه الصعود إليها، والالتزام بقوانين السير فيها، وفى قصة الحديث المشهور عند البخارى عن الذين حاولوا خرق السفينة من أسفلها، فكاد أن يغرق الجميع، كانت الرسالة: "إذا أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإذا تركوهم غرقوا جميعا". والذى لا يحاول أن يفهم طبيعة السفينة الحالية يظنُّ أنها القارب العتيق، أو السفينة ذات الشراع التى تلعب بها الرياح العابرة، غافلا أو متغافلا أن السفينة أكبر حجما، وأعقد تصميما، وأصعب ضبطا مما يظن الظَّانُّ لأول وهلة. المهم فى هذا أن نشعر أن تلك السفينة أو ذاك المركب يتحرك بآليات أكثر تعقيدا، لا يتحقق استقرارها إلا باستيعاب الجميع، ومشاركة الجميع، وإلا حلَّت الفوضى، وكثرت الثقوب التى لا يغنى عنها صوت سماعات الإنذار. فى زمن الناس اليوم نجدهم يفكرون بسياسات جديدة تناسب حياتهم وتطلعاتهم ومستقبلهم. إذ لم يعودوا يفكرون فى النظريات السياسية المجرَّدة عن الحقائق، وما عادت تستهويهم مقطوعات البيانات والخطابات والترقيعات. دعونا نتصارح أن اللغة الاستهلاكية الحكومية فى الوطن العربى -فى معظمها- تعيش شللا فكريّا، وجهلا وارتباكا سياسيّا عميقا. فالإعلام ما عاد يملكه التيار الحكومى وحده، وكواليس الاضطهاد وكبت الحريات ما عادت تستجيب لمصطلح (سرِّى)، فكل شىء بات معلوما ومكشوفا عاجلا أو آجلا، والشعوب لها رأيها كما للحكومات رأيها، وإصدار النظم ما لم تنسجم مع متطلبات الشعوب سيبدو عوارها مهما غُلِّفت بزيف المصالح. العصر الحديث (عصىٌّ) على تأطير النظم الحكومية العربية لشعوبها فى مجال الحريات العامة. وكل القوانين التى تصدر فى مواجهة هذه التغيرات الجادة نحو مطالب الحريات والعدالة، هى تأكيد لفكرة المعارضة لا الترويض! ومن قديم استوعب الكواكبى الدرس، وقال عن طبيعة من فى السياسة: "ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التى تكبر النفوس، وتوسع العقول، وتعرف الإنسان ما حقوقه". بيد أن المستبد فى عصر الكواكبى لم يعش عصر الإعلام الحديث بكل آلياته وسرعته وفاعليته وتداعياته، وإلا لعلا صوت جرس إنذاره! والحال نفسه على مستوى السياسات الخارجية التى ترتبط الشعوب بمواقفها على الصعيد السياسى والفكرى والمالى فى درجاته الأولى. ولن تغنى الشعارات شيئا ما لم يشارك الناس برأيهم فى المواقف الإستراتيجية السياسية الداخلية والخارجية لأوطانهم أصابوا أم أخطئوا. أو بتعبير (على الوردى): "إننا نحتاج إلى منطق جديد يطابق نواميس الحياة الواقعية، وبهذا المنطق ننجو من هذا الازدواج العجيب فى شخصيتنا وعقولنا". ومن غير وضوح الرؤى السياسية، ستصارع الحكومات العربية أجيالا جديدة بأفكارهم العالية، ومواقفهم السلمية الواضحة، يمكن وصف كل منهم كما عبر أحد السياسيين الغربيين: "إنه رجل ينظر إلى الشيطان فى عينيه، ويظل محدقا حتى يغلق الشيطان جفونه، ولا يهمه فى أى صورة يتنكر هذا الشيطان".