بدأت مصر تجنى ثمار الفوضى والانهيار الإدارى والفساد الحكومى الذى أورثه لنا النظام المخلوع، فى صورة حوادث رهيبة تحصد أرواح المئات من المصريين الفقراء، ضحايا الإهمال المتوارث والذمم الخربة. ولا يقتصر الأمر على المرافق المغشوشة عديمة الجودة.. فالأخطر من ذلك النظم الإدارية المتخلفة والمتدهورة التى لا تمارِس ولا تهتم بأسس الإدارة السليمة التى تتمثل فى حتمية الصيانة الدورية، والتدريب المستمر، والرقابة والتفتيش والمراجعة الدائمة لإجراءات الأمن الصناعى وغيرها. فبالنسبة لمشكلة حوادث القطارات مثلا؛ صحيح أن لدينا عربات وأدوات وأجهزة عفا عليها الزمن وانتهى عمرها الافتراضى.. ولكن لو أن لدينا إدارة ناجحة أو صالحة بهيئة السكك الحديدية لاستطاعت بيقظتها منع هذه الحوادث، بالاجتهاد فى الصيانة، وبالتوقع المسبق لما يمكن أن يقع من حوادث ومنعها، فحظر الترخيص بسفر القطار أفضل بالطبع من إعدام الركاب، حتى وإن تعطلت حركة السفر. وبالطبع هناك إدارات للصيانة والتفتيش وهياكل إدارية كاملة، ولكن لا أحد يريد أن يعمل، ولا أحد يعاقب.. والصيانة مثلا تتم على الورق فقط، كما صرح الوزير. وسبق تخصيص الملايين عقب إحدى الحوادث، ولكن الفساد ابتلعها وظل الحال على ما هو عليه، ولم يعاقب أحد!. ألم يحن الوقت -بعد تزايد الحوادث- إلى اصطياد هؤلاء المفسدين، وتطهير أحد أهم قطاعات الإنتاج والخدمات؟. إذا كان الخراب الموروث ليس مسئولية الحكومة الحالية؛ فلا شك أنها مسئولة عن هذا الخلل الإدارى الذى لا يستطيع التعامل مع تلك الأزمات.. يجب على الحكومة أن تضع نظاما عاجلا لمعالجة الانهيار الإدارى، بالبحث عن قيادات جديدة وتدريبها، ووضع نظام ملزم للصيانة والرقابة. مطلوب قيادات فتِية غير تقليدية تستطيع التعامل مع الخرائب الموروثة.. لحين إصلاحها. وإذا كان الإحلال والتجديد يحتاج إلى أموال وموازنات، فلا بأس من جدولة هذه العمليات.. ولكن الإدارة الناجحة لا تحتاج إلا إلى الإرادة والعقل المدبر والقيادات الواعية المخلصة: فهل هذا مستحيل؟!. أما مشكلة سقوط العمارات على ساكنيها فهى الكارثة الأعظم.. لأن انهيار عمليات الرقابة وسيادة الرِّشا أنتجا عشرات الآلاف من المساكن الخربة، والضحايا المساكين ليس لديهم بديل، والحكومة لا تعرف حجم الكارثة (رغم سهولة ذلك)، ومن ثم لم تحاول دراسة المشكلة ووضع حلول لها. ومن الواضح أن مدينة الإسكندرية حازت النصيب الأكبر من الفساد المعمارى، حيث تتعدد حوادث الانهيار، وفى فترات زمنية متقاربة. وقد عجبت من منظر العمارة المنهارة مؤخرا، التى وصل عدد ضحاياها إلى 25 قتيلا حتى لحظة كتابة هذا المقال.. إذ من الواضح أن (أنيميا) الحديد والأسمنت تسيطر على عمليات الإنشاء، حيث لا رقابة، ولا مراجعة، ولا ضمير. لقد تحول المبنى إلى كومة من التراب وكأنه عمارة من البسكويت!.. وهذا يدل على كمِّ من الفساد لا يقل (بل يزيد) عن الفساد الذى تسبب فى تعمير سجن طرة بالمفسدين الكبار. لا بد من سرعة وضع اليد على هؤلاء المفسدين ورد أموال الضحايا المساكين دون انتظار لوقوع كوارث جديدة، وهذه الأموال كثيرة وربما تكفى لتدبير بدائل للمساكن المهددة بالانهيار. المطلوب من الحكومة ونقابة المهندسين سرعة تشكيل فرق عمل لإجراء فحص شامل لكل المنشآت التى أنجزت فى زمن الفوضى، وتصنيفها وتحديد المساكن المغشوشة وغير المطابقة للمواصفات والمهددة بالسقوط أو التى تحتاج إلى صيانة أو إصلاح؛ والقبض على أصحابها وإجبارهم على رد الأموال التى نهبوها لصالح ضحاياهم.. ومن ثم سوف يسهل إخلاء المساكن المتوقع انهيارها، والبدء فى ترميم وإصلاح ما يمكن إصلاحه، على نفقة هؤلاء اللصوص. إن قتل النائمين فى بيوتهم لا يقل قسوة وإجراما عن قتل المتظاهرين.. وعلى نيابة الثورة بدء عمليات التحقيق والمحاكمة لكل من تورط فى إنشاء والمتاجرة فى عمارات الموت. إذا فعلت الحكومة ذلك فسوف تحمى المواطنين وتحمى نفسها من تحمل مسئولية فساد وقع فى زمن المخلوع.. وإذا لم تفعل ذلك فسوف تحمّل نفسها هذه المسئولية دون داع. كارثة منتظرة بالإسكندرية فى العامرية مشروع إسكانى كان يسمى (مدينة مبارك الجديدة) مهدد بالانهيار.. ليس لأن الإنشاءات مغشوشة مثل الأبراج إياها، فهى مساكن سابقة التجهيز ولا تزيد على خمسة طوابق، ولكنه نموذج للإهمال والفوضى وانعدام الأمن، رغم أنه مشروع مخطط جيدا. فبعد أن تسلم الحاجزون الوحدات المخصصة تهربت المحافظة من مسئوليتها وتركت المنطقة دون خدمات أو قسم للشرطة، فاجتاح اللصوص المدينة واستولوا على أغلبها، واضطر أصحابها -ممن يقيمون خارج الإسكندرية- إلى الهرب وتركها، وتوقفوا عن دفع الأقساط لهيئة تعاونيات الإسكان. أما الكارثة المنتظرة فمصدرها الإهمال الحكومى.. إذ تتدفق المياه طول الوقت وتغرق كل العمارات وما حولها ولا أحد يتحرك لأن أغلب من يعيشون فيها مغتصبون لها ولا يهتمون بحمايتها. والعجيب أن شركتى المياه والكهرباء هربتا أيضا.. فلا قراءة للعدادات ولا فواتير ولا سداد، والمغتصبون للشقق يسرفون فى الاستهلاك لأنهم لا يغرمون شيئا، وسوف تتراكم هذه الأموال على الملاك المساكين الذين هجروها ولا يعلمون عنها شيئا!. هل هناك فوضى أكثر من ذلك؟.. وهل تنتظر المحافظة حتى وقوع كوارث جديدة ثم تتحرك؟!. ما لكم كيف تحكمون؟!. --------------- أ.د. عبد الله هلال أستاذ بهيئة الطاقة الذرية [email protected]