انتهينا بالمقال السابق، إلى أن تطبيق المادة 59 من الدستور، الخاصة بدعم البحث العلمى بنسبة كافية من الناتج القومى.. يتطلب التعرف على حقيقة الوضع الكارثى الحالى، وبدأنا بمشكلة التقتير وضعف الميزانية التى عالجها الدستور الجديد، ولكنه لن يعالج العاهات الإدارية!، ونواصل عرض المشكلات التى يعانى منها هذا القطاع: تفرق المراكز البحثية مراكز البحث العلمى فى مصر كثيرة.. ولكنها متناثرة وموزعة على العديد من الوزارات، فإلى جانب الجامعات توجد مراكز تابعة لأكاديمية البحث العلمى وأخرى لوزارات الكهرباء والصحة والزراعة والرى والنفط والإسكان وغيرها. وهذا التناثر يعكس تنوع اختصاصات هذه الوزارات واهتمامها بالبحث العلمى كل فى مجاله.. ولكن الكارثة أنه لا توجد جهة تربط بين هذه المراكز وتنسق جهودها. وهذا الأسلوب لا يصلح للبحث العلمى؛ لأنه مهما تنوعت المجالات فلا يجوز أن تبقى جزرا منعزلة.. فهذا يؤدى إلى تكرار العمل ويمنع تكامل الإمكانات والجهود، وأفضل سبل التنسيق بين هذه المراكز هو أن تتبع جهة واحدة، وهذا يتطلب أن تشرف وزارة البحث العلمى على جميع أوجه النشاط البحثى.. وهذا لن يتعارض مع تنوع اختصاصات هذه المراكز، فالمفروض أن الوزارات كلها تتبع حكومة "واحدة". انعدام التخطيط المركزى ترتب على تفرق المراكز البحثية وتبعيتها لعدة وزارات انعدام التخطيط الشامل فى مجال البحث العلمى.. ففى كثير من المراكز لا يعلم الباحثون ماذا تريد الدولة منهم وما هى الخطة القومية(!). والنتيجة أن يتجه كل واحد أو مجموعة إلى المجال الذى يرونه ممكنا من وجهة نظرهم حسب الإمكانات المتاحة، سواء عاد هذا البحث بالفائدة على الوطن أم لا. فما هو الهدف من إنشاء تلك المراكز إذا لم تكن لدفع مسيرة التنمية بحل المشكلات التى تواجه الصناعة والزراعة والصحة وغيرها؟!.. وكيف يتحقق ذلك دون الربط بين البحث والتطبيق فى هذه المجالات؟!. والكارثة أن المسئولين بالوزارات يفضلون استقدام خبراء أجانب واستشارة مراكز الخبرة "العالمية"، سعيا إلى المغانم الدنيوية من سفر للخارج وبدلات وخلافه، وهذا ما يسهل تسلل أجانب إلى مراكزنا الحيوية بحجج المعونة والمشروعات المشتركة. ولا شك أن هذا هو أحد أسباب نجاح العدو الصهيونى فى حربه الاقتصادية ضدنا؛ مما تسبب فى تدهور إنتاجنا من القطن وإفساد كثير من المحاصيل. البحث العلمى المصرى فى خدمة الغرب الغرب المصاب بالنهم لا يكتفى بالنهب والابتزاز التقليدى الذى يمارس ضد بلادنا.. إذ سارت سياسة استنزاف الموارد موازية لسياسة "استنزاف العقول" ليجردنا من صفوة العلماء والمفكرين ويمنع تقدمنا. والخطة هى توجيه المبعوثين إلى تخصصات غير متوافرة ببلادنا سعيا إلى استبقائهم هناك بحجة العمل بمجال التخصص. أما العلماء الوطنيون الذين يصرون على العودة لخدمة الوطن، فهؤلاء ليسوا بمعزل عن سياسة استنزاف ثمار جهودهم وعصارة علمهم.. فالمؤتمرات والندوات تقيمها الدول الصناعية، والمجلات العلمية العالمية لا توجد إلا فى تلك الدول، ولكى تعترف الدولة -هنا- بالجهود العلمية لعلمائها فلا بد من نشرها فى تلك المجلات "المعترف بها دوليا"!. وهذه المجلات لا تنشر بحوثا فات أوانها أو أخرى تخدم الخطط التنموية فى بلادنا، بل لا بد من أن تساير خططهم وتتفق مع مستوى تقدمهم. والنتيجة أن البحوث التى مُوِّلت من الميزانية المصرية وأنجزت بأيد وعقول مصرية تذهب "بلا ثمن" إلى العالم الصناعى ليستفيد منها ويطبقها ثم "يبيعها" لنا فى صورة منتجات وأجهزة حديثة، وهى جزء من عرق أبنائنا!. وهكذا فى ظل غياب الخطة والهدف والرؤية الوطنية، تحول البحث العلمى فى بلدنا إلى أداة لخدمة التقدم الغربى الذى يوظف تقدمه فى عرقلة تقدمنا!. لا يكفى إذا -لتطبيق الدستور فيما يخص البحث العلمى- مجرد توفير التمويل.. لا بد أولا من علاج هذه العاهات، ووضع الأسس اللازمة لعلاج الهياكل الإدارية المنهارة، والعمل على إعادة تأهيل الباحثين الذين تسربوا بالواسطة والفساد -الذى استشرى فى زمن المخلوع- إلى أغلب المراكز البحثية.. ينبغى ألا يكون هناك مكان لمن لا يسعى لتطوير قدراته وإثبات جدارته بالموقع الذى حصل عليه فى غفلة من الزمن، لأن البحث العلمى لا يمكن أن ينجح بأنصاف المتعلمين، وعلى المسئولين بهذه المراكز وضع الخطط التدريبية اللازمة، وتمييز من يستحقون الاستمرار بمواقعهم، وتحويل ضعيفى المستوى إلى فنيين ومساعدين. ويجدر بهذه المناسبة أن نناقش مشروع د. زويل.. لا شك أن زويل قامة علمية وله خبرة بحثية مطلوبة، ولكن هل يجوز أن نترك عشرات المواقع البحثية تتخبط وتنهار ونتوجه لإنشاء كيان بحثى (جديد) يتكلف المليارات؟ وربما نفاجأ بنسخة من الموجود حاليا، طالما بقيت الهياكل والنظم وطريقة التفكير التى أدت إلى ما نحن فيه. العقل يقول (أصلح الكيان الحالى، وطوره.. ثم تَوَسع)؛ وإذا فشلنا فى الإصلاح فلن نفلح فى إنشاء كيان جديد!، لأن مشكلتنا الآن تكمن فى الثروة البشرية التى شوهها وطمسها نظام المخلوع، ولا بد من علاجها أولا.. ويستوى فى ذلك الخريجون الجدد والقدامى؛ لأن انهيار المنظومة التعليمية -من الحضانة إلى الجامعة- هو أس الفساد!.