لم يلتزم احد - للأسف - بقرار المجلس الاعلي للقوات المسلحة الذي حظر التعليق والنقاش علي التعديلات الدستورية قبل الاستفتاء بيوم لعدم التأثير علي الناخبين، فقد تم توزيع المنشورات الداعية بالتصويت ل " نعم " للفوز بالجنة ونيل نعيمها، واستكمل الشيوخ نهج الترغيب والترهيب لمن يقول " لا "، وفي المقابل وزعت المنشورات المضادة واستعدت الاتوبيسات لحمل المسيحيين إلي اللجان الانتخابية، تحول الجدل السياسي إلي احتقان ومعركة دينية افسدت الصورة النبيلة لملايين المصريين الذين خرجوا لممارسة حقهم الانتخابي بحرية لاول مرة، تجاوزات كثيرة تم رصدها بالصوت والصورة في مشاهد الفيديو علي اليوتيوب، اكثرها مرارة مشهد احد شيوخ السلفية وهو يخطب في الناس عن النصر المبين في " غزوة الصناديق "، كل هذا جعلني استدعي كتاب " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد " لعبد الرحمن الكواكبي الذي يعد من أهم كتب علم السياسة في العصر الحديث . يبدأ الكواكبي كتابه متسائلا عن تأثير الاستبداد علي الدين، علي العالِم، علي المُجِدِّ، علي الأخلاق، علي الترقي، علي التربية، علي العمران، مقدما طرق الاستدلال علي الاستبداد، وكيفية التخلص منه، فالاستبداد في تعريفه صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما، التي تتصرف في شؤون الرعية بلا حساب ولاعقاب، حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولي الحكم بالغلبة أو الوراثة، ويشمل التعريف " الحاكم المنتخب من الشعب متي كان غير مسؤول "، و"حكومة الجمع ولو كانت منتخبة أيضا، لأن المشاركة في الرأي لا تدفع الفساد "، و"الحكومة الدستورية المفرقة بين قوة التشريع وقوة التنفيذ والمراقبة"، ومن أشد مراتب الحكومة المستبدة التي يُتعوذ بها من الشيطان "حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز علي سلطة دينية " ويؤكد الكواكبي ان أخطر نتائج الاستبداد تتمحور في إرساء جهالة الأمة، والجنود المنظمة، التي يقصد بها تجنيد وتطويع الجيش الخاضع للحاكم المستبد الذي ينفذ أوامره، مما يشيع الرعب في نفوس الرعية، ويصف المستبد بأنه دائم الاستعداد للشر، ويسعي دائما لترويض رعيته بحيث يكونون كما الأنعام ، أويكونون كالكلاب في التذلل والتملق . ويُرجع الكواكبي أسباب استبداد الحاكم إلي الاستبداد الديني، كلاهما يتعاونان لإذلال الرعية، والفرق بينهما أن الإذلالَ السياسي يُنهك الأجسام، بينما الإذلالُ الديني يُنهك القلوب والعقول، ويشير إلي تعاليم البوذية واليهودية التي تهدد أتباعها بالكوارث في الحياة إن هم شذوا، أو كالنصرانية والإسلام تهددهم بعد الممات وفي الحياة أيضا، والنجاة عند تلك الشعوب المُستبَدِّ بها طريقها (الحُجّاب) ممن لا يأذنون للناس بدخول جنة النعيم، ما لم يعظموهم مع تذلل وإصغار ويرزقونهم باسم نذر أو ثمن غفران، حتي أنهم يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربها ما لم يأخذوا عنها مكوس المرور إلي القبور، وفدية الخلاص من مطهر الأعراف ! . ويصل الكواكبي إلي الخلاصة قائلا "ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، مشيرا إلي طائفة الكهنة والقساوسة والشيوخ لانهم وسطاء باسم الأديان، ويتهمهم بأنهم يعمدون من أجل ترسيخ نفوذهم إلي تقسيم الناس إلي شيع وأحزاب متصارعين، يعادون بعضهم بعضا، لكي يخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ .