ما زالت الخريطة السياسية المصرية لم تتشكل بعد بصورتها النهائية، وإن بدت ملامحها شبه الأخيرة تتضح من خلال الجولات التصويتية، بداية من استفتاء مارس 2011م وانتهاء باستفتاء ديسمبر 2012م، خمس جولات تصويتية خاضها المصريون فى مدة صغيرة وقياسية، وكانت نسب التصويت والحسم تؤكد اللياقة الحركية فى الحضور والمشاركة، واللياقة الفكرية والذهنية برفض الوصاية من أى مربع كان سياسيا أو دينيا أو عسكريا، بل أكدت التجارب نضج هذا الشعب العظيم وفشل نخبته الهلامية الفضائية فى صناعة شعب بديل ووهمى من خلال الآلة الإعلامية التى تخوض معارك مقدسة لاستنزاف ما تبقى للمصريين من قوة وقدرة وأمل وثقة، الجولات التصويتية الخمس السابقة تؤشر لثلاث تكتلات رئيسية هى: الإسلاميون جزء أصيل وكبير من المجتمع المصرى، وثمرة طيبة من ثمار ثقافة وهوية وهوى هذه المنطقة من العالم، نالوا ثقة المصريين وتفويضهم المشرف والمشروط فى انتخابات مصر ما بعد الثورة "البرلمان - الشورى - النقابات - الرئاسة" بنسبة مئوية كبيرة، النتائج لم تكن مفاجأة بل كانت متوقعة لاعتبارات ثقافية واجتماعية وحركية. لكن.. * هم فى حاجة ملحة إلى التوازن والمواءمة بين الاستحقاق الديمقراطى كحق أصيل وبين وحدة الصف ولم الشمل، وتفويت الفرص على المتربصين وهم كثر. * هم دون غيرهم مطالبون بالتنازل قليلا والتقارب كثيرا لسد الفراغات التى نشأت بسبب انشغال التيارات السياسية والحركات الشعبية ببعضها البعض فتمددت فيها الخلايا السرطانية من بقايا النظام، التى سرعان ما تحولت من مرحلة الكمون لمرحلة النشاط والعمل الدءوب للانقضاض على الثورة. * هم دون غيرهم مطالبون بتحقيق طموحات وآمال ملايين المصريين البسطاء ليس بقواعد اللعبة السياسية لكن بأخلاقيات السياسة الشرعية التى طالما ارتكنوا إليها فكانت الميزان الدقيق فى اتخاذ القرارات والمواقف. * هم دون غيرهم أحوج ما يكون لضبط الحركة، ووعى الكلمة، ودقة الإيقاع، بعيدا عن إلهاب العواطف وإثارة المشاعر وخلط المواقف، لأنهم فى مركز الدائرة، والكل متربص يرميهم بالسهام، ويحصى عليهم الكلام، ويرصد عليهم الأفعال. * هم دون غيرهم أحرص ما يكون لاستكمال تحسين الصورة الذهنية عن الحركة الإسلامية محليا وإقليميا ودوليا، بعد عقود من التشويه والتضليل والكذب، مارستها أنظمة الحكم المستبدة الفاسدة بدعم غربى وشرقى لترويع الدنيا من الإسلام والإسلاميين. الليبراليون مكون أساسى للخريطة السياسية المصرية، له حضور إعلامى بارز، بل قد يكون مهيمنا، لكنه لم يحقق بجناحيه الليبرالى واليسارى وبأجياله القديمة والشابة نتائج جيدة فى الانتخابات السابقة، لاعتبارات عدة ترتبط بالصورة الذهنية السلبية لغالبية هذا التيار لدى الشعب المصرى، والرصيد السابق فى الانحياز لنظام الحكم المستبد الفاسد، والسلوك المتناقض الذى يعانيه هذا التيار عندما يتكلم عن حقوق الشعب ثم يتهمه بعدم النضج وغياب الوعى، بل ينقلب على خياراته الديمقراطية، ومنها غيابه الميدانى الدائم عن الشارع وهموم الناس، وإقامته الدائمة فى وسائل الإعلام المرئى والمكتوب والمسموع. لكن... * هم فى حاجة ملحة وفورية إلى تجنب ثقافة الإجهاد واستنزاف الجهود والطاقات والموارد والأوقات والتقدم ولو قليلا للمساحات المشتركة مع الإسلاميين دون شرط مسبق ومعطل. * هم مطالبون باحترام عقليات وإرادات وخيارات المصريين دون وصاية أو توجيه. * هم مطالبون للإعلان والاعتراف العملى بأن التحول السياسى يجب أن يخضع لآليات ديمقراطية لا لجولات الإعلام أو حملات التشهير. * عليهم قبل غيرهم احترام مرجعيات الآخرين، خاصة المرجعية الإسلامية، التى تتفق مع هوى وهوية لا شعب مصر فحسب بل شعوب المنطقة، والانتقال من مربعات المرجعيات لأنها خصوصيات لم ولن تهدر لمربعات المشروعات والمساحات المشتركة. * عليهم قبل غيرهم الكف عن ثقافة التشويه والتحريض والاستعداء المتكرر ضد الإسلاميين. * هم مطالبون بضبط ووضوح العلاقات الداخلية والخارجية، خاصة فى موضوعات التدريب والتأهيل والتمويل والتزام النظام العام والقانون، والتمتع بالحقوق وتجنب العقوق. * هم مطالبون بوضع الخطوط الفاصلة بين الجيل العلمانى القديم، الذى اعتبره البعض جزءا لا يتجزأ من النظام السابق، والجيل الجديد جيل الثورة والتغيير والأمل المنشود. الفلول "بقايا نظام مبارك" عدد ليس بالقليل يقفون على الخطوط الفاصلة دائما، لا يملكون فكرا سياسيا ولا مذهبا عقديا، شعارهم الغاية تبرر الوسيلة، هم شبكات المصالح من رجال المال الفاسد وكبار النافذين فى مؤسسات الدولة حتى الآن، خاصة المؤسسات السيادية والمؤثرة فى الشرطة والقضاء والإعلام والوزارات الخدمية المؤثرة، فضلا عن تجار السلاح والمخدرات والآثار، لا يعنيهم مبارك ولا مرسى ولا مصر، بل تعنيهم مصالحهم التى عُطلت، وأموالهم التى جُمدت، وملفاتهم التى فُتحت، وعلاقاتهم المشبوهة التى رُصدت. لكن.. ما زالوا يتحركون بلياقة غير مسبوقة فى المساحات والفراغات بين المربع الإسلامى والمربع الليبرالى، بل انحازوا مرات متكررة للمربع الليبرالى برغبته بل بدعوة معلنة منه، بدا هذا واضحا فى الانتخابات البرلمانية تارة، والرئاسية تارة، ثم الاستفتاء الأخير تارة أخرى ولن تكون الأخيرة. خلاصة الطرح.. من المتوقع ألا تتغير الخريطة السياسية كثيرا للبرلمان المقبل عن سابقيه، من المتوقع ألا تقل نسبة الإسلاميين عن 65%، وألا تزيد نسبة الليبراليين عن 30%، لاعتبارات سياسية واجتماعية وخدمية كثيرة لها تناول آخر، التحدى القادم ليس أمام البرلمان لكنه أمام الحكومة الحالية والمقبلة، وكل البرلمان ومؤسسات الدولة، التحدى فى التنفيذ المؤثر والفاعل، الذى يقدم الخدمات الملموسة التى تخفف الأعباء عن شعب عانى كثيرا وما زال، إذا كان التشريع مسئولية المئات سيبقى التنفيذ مسئولية مئات الآلاف، هذه هى المسألة.. حفظك الله يا مصر.