كلما مررت من امام مسجده بالعجوزة ، ترحمت علي المفكر والعلامة عبد الرحمن الكواكبي، السوري المولد الذي يعد من أهم رواد الحركة الإصلاحية العربية ، الذي عاش في القاهرة ومات فيها متأثرا بالسم الذي دس له في فنجان القهوة عام 1902 . من يريد تأمل أسباب " الوكسة " التي لا تفارق عالمنا العربي والإسلامي عليه العودة لكتابه الشهير " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد " لأنه في رأيي من أهم كتب علم السياسة في العصر الحديث، الكواكبي يبدأ كتابه متسائلا عن تأثير الاستبداد علي الدين، والعالِم ،والمُجِدِّ، والأخلاق، والترقي، والتربية، والعمران ، مقدما طرق الاستدلال علي الاستبداد ، وكيفية التخلص منه . الاستبداد في تعريفه صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما، الحكومة التي تتصرف في شئون الرعية بلا حساب ولاعقاب ، حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولي الحكم بالغلبة أو الوراثة ، ويشمل التعريف " الحاكم المنتخب من الشعب متي كان غير مسؤول " ، و"حكومة الجمع ولو كانت منتخبة أيضا، لأن المشاركة في الرأي لا تدفع الفساد " ، و"الحكومة الدستورية المفرقة بين قوة التشريع وقوة التنفيذ والمراقبة" ، ومن أشد مراتب الحكومة المستبدة التي يُتعوذ بها من الشيطان "حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش ، القائد للجيش، الحائز علي سلطة دينية " . يؤكد الكواكبي ان أخطر نتائج الاستبداد تتمحور في إرساء جهالة الأمة ، والجنود المنظمة، التي يقصد بها تجنيد وتطويع الجيش الخاضع للحاكم المستبد الذي ينفذ أوامره ، مما يشيع الرعب في نفوس الرعية، ويصف المستبد بأنه دائم الاستعداد للشر، ويسعي دائما لترويض رعيته بحيث يكونون كما الأنعام، أو يكونون كالكلاب في التذلل والتملق . يُرجع الكواكبي أسباب استبداد الحاكم إلي الاستبداد الديني، كلاهما يتعاونان لإذلال الرعية ، والفرق بينهما أن الإذلالَ السياسي يُنهك الأجسام ، بينما الإذلالُ الديني يُنهك القلوب والعقول، ويشير إلي تعاليم البوذية واليهودية التي تهدد أتباعها بالكوارث في الحياة إن هم شذوا، أو كالنصرانية والإسلام تهددهم بعد الممات وفي الحياة أيضا ، والنجاة عند تلك الشعوب المُستبَدِّ بها طريقها (الحُجّاب) ممن لا يأذنون للناس بدخول جنة النعيم ، ما لم يعظموهم مع تذلل وإصغار ويرزقونهم باسم نذر أو ثمن غفران، حتي أنهم يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربها ما لم يأخذوا عنها مكوس المرور إلي القبور، وفدية الخلاص من مطهر الأعراف ،ويصل الكواكبي إلي الخلاصة قائلا "ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله ، مشيرا إلي طائفة الكهنة والقساوسة والشيوخ لانهم وسطاء باسم الأديان، ويتهمهم بأنهم يعمدون من أجل ترسيخ نفوذهم إلي تقسيم الناس إلي شيع وأحزاب متصارعين، يعادون بعضهم بعضا ، لكي يخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ !