أخيرًا وبعد سنين وسنين أصبح لمصر أول دستور يكتبه المصريون بأيديهم عبر جمعية تأسيسية منتخبة من الأعضاء المنتخبين بمجلسى الشعب والشورى، وهى بذلك تصبح معبرة تعبيرا ديمقراطيًّا حرًّا ونزيهًا عن الإرادة الشعبية الحقيقية غير المزيفة ولا الوهمية، وقد حاول البعض النيل من الجمعية وأعضائها وعملها ومنتجها واختلقوا العراقيل والعقبات أمامها وتفننوا فى تشويهها عبر كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة لرغبتهم الحقيقية فى إفشال مشروع الدستور وإطالة أمد المرحلة الانتقالية وتصدير الأزمات المتتابعة للرئاسة والحكومة بل للوطن كله. وتناسى هؤلاء أن الشعب أوعى بكثير منهم ومن مخططاتهم، وأنه يدرك الأهداف الحقيقية لادعاءاتهم، وخرج الشعب للاستفتاء بصورة أذهلت العالم أجمع، على الرغم من حملات التشويه والتعويق المنظمة التى قاموا بها. إن منظر طوابير الناخبين الممتدة مئات الأمتار حول اللجان وحرص الناخبين على البقاء عدة ساعات للإدلاء بأصواتهم وحرصهم على الإدلاء بأصواتهم هو أعظم معبر عن مصر الثورة، وعن إحساس كل مواطن بقيمة صوته وقدره وحرصه على إعادة بناء مجد بلده من جديد. وعلى الرغم من ذلك استمرت مسيرة الشائعات والأراجيف وطالت اللجنة العليا للانتخابات التى يرأسها شيوخ القضاة وتدير عملها بنزاهة وتجرد عن أى مصلحة شخصية، وكان من أعجب ما قالوا إن بعض اللجان ليس بها أعضاء هيئات قضائية بل مدرسين أو محامين وفى النهاية منجِّدين، وهم يحاولون بذلك تشويه نتيجة الاستفتاء التى استشعروها من كثافة الحضور والحرص على الانتظار لساعات أمام اللجان منذ الساعات الأولى من الصباح الباكر. وجاءت النتيجة حاسمة من اللجنة العليا للانتخابات وبنسبة موافقة تقارب الثلثين وبعرض تفصيلى للتجاوزات والأخطاء التى حدثت واستبعاد اللجنة لكل صندوق شابته أدنى شائبة ومفندة للادعاءات الكاذبة لبعض المغرضين؛ إعلاء لقيم الشفافية والعدالة التى تحرص مصر كلها عليها. وعلى الرغم من خروج الملايين للإدلاء بأصواتهم وصبرهم ساعات طويلة فى طوابير أطول، نجد البعض يطالب بضرورة إسقاط الدستور شرطا للحوار أو مطلبا لتجاوز المرحلة الحالية، ويدعى أن ذلك فى صالح مصر وشعبها، وتناسى هؤلاء أن مجرد التفكير فى خطوة كهذه إهدار وتسفيه وتحقير لإرادة الشعب التى تعلو على كل إرادة، وفيها أيضًا دليل واضح وجلى على تغليب البعض لمصلحته الخاصة على المصالح العامة للبلاد، ويظن أنه القيّم على الشعب والوصى عليه. لنجعل من إقرار الدستور الجديد نقطة انطلاق نحو بناء مصر المستقبل وتحقيق تطلعات شعبها فى حياة حرة وكريمة، ولنتسابق فى هذا المضمار وليقدم كل منا جهده وعلمه فى هذا الاتجاه، أما محاولة اختلاق مسارات مستحيلة ووهمية للعملية السياسية أقل ما توصف به أنها "افتكاسات"، فهو أمر غير مقبول ويشتت الجهود ويضيع الوقت ويكشف عن نوايا أصحابه بعدم الاعتداد برأى الشعب وإعلاء قيمته وقدره. لنتسابق جميعًا على تحقيق آمال الشعب وطموحاته وفق برامج ورؤى وأطروحات تثرى الحياة السياسية المصرية، كل حسب اعتقاده الفكرى والسياسى، ولكن فى النهاية الجميع يصب فى صالح مصر وشعبها واستعادتها لمكانتها، وهذا فى الواقع ما افتقدته الحياة السياسية المصرية فى الآونة الأخيرة، حيث تفرغ البعض لانتقاد الرئاسة والإخوان والإسلام السياسى والشعب كله دون أن يقدم اقتراحا عمليا واحدا لحل مشكلة كبرى أو أزمة مستعصية، بل كانوا للأسف مصدرى أزمات وصانعى فتن. إن حق مصر وشعبها علينا أن نتوحد جميعًا، وأن نتكاتف وأن ننتقل لمربع آخر تمامًا غير مربع المناكفات السياسية، لننتقل إلى مربع العمل والإنتاج والتسابق فى حب مصر وإصلاح ما أفسده النظام السابق ونقدم الدراسات العملية والواقعية للحل وليست النظرية وحسب، فلقد سئمنا التنظير والتأطير ونريد والعمل ولا شىء غيره فى هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ مصر. إن هذا هو واجب الوقت ولا مجال لترف الخلافات الفكرية العقيمة التى يريد البعض جر البلاد نحوها، فلنجعل من إقرار الدستور نقطة البدء والانطلاق والتوحد نحو بناء بلدنا وتحقيق ما نصبوا إليه جميعًا لها ولشعبها، ولنصحح الأخطاء التى نرى ضرورة تصحيحها ونحن نعمل ونبنى لا أن نقف ونوقف البلاد والعباد حتى يتحقق لنا ما نرى أنه صواب، على الرغم من مخالفته الإرادة الشعبية، فهذا أمر غير مقبول ولا يهدف للبناء والتقدم ولكنه يصب فى خانة عرقلة البناء والتقدم بكل أسف. إن الواجب على جميع القوى السياسية الاحتكاك بالجماهير والسعى إلى حل مشاكلها بالتعاون فيما بينها، حبًّا لهذه الجماهير وليس خصمًا من رصيد خصومها السياسيين، فمصلحة مصر وشعبها أكبر من مصلحة أى فصيل سياسى أو محاولته إظهار قوة حجته وضعف خصمه، فليترفع الجميع عن صغائر الأقوال والأفعال ولنلتفت لعظائم الأفعال والأقوال. أحسب أن ما تحتاج إليه مصر هو إطلاق مشاريع قومية كبرى تتبناها القوى السياسية والحزبية لمساعدة الحكومة فى حل بعض المشكلات، وأن تكون جزءا من الحلول الواقعية للمشكلات الجماهيرية وألا تكتفى تلك القوى بموقف الراصد والمضخم والناشر لتلك المشكلات والمندد بها وبضعف الأداء الحكومى دون أن يقدم حلًّا لها. وهذا هو دورنا الآن إذا كنا نبغى مصلحة مصر، أن نبنى لا أن نهدم، وأن نجمع لا أن نفرق، وأن نوحد لا أن نشتت، وأن نتبرع لبلادنا لا أن نتكسب من آلام بلادنا، وأن نعلى الإرادة الشعبية لا أن نسفهها ونسعى إلى إهدارها. إن مصر المكان والمكانة والقدر والتاريخ والجغرافيا والإنجازات والطموحات والشعب والوطن والآمال والآلام تحتاج منا إلى كثير وكثير لإعادة مجدها وعزها وكرامتها فهل من مجيب؟! حمى الله مصر وشعبها ورئيسها من كل مكروه وسوء.