الشيوخ تجربة مديدة مفيدة، وخبرة واسعة متراكمة، وحكمة رزينة، ووقار مهيب، وهيبة مؤثرة، فهم بيت الحكمة، وموئل الفكرة، حياتهم عطاء، وهم عبق التاريخ، ونسمات الحاضر، ولديهم القدرة على استشراف المستقبل. فالاستغناء عنهم حماقة، والتخلى عنهم ينقصه الوفاء واللياقة، ومطالبتهم بالتنحى عن كل شىء ليس فيها وعى ولا حكمة. والشباب هم زهرة الأمة المتفتحة، ومستقبلها الباسم، ورجال المستقبل، وقادة أوطانهم، وعماد أمتهم، وحاضرها النابض، ومستقبلها الواعد، وكيان لا شباب فيه لا حياة فيه، فهم العمل الدءوب، والبذل الكبير، والجهد العظيم، والطاقات والمواهب، والهمم العالية، والعزائم القوية، ويعول عليهم فى كثير من الأعمال لا يستطيع أداءها إلا الشباب. وجوب التكامل واضح -إذن- أن التكامل هو الطريق الأمثل لتطوير العمل، وإنضاجه، وجنى ثماره. ورغم ذلك فإنَّا نلاحظ علاقة يشوبها التوتر والاضطراب بين الشيوخ والشباب تجعلنا نتساءل: لماذا هذا الحاجز بين الشيوخ والشباب؟ وهل هو حاجز حقيقى أم وهمى؟ لماذا لا يقرِّب الشيوخ الشباب؟ ولماذا ينفر الشباب من الشيوخ؟ وهل هذه ظاهرة يمكن تعميمها على سائر الشيوخ والشباب؟ وهل من المصلحة العامة والفردية أن نترك هذه الفجوة القائمة بين الشباب والشيوخ؟ وما السبيل إلى إزالة هذه الفجوة؟ أسئلة كثيرة تثار حول هذه القضية المهمة الحساسة، أرجو أن أضع تشخيصا لها، يذيل بإطار عام للخلاص من هذه الفجوة، أو حتى لتضييقها. والسؤال الذى يفرض نفسه الآن هو: من السبب فى هذه الفجوة: الشباب أم الشيوخ؟ الواقع أن الجميع مسئول عن ذلك، فبعض هذه الأسباب مسئول عنها الشيوخ، وبعضها مسئول عنه الشباب. أما الأسباب التى ترجع إلى الشيوخ فأهمها: 1– انفصال كثير من الشيوخ عن الواقع، وميلهم إلى الماضى والسباحة فيه. 2– إلقاء اللوم دائما على هذا الواقع وتمجيد الماضى. 3– ضعف القدرة على معايشة الأحداث وتحليلها. 4– الاستهانة بالمتغيرات والمستجدات المادية والمعنوية والتقليل من شأنها. 5– استصغار الشيوخ شأن الشباب، وتهوين أدوارهم، وتهميشهم، وتسفيه آرائهم أحيانا. 6– ضعف تواصل الشيوخ مع الشباب. 7– ضعف ثقة الشيوخ بقدرات الشباب ومواهبهم وخبراتهم. 8– كثير من الكبار يقدر السن ولا يعبأ بتقدير العلم والعقل. 9– تقديس الكبار لعادات وتقاليد لا يميل إليها الشباب، وهى مجرد تقاليد لا حرمة فى تركها. 10– ضعف تربية الشباب وتدريبهم على تحمل المسئولية. أما الأسباب التى ترجع إلى الشباب، فأهمها: 1– التسرع بلا روية. 2– الإصرار فى كثير من الأحايين على آرائهم والتمحور حولها والانغلاق. 3– ضعف الرغبة فى الاستفادة من الكبار بحجة أن أفكارهم تقليدية قديمة. 4– ظن كثير من الشباب أن الكبار يحجبون عنهم المناصب والأدوار والمسئوليات، ويقتلون طموحاتهم، ولا يتزحزحون عن مواقعهم إلا بالموت. 5– اغترار كثير من الشباب وسوء تقديرهم لحكمة الشيوخ وحاجتهم إليها. على من تقع المسئولية الكبرى؟ الحق أن الشيوخ يتحملون المسئولية الكبرى فى هذه الفجوة، لأنهم الأعقل والأكثر حكمة، وهم الأقدر على استيعاب الشباب، فالإناء الأكبر يسع الأصغر!!! والشيوخ هم الأقدر على حل المشكلات، كما يسند إليهم تربية الشباب. إن الشيوخ الذين ينقطعون عن الشباب إنما يقطعون أنفسهم عن الحياة، كما أن الشباب الزاهدين فى علم الشيوخ وحكمتهم وخبراتهم إنما يواجهون الحياة بسذاجة وبدائية، ومن ثم ينبغى إزالة هذه الفجوة. كيف نزيل الفجوة؟ لإزالة الفجوة بين الشيوخ والشباب ينبغى مراعاة ما يلى: 1– استيعاب الشيوخ للشباب واحتواؤهم، وتقريب الشباب إليهم لمنحهم الحكمة والخبرة، كما يقرب التاجر عملاءه ليروج بضاعته ويسوقها. 2– توجيه الشيوخ للشباب وقوتهم وحماسهم للإنتاج والإبداع، وتشجيعهم، وشحذ هممهم، وتجنب الاستهانة بأفكارهم أو تسفيه آرائهم، ومساعدة الشباب على بلورة أفكاره وإنضاجها بدلا من محاكمتها فى مهدها. 3– إدراك أهمية التعاون والتكامل بين الشيوخ والشباب، فمؤسسة لا شيوخ فيها تعوزها التجربة، وتفوتها الحكمة، وتصيبها الهشاشة فى المواقف.. ومؤسسة بلا شباب يصيبها الترهل، ويعتريها الخمول، ويصيبها الركود، وتنقصها فى الغالب قوة العمل، وتلك سنة الله فى خلقه، فلا يجوز لفريق أن يلغى الآخر. 4– إحداث التغيير، والإيمان بسنته وضوابطه، واستثمار الكبار والشيوخ من أولى الدربة والحكمة فى الاستشارات والتخطيط والمواقع التى تليق بهم بعد انتهائهم من مواقعهم الإدارية. فلا يليق بالمؤسسات أن تترك هؤلاء الكوادر دون الاستفادة من خبراتهم. 5- الاهتمام بتربية الشباب على تحمل المسئولية والاستفادة من خبرات الشيوخ وتجاربهم. 6– بث ثقافة مهارات الاختلاف وآدابها لدى الشيوخ والشباب على السواء، التى من شأنها أن تزيل إصرار كل منهما على رأيه والانغلاق والصد والتسرع بلا روية. 7– تعميق ثقافة احترام الكبير وتقديره وإنزاله منزلته، وإقناع الشيوخ أن اختلاف الشباب معهم لا يعنى عدم احترام الشباب لهم، فالاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية. على الشيوخ إذن أن يمدوا أيديهم إلى الشباب، وعلى الشباب أن يطلبوا الخبرة والحكمة والاستشارة من الشيوخ، فقد استثمر النبى -صلى الله عليه وسلم- كلا الفريقين استثمارا ناجحا، ولنا فيه القدوة والأسوة. فجهد الشيوخ معلوم على مر التاريخ، فلننظر -على سبيل المثال لا الحصر- إلى الخلفاء الراشدين الذين تولوا القيادة وهم شيوخ بعد تقدم أعمارهم؛ فكانت لهم جهودهم العظيمة فى صناعة مجد الأمة، وتحقيق الفتوحات، ونشر الإسلام. لقد كلف النبى -صلى الله عليه وسلم- الشباب بمهام عظيمة، فكانوا نعم العلماء والقادة والدعاة وصناع الحياة،؛ حيث وظف بعضهم فى الأزمات ونجحوا نجاحات مبهرة. ومن هؤلاء خالد بن الوليد الذى منحه وسام التشجيع فلقبه ب"سيف الله المسلول"، فكان قائدا عظيما، أسهم إسهاما كبيرا فى مجد الأمة وانتصاراتها. وأمَّر على الجيش أسامة بن زيد -رضى الله عنه- وكان فى ريعان شبابه رغم وجود كبار الصحابة فى ذلك الجيش، وهكذا نرى على مر التاريخ قادة فى العلم والجهاد من أمثال عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبى، ومحمد الفاتح... وغيرهم كثير من الشباب. ينبغى أن يأخذ الشباب أدوارهم فى العمل، وأن يتبوأ الشيوخ أماكنهم، وأن يتعاون كلا الفريقين فى تكامل بينهما، لتحقيق أهداف واحدة، لا يقصى أحدهما الآخر، وهكذا تنجح المؤسسات، وتتلاقح الأفكار، وتتواصل الأجيال، ويتحقق التوريث.